سينما: فيلم المجهول – مهند النابلسي – الأردن
فيلم “المجهول” (Unknown): مؤامرات وأبحاث وانتحال شخصيات وغسل دماغ وجاسوسية الحرب الباردة في قلب برلين
ما أعجبني حقا في فيلم “المجهول” نبرة إيجابية (غير مسبوقة) في تناوله لسعي بعض الأثرياء العرب لتمويل مشاريع بحثية دولية ذات طابع إنساني.
فجأة نكتشف في آخر الشريط أن احتفالا عالميا سيعقد في أحد فنادق برلين الفخمة بمناسبة اطلاق مشروع بحثي عالمي يموله أمير سعودي بسخاء، ويهدف لإنتاج سلالة جديدة مبتكرة من الذرة التي تكافح مختلف الآفات والقابلة للتأقلم في معظم المناخات والأراضي الزراعية، ذلك بهدف القضاء على المجاعات العالمية.
ويعتبر هذا الفيلم من الأفلام النادرة التي تظهر الوجه المشرق للثراء العربي، وذلك عكس الصورة النمطية التي تظهر عادة الأثرياء العرب كمتخلفين واستعراضيين يعشقون النساء والبذخ المفرط ويهدرون الأموال بلا حساب على ملذاتهم.
يتناول الفيلم موضوع انتحال الشخصية بطريقة مبتكرة ومبهرة، مستعرضا مناخات حافلة بالتشويق والحركة ومطاردة السيارات والمفاجآت، على خلفية الزخم اليومي للحياة في مدينة برلين بأزقتها المزدحمة وساحاتها المغطاة بالثلوج ومحطات المترو والفنادق الفخمة.
عند وصول الدكتور مارتين هاريس (ليام نيسون) مع زوجته الجميلة اليزابيت (جانوري جوتس) للفندق الفخم لحضور مؤتمر عالمي في التكنولوجيا الحيوية، يفاجأ بأنه قد نسي شنطته وجواز سفره، فيعود من فوره عائدا للمطار. وأثناء الطريق تتعرض سيارة التاكسي التي تقودها جينا (المهاجرة البوسنية الحسناء) لحادث مريع يسقطها في النهر.
يتم إنقاذه بأعجوبة من موت محقق، ويفقد وعيه لأربعة أيام، وعند استرجاعه لوعيه في المستشفى، يكتشف لاحقا أن زوجته لا تتعرف عليه، بل إن شخصا آخر (ايدان كوين) قد انتحل ببراعة شخصيته كباحث في التكنولوجيا الحيوية. فهل أصبح مجنونا أم أن العالم قد انقلب رأسا على عقب؟ هكذا يجد نفسه داخل لغز عصي على الإدراك. وخوفا من الضياع والجنون يغامر لأقصى طاقاته للبحث عن هويته الحقيقية.
القصة شيقة ومترابطة ومتداخلة وحافلة بمفاجآت غير متوقعة، وتدور أساسا حول مؤامرة بارعة لاغتيال أمير سعودي اسمه شادا مع نخبة من علماء التكنولوجيا الحيوية المرموقين، وعلى رأسهم البرفسور شيسلر، وذلك لصالح الشركات الزراعية الاحتكارية العالمية وأجندات شريرة غامضة لا تريد أبدا التخلص من المجاعات العالمية بهدف جني الأرباح وتكديس الأموال.
يجسد ليام نيسون دور دكتور مارتين هاريس ببراعة ربما تفوق أداء هاريسون فورد في فيلم “الهارب” الشهير (الذي لعب فيه دور المطارد بتهمة قتل زوجته). وتبدو شخصيته هنا نموذجا للشخصية التائهة المضطهدة كما تظهر في أفلام المخرج الشهير رومان بولانسكي.
الفيلم يخطف الأنفاس ويبدو كخلطة سينمائية مثيرة ومتجانسة من عدة أفلام تحمل بصمات مخرجيين عظام مثل هيتشكوك (الذي يستعير منه شخصية ليز الشقراء الغامضة المطابقة لحد بعيد مع بطلة فيلم فيرتيغو الشهير). كذلك يستعير من اوريسون ويلز وجون فرانكهايمر أسلوب تناولهما للبحث عن الهوية والتعمق في أداء الشخصيات الثانوية التي بدت هنا أيضا تائهة تبحث عن هويتها ومبررات وجودها ومسالك النجاة. كما أن الفيلم يتضمن حبكة معقدة تشابه الحبكة في أفلام رائعة كدافينشي كود والاستهلال.
الشريط يبقيك كمتفرج طوال الوقت على نفس الدرجة من الإثارة وبدون تراجع، وينقلك بسلاسة من حدث لآخر، حيث يتفوق المخرج جاومي كوليت سارا، والمصور الفذ فلافيو لابيانو، في دمج الحركة والمطاردات مع النسيج المعماري لأزقة وشوارع وساحات ومحطات ونوادي برلين الصاخبة، مما أدى بالمحصلة لإخراج مشاهد ممتعة تعج بالطاقة والحيوية .
يستعير المخرج أجواء الحرب الباردة عند تناوله لشخصية المحقق (عميل الستازي السابق)، التي تقمصها ببراعة برونو جانز (الذي ابدع في تقمصه لشخصية هتلر في فيلم السقوط)، والذي ينتحر هنا أيضا بالسيانيد. كذلك يظهر ممثلون مشهورون في أدوار مؤثرة كفرنك لانغيلا (بطل فيلم فروست نيكسون)، وسبيستيان كوخ (بطل فيلم الأوسكار حياة الآخرين)، مما أعطى الفيلم بعدا دراميا غنيا وحوله لتحفة سينمائية. وأظهرت الممثلة ديانا كروجر (بطلة فيلم أوغاد شائنون) موهبة خاصة في تقمصها لشخصية سائقة التاكسي التي تعاني لكونها مهاجرة بوسنية غير شرعية، وأعطت للفيلم نكهة خاصة.
كذلك فالسيناريو هنا مترابط ويتميز بغنى وتنوع الشخصيات وتنوع الأدوار، وهو يمثل نموذجا لأفلام التشويق والحركة التي أرجو أن تستفيد منه السينما العربية. كما أن الفيلم الذي يستند لرواية من تأليف ديدير فان كاوبلارت يبدو استعراضا سينمائيا مبهرا لقضايا العولمة من حيث تناوله لمواضيع الساعة كالمجاعات والتكنولوجيا الحيوية والمهاجرين غير الشرعيين، وقصص جواسيس الحرب الباردة المتقاعدين، وأبحاث غسل الدماغ وانتحال الشخصيات، ومن ثم أساليب تجنيد وتدريب القتلة المأجورين، صاهرا كل هذه الأحداث في مدينة عالمية ساحرة اسمها برلين.
أما ما يميز هذا الشريط عن غيره من أفلام الأكشن والتشويق فكونه خلطة مثيرة متداخلة من التشويق والحركة تنصف الأثرياء العرب، عكس الصورة النمطية السائدة.