فسبازيان اللبناني
محمد رفعت الدومي
ماذا بقي من الربيع العربي؟ لا أدري، القليل أو ربما لا شئ، لكنَّ هذا
ليس مهمًا بالنسبة إلي من يعرف أن ما تحت السطح ربما يكون من دواعي سرور
الذين قد يدفعهم ما يبدو فوق السطح إلي اليأس والكآبة، المهم هو أنه
وثيقة تاريخية تؤكد أن شعوبًا جديرة بالحرية قد استطاعت أن تتحرر من
خوفها لبعض الوقت وترج وضعية الرسوخ والمراوحة التي كانوا يعتبرونها
مقدسة، نجحوا في تكرار هذا أو لم ينجحوا ليس هذا مهمًا أيضًا، لكن المهم
هو أنهم رسموا بالدم علي جدران ذاكرة الأرض الممتدة من المحيط إلي الخليج
معايير جديدة للعلاقة بين الإقطاعيين وعبيد الأرض سوف يرثها عنهم
المؤجلون، هذه المعايير معدية، ولقد أصابت “لبنان”..
لكن، للأسف، وبغض النظر عن تلك الذكريات التي أضافها مزيفون لا ضمير لهم،
وبما لدينا فقط من ذكريات صحيحة عن الربيع العربي، في استطاعتنا أن نحكم
مسبقاً بالهزيمة المؤكدة علي الثورة التي تتحسس الآن طريقها إلي “لبنان”،
لماذا؟
ببساطة، لأن النشطاء اللبنانيين إذا تركوا للذكريات وحدها أن تقودهم إلي
الميادين فإنها ستقودهم حتمًا إلي الميادين لكنهم لن ينجحوا في دخولها
أبدًا!
بمعني آخر:
إن محاولة استدعاء تجارب سابقة واستنساخها لإبداع ثورة يعتبر تهريجًا
ثوريًا من شأنه أن يصيب الثورة بالرتابة مبكرًا، ومن شأنه، بما لدي الطرف
الآخر من ذكرياتٍ عن الأساليب التي مورست لخرق الربيع العربي، أن يجعل
الالتفاف حولها وفرض العزلة عليها أمرًا يسيرًا!
لكل ذلك، يليق باللبنانيين أن يقفزوا فوق أخطاء الربيع العربي وأن
يبتكروا ثورتهم الخالصة، بأساليبهم الخاصة، ذلك أن الثورة في أبسط صورها
هي فن تجاوز الماضي وفن تجاوز ماضيها هي أيضًا، كل موجة من موجات الثورة
يجب أن تتجاوز كل موجة سبقتها من حيث الأسلوب دائمًا، ومن حيث الضراوة
عند الحاجة، في الماضي كان الناس يعتقدون أن الشرق والغرب والشمال
والجنوب هي إتجاهات واحدة دائمًا وفي كل مكان، ولو كان هذا صحيحًا لما
كان سؤال غرباء المسلمين الشائع عن اتجاه القبلة يدفع أحدًا إلي الاهتمام
بالرد، وهذا يسلمني بالضرورة إلي مقولة “هرقليطس” الشهيرة:
“إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين”
عند الحديث عن الثورة بشكل خاص يصبح لهذه المقولة وقعٌ شديد الخصوصية..
أقول هذا الكلام لأن كل من راقب الاحتجاجات اللبنانية لمس بالضرورة تأثر
المتظاهرين الشديد، والشديد الضرر أيضًا، بأساليب المصريين في يناير،
ربما لجاذبية ملحمة التحرير ونهايتها السارة، وبأساليب التونسيين أيضًا،
علي الرغم من أن قوة اللحظة التاريخية التي كانت في صالح المصريين
والتونسيين ليست الآن في صالحهم!
لمس بالضرورة أيضًا اندلاعًا مبكرًا جدًا للصراع بين الماضي والمستقبل،
فعما ساعات من اندلاع الاحتجاجات اندلعت بموازاتها المؤامرات عليها
ومحاولات تثبيطها، من هذه الناحية يمكننا القول أن الإقطاعيين اللبنانيين
تورطوا أيضًا في محاولة استنساخ الثورة المضادة، حذو النعل بالنعل!
فقبل أسبوع استبق رئيس جمعية تجار بيروت “نقولا شماس” إحدي فعاليات
الفصائل الثورية وعقد مؤتمرًا صحفيًا صرح خلاله في لهجة تهديدية من السهل
الآن أن نعرف من أين تهب تلك القوة في نبراتها المسلحة أن التجار لن
يسمحوا بضياع وسط “بيروت”!
وقبل أيام اشتبك بلطجية مسلحين مع بعض المتظاهرين وأصابوا عددًا منهم،
فما أشبه الليلة بالبارحة!
وكما هو معلوم من الدين بالضرورة كان لابد أن تلتهب فجأة حماسة فقهاء
السلطان ولا يفلتون فرصة عيد الأضحي قبل أن يقيموا في خطبة العيد سيركاً
دينيًا لاستعراض عضلات الدولة وفنون الطعن علي المتظاهرين، لعل بعضًا من
استربتيز مفتي طرابلس والشمال “مالك الشعار” من شأنه أن يختزل الأفق
الكامل لرسائل الأضحي الدينية إلي بسطاء اللبنانيين، قال:
“تمر بنا أيام الأضحى المبارك وبلدنا يسوده الهرج والمرج وتعمه الفوضى
وتغتال فيه القيم السياسية والإنسانية والإجتماعية وتارة الدينية، إن
مظاهر الفوضى تؤرق أمن الدولة والمجتمع والوطن والمواطنين، وهي غريبة عن
ثقافتنا وأخلاقنا وعيشنا الوطني، ولا أظن أنها ستحقق خيرا لمن صدق
إنتماؤه لوطنه، إنها مظاهر تتخذ من بعض الحقوق والمطالب معابر للخراب
والدمار وإستهداف المؤسسات لتعطيلها وتفشيلها وتحنيطها”!
هذا لا يعنيني، فأنا لا أهتم بالدوران حول هذا الروث البشري، كما أن
ذاكرة المصريين الآن مكدسة بتلك النكات عن الاستقرار وعجلة الإنتاج، بل
أقصد بالضبط، لا أدري أي سماء مزيفة يتحدثون باسمها، ما لا ينتابني الشك
في صحته هو أن سموات هؤلاء ليست سوي مراحيض تسكنها حشراتٌ ضارة لا آلهة
تستحق أن تعبد، وأن هؤلاء كائنات تعيش خارج النص الإنساني لا أدري كم
ثورة أخري يحتاجون ليفهموا أن مظاهر الفوضي لم تعد غريبة عن ثقافتنا
وأخلاقنا وعيشنا الوطني ولن تكون غريبة حتي تكتشف الحرية هذه البقعة
الرديئة من العالم..
أقصد أيضًا، أن الثائر شخص ملئ بأحلام الصباح، لكن الغالبية العظمي من
الذين يضمنهم الثائر أحلامه لا يستطيعون أن يستوعبوا تلك الرمزية الرائقة
في مفردة الثورة فضلاً عن بهاء الحرية، وهذه مشكلة كبري!
كان أهم ما امتص انتباهي وأنا أشاهد إحدي فعاليات اللبنانيين عقيد سابق،
أظن، بعد أن ألمح إلي حجم الفساد الذي كان شاهدًا عليه أثناء خدمته قال
لمراسلة قناة “mtv” مستنكرًا:
– كل زعيم بياخد نسبة من الزبالة.. مش عيب عليهم يلبّسوا حريمهم من زبالتنا؟
هذا التساؤل يسلمني بالضرورة إلي سؤال آخر:
– هل كان “فسبازيان” محقاً عندما فرض ضريبة علي المراحيض العمومية؟
عندما اختير امبراطورًا كان “فسبازيان” يقاتل اليهود في “فلسطين”، وعندما
عاد إلي “روما” كان قد ترك خلفه ذكري لا تزال قائمة حتي الآن، إنها مدينة
“نابلس” الفلسطينية فهو مؤسسها، بمرور الوقت اكتشف الرومان أنه كان
بخيلاً جدًا، مع ذلك، كان محبوبًا جدًا، لقد أخذ “روما” ومستعمراتها إلي
مرتفعات اقتصادية غيرمسبوقة!
كمل كان ابنه “تيتوس” هو السبب التاريخي لواحدة من أكبر موجات الهجرة
اليهودية إلي “أوروبا”، إنه هو من جعل الشتات اليهودي تعبيرًا ممتلئاً
جدًا، لقد دمر بلادهم تمامًا، اليهود لا ينسون هذا ولا يوازي “هتلر” من
حيث الكراهية في قلوبهم إلا “تيتوس”، لكن شيئاً دقيقاً للغاية ورقيقاً
للغاية علي الدوام يضيع، لقد وقع أثناء الحرب في حب أميرة يهودية عرفت في
أدبيات الرومان باسم “برنيس” لكن اسمها في أدبيات اليهود “برنيقة”، وأبي
إلا أن يصطحبها معه إلي “روما” كحبيبة وزوجة مؤجلة لا كأسيرة حرب، هذا
ملأ قلب أبيه حسرة وحزنًا، لكن، لحسن الحظ، أدرك ذلك العاشق في نهاية
المطاف أن النساء متشابهات فتخلي عنها من أجل السلطة..
عندما فرض “فسبازيان” ضريبة علي المراحيض العمومية اعتبر “تيتوس” تصرف
أبيه منافيًا للمروءة، وكان لديه من الجرأة قدرًا يكفي ليصارح أباه بهذا
الكلام، آنذاك، ضحك “فسبازيان” ضحكة سياسي وأعطاه بعض العملات الرومانية
وطلب منه أن يشمها، عندما استجاب “تيتوس” لطلبه، سأله بلهجة أبٍ:
– هل وجدت رائحتها كريهة؟
سؤال بسيط، وإجابته أبسط، لكنه المنطق الميكافيلي قبل أن يولد ميكافيلي،
والصحيح أيضًا، لم يكن”فسبازيان” بطبيعة الحال يعتقد أن ابنه قد بلغ من
السذاجة حدًا يظن معه أن العملة المحصلة من ضرائب المراحيض كريهة
الرائحة، لكنه أبٌ يمرِّن ابنه علي أساليب الحكم ويجهزه لوراثة مقعده،
وهذا ما حدث فعلاً..
من المضحك أن هذه القصة قد وقعت أحداثها بعد ميلاد المسيح بأقل من سبعين
سنة، مع ذلك، هي صالحة للإسقاط علي قصة وقعت أحداثها في لبنان قبل أسبوع،
تلك الرمزية السهلة الإدراك تصلح وحدها معيارًا للحكم علي كوميديا
السياسة في العالم العربي، إننا يا سادة لا نعيش خارج العالم فحسب، إنما
في عالم آخر، بمفاهيم أخري أهملهتا الإنسانية في مسيرتها نحو الرقي، مع
كل ذلك، ما زال ثمة من لا ينتابه الخجل حين يقول: مطالب الثوار معابر
للخراب، فليكن، مرحبًا بالخراب العادل!
ولأن الشئ بالشئ يذكر، تنتابني الآن رغبة في أن أسأل الأخ اللبناني إن
كان هو أيضًا يظن أن ملابس نساء الساسة في بلده كريهة الرائحة؟ أو يظن أن
أولئك الإقطاعيين يشعرون بالخجل حين يشترون لنسائهم أفخر الملابس بكل
نكهات بيوت الأزياء في العالم من حصتهم في عائدات النفايات؟
بالطبع لا، ولا نسائهم أيضًا يشعرن بالخجل من وجود علاقة بين ملابسهن
والنفايات، ما دامت أشياؤهن توازي علي الدوام آخر موضة من أشياء النساء
في العالم، وما دام “ديور” وغيره لن يشم رائحة كريهة في النقود..
إنهن، بوصفهن بنات عائلات إقطاعيات، لا يقمن لتقاليد البسطاء وزنأ، كل ما
تضعه إحداهن في بالها كخنجر في البال هو سعة الموجة من المعجبين التي سوف
تحدثها أناقتها عندما تطل في الحفلات أو زيارات دور الأيتام أو فعاليات
محاربة السرطان وغيره التي يتخذن منها ممرات نحو الشهرة الزائفة والنصب
علي البسطاء بأموال البسطاء؟
جدير بالذكر أن “ميا خليفة” أنثي متسقة مع ذاتها، متصلة الظاهر بالباطن،
لا تخدع أحدًا، ولا تسرق أشياء أحد، هي كما هي، خذ أو فدع، كل ما في
الأمر، حرة جاعت في وطنها فقررت أن تأكل بثدييها، و “من كان منكم بلا
خطيئة فليرمها أولاً بحجر”!
أود أن أقول في النهاية:
كان استنكار “تيتوس” اعتباطيًا وفي غير موضعه، استنكار بطعم الصدقة
المعلنة، هو أولاً وأخيرًا “فسبازيان” مؤجل، لم يدخل يومًا مرحاضًا
عموميًا، كان يجب أن يولد الاستنكار في حناجر ملح الأرض أنفسهم، هم
المعنيون فقط بكسر هذا الواقع، وهم المستفيدون من كبحه فقط، ربما يفاجئنا
يومٌ نصحح فيه واحدة من أهم مقولات الربيع العربي ونقول:
– بسم الله الرحمن الرحيم، الإجابة “لبنان”!
أنا، بصفة شخصية، أستبعد حدوث هذا، غير أن استئناف الربيع العربي من
“لبنان” قد يكون حدثاً من شأنه أن يعيد إلي الربيع العربي لياقته مرة
أخري، وإن لم يحدث هذا، سوف يظل عدم معرفة الإجابة الصحيحة في حد ذاته
تحديًا يستحق المحاولة تلو المحاولة للتوصل إليها!