روايات الفلسطينيين حول النكبة: يسرا أحمد سنونو ودرس التهجير
ظاهرة فلسطينية
بقلم: د. فيحاء عبد الهادي “الناس كانت تقول: بدنا نطلع من بلادنا نتهجَّر يا سبع أيام يا سبع أشهر يا سبع سنين، آخر حدّ سبع سنين، وهاي إحنا طلعنا ولجأنا على طول بأبوسنان، وما رجعنا. بس شو ما عملت الدولة ما راح نطلع من أبوسنان. أنا جرَّبت التهجير مرَّة وَحدة، وغير مستعدة أجرّبه كمان مرّة، يعني إسَّا تقوم القيامة ولا حدا بطلع من بيته؟”.
يسرا سنونو/الكويكات
*****
حين يروي الفلسطينيون حكاياتهم الفردية، عام النكبة، العام 1948: ماذا حدث، وكيف حدث، وبأية أدوات حدث؛ فإنهم يساهمون في كتابة الرواية الفلسطينية الجماعية، في مواجهة الرواية الصهيونية المضلِّلة.
*****
ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟
تصف “يسرا سنونو” – المهجَّرة من قرية الكويكات/ الجليل/ عكا، وتقيم في قرية أبو سنان/ الجليل/ عكا – ما حدث يوم التهجير، معها ومع أهل قريتها، حيث استخدمت عصابات “الهاجاناة” أبشع الأساليب لإثارة الرّعب؛ من أجل تنفيذ مخطط التطهير العرقي، على يد القيادات الصهيونية:
“كانت الناس نايمه، على وجه الصبح، أجوا (الهاجاناه)، ما ضلّ حدا بالبلد، اللي ضلّوا بقراته، واللي ضلّوا طرشياته، وطلعت العالم على أبوسنان. أول إشي طلَّعوا المخاتير وقامت البلد وراهم، طفّات طفّات. حوَّطوا البلد داير فتِل وخلّوا لنا الشرق، طِلعت الناس؛ وَحدة نسيت ابنها وحملت المخدة، ولما وصلت هون وين اوشرات (مستوطنة) اليوم، التفتت هيك ورفعت الحرام وشافت مخدّه، صرخت: جبت المخدة وتركِت الولد، رجعت جابت الولد ورمت المخدة. فكرك كانت سهلة على العالم؟! الناس كانت إجريها أعلى من راسها. الناس إرتعبت وخافت كتير. اللي بقلك ماكنش خوف تصدقهمش”.
كما تصف مقاومة أهل القرية، والقرى المجاورة، رغم قلة عددهم وعتادهم: “هجموا بالليل، وهجموا على عمقا ورانا، قعدوا أهل عمقا يقاوموا، عملوا دوريات حوالي البلد دشّروهم لتاني ليلة، وتاني ليلة أجوا عليهم من المغرب، وع الصبح كانوا بالوعر، دشّروا البلد. وأهل بلدنا كانوا حاملين سلاح، وكانوا واقفين على ذيال البلد حرس، كانوا قلائل. لما اجت اليهود بالليل وصاروا يطخّوا، الحرس هجّ قبل الناس. كل البلد طلعت مع بعضها مثل اللي رايحين على عرس”.
وتتحدَّث عن تفاصيل رحلة التهجير الأليمة، حين وصلت إلى لبنان مشياً على الأقدام: “رحلنا ع لبنان مشي، ومعانا أولاد صغيرة، إحنا طلعنا مع أبوي على جت (قرية في الجليل الأعلى)، وبعدها طلعنا على لبنان، هون نقوم وهون نقعد، ثلاث أيام حتى وصلنا؛ بليله أجينا على الرميش (قرية جنوب لبنان)، بالرميش بتنا ليله، وصلنا المغرب وبتنا للصبح، الصبح الساعة سته في باص بفرّ على كل المنطقة، بنزِّل الناس بالمحطات، إحنا ركبنا فيه من الساعة ستة، ورحنا على بلد أمي، ع المجادل، بالمجادل نزّلونا بأرض واطي ع الشارع وبتطلعي على السناسل، طلعنا ماشيين، بتنا هناك شهر، ولما صار شهر الهدنة روّحنا وما عدنا رجعنا”.
ويلفتنا إصرار “يسرا” وعائلتها المستميت على العودة. ورغم أنهم لم يعودوا إلى الكويكات؛ لكنهم عادوا إلى قرية أبو سنان المجاورة: “لما خلص الشهر، حياة أبوي قال: بدنا نرجع على أبوسنان. رجعنا من لبنان ماشين على البلد، ضبّينا القمحات، إشي ضبيناه وإشي ضلّ على البيادر. ضلينا نمشي لجت، بجت قعدنا تحت الزيتون من الشرق عند البركة حوالي شهر، مش بس أهل الكويكات، كانوا كمان أهل عمقا والمزرعة وأهل السميرية اللي كانوا بالأول عنا بالكويكات، طلعوا معنا. كثير كثير ماتت أطفال وكبار بالطريق، كثير تشحشطنا وأكلناها بهدلة وإهانة”.
روت “يسرا سنونو”، عن حياتها المريرة، زمن التهجير، حيث المعاناة المريرة؛ الاقتصادية والنفسية؛ الأمر الذي جعلها تتمنى لو لم تهجَّر خارج قريتها، حتى لو كان التهجير إلى قرية مجاورة: “كيف قضّينا الحياة؟! بالقلة وبشحشطة ومحمطة، خليها على الله. كنا نروح على الزيتون. هذا الزيتون كلّه للمشايخ، نروح والسلة بأيدنا من أبوسنان من فوق، وبعدها نروّح ننقط ميّ، وبعدها يبعتوا لنا نروح نغسل الزيتون من الوحلة، شو بدك أحلى من هيك! إحنا العيشة اللي لحقتها أجيالنا ما حداش لحقها، ما حداش لحقها”.
*****
حين تروي “يسرا سنونو”، ما حدث بعد وصولها إلى أبو سنان؛ تتّضح ملامح مؤامرة التهجير المستمرة، التي خططت لها الحركة الصهيونية، ونفَّذتها عصابات “الهاجاناة”، بمساعدة بعض العملاء، من أهل البلاد: “لما طلعنا على أبوسنان وكثرت الناس فيها، قاموا المشايخ قالوا للحاكم العسكري إنه إحنا بلدنا صغيرة، وما بتقدر تعيّش اللاجئين اللي طلعوا، أهل عمقا والكويكات وأهل السميريه. قالهم الحاكم العسكري: وينتا بدكو منكبّ اللاجئين، منقيمهم من البلد عندكو، قالوا لهن: كبّوهم. بالليل على الساعة خمسة، ما شفنا غير السيارات وقفت مقبّعه بشوادر خضرا، صاروا يدخلوا على البيت، اللي إله خاطر واللي ما إله خاطر، صاروا يحمّلوا ويحطّوا بالسيارات، ضلّوا للصبح لما عبّوا السيارات وأخذوهم على مَفرق جنين، حطّوهم بين (إسرائيل) وبين جنين، كانت جنين مع الأردن يومها، هناك كبّوا الناس؛ ثلاث أشهر الناس غابت وبرمت، اللي ضلّ بالأردن ضلّ، واللي ضلّ بلبنان ضلّ، واللي ضلّ بسورية ضلّ، واللي إله حدا هون رجع. إحنا كان فيه خطر علينا ننكبّ مثلنا مثلهم، كان أبوي يشتغل عند المشايخ، أجا الشيخ وقاله: يا أبو محمود، بتيجوا الصبح حتى تطلعوا البقر وتروحوا فيه على المونة، الصبح (الهاجاناه) بدهن ييجو يكبّوا اللاجئين، قاله أبوي: بدك أطلع لك البقر، وشو مع البنات؟ إحنا كنا ثلاث بنات وأختي المتجوّزة معنا، قاله: البنات عليهم الله مثل ليّا وريحانه، هدول بناتي، قاله: الصبح وانت جاي تطلّع البقر بتجيب البنات على الدار. طلِعنا إحنا وأبوي وسكّرنا المحل، ورحنا عند المشايخ، قعدنا وما طلع النهار واللاّ الجيش مملّي البلد بدهن يكبّوا كمان نقلة.
الله وأكبر شو صار سنتها شتا ما كبّوا لاجئين يومها! واللي ضلّ بأبوسنان ضلّ واللي انكبّ انكبّ. أهل مَرة اخوي كبّوهم، وبقيت هي وبنتها الصغيرة لحالهم وستها وسيدها، وبعد ثلاث أشهر رجعوا”.