بوتن وتعزيز الشراكة مع نتنياهو
عبداللطيف مهنا
ليست لقلة فطنة، ولا مبعثها جهالة سياسية، وإنما هي من اعراض بلوى الوهن العربي، هذا الذي وكأنما لابد وأن يلازمه اغفال لامعقول لإدراك ابسط حقائق العلائق بين دول المنظومة الكونية، وفي كل حالاتها، العدائية والتحالفية والمابينهما. اولاها، ونكتفي يها في هذه العجالة، أنه ما من سياسة خارجية خيرية، وإنما ما تحددها المصالح أولاً وتالياً وأخيراً. وهى إن لبست احياناً، أو اُلبست غالباً، ثوباً ايدولوجياً ما، فقد تسارع لخلعه حين يلزم الأمر كما تخلع الحية جلدها، أي تبقى مصالحها هي ثابتها الوحيد.
ما تقدم ينعت تلطيفاً بالبراغماتية، وهذه بلغة ما يعرف ب”المجتمع الدولي”، أو ما يعني واقعاً وفعلاً في السياسة الكونية الغربي، لا من ترجمة لها سوى ما هو النقيض لكافة ما يرفعه من شعارات ويافطات مزعومة حول القيم والمواثيق والمبادئ والحقوق الإنسانية، وصولاً إلى التجرُّد غالباً من كل ما يمت للأخلاقية بصلة…أو هاته التي لايتعلق بقشتها عادةً سوى الضعفاء وحدهم ولطالما كانت تخذلهم، وليس هذا فحسب، بل تتحول ذرائعاً غب الطلب تُستخدم انتقائياً للبطش بهم لإخضاعهم والهيمنة على قرارهم ومقدَّراتهم.
نقول هذا ونستدرك بأن الموضوعية تستوجب منا الإشارة إلى أن الأمور هنا تظل نسبية، كما لاتجوز مساواة غير الغرب بهذا الغرب، لكنما يجوز الجزم بأننا إزاء سمة دولية، ومن هنا ندلف إلى ما نحن بصدده والذي كان مدعاة لاستهجان بعض العرب، وهو هذه الوصلة الدفئوية في العلاقات الروسية الصهيونية التي طبعت طقوس ومراسم احتفالية الكرملن بمرور 25 عاما على العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين، ومظهر تحويلها إلى موسم سياسي واقتصادي لخصه نتنياهو، الحال ضيفاً مرحباً به لثلاث أيام حافلات بدفىء المناسبة، ب” العديد من الاتفاقيات المهمة في مجالات الطاقة والزراعة والمعاشات التقاعدية، والحفاظ على الحقوق الاجتماعية والتسوية الجمركية”، ولدرجة أن تصدح صحيفة “إسرائيل اليوم” النتنياهوية الهوى بأن “شبكة العلاقات بين تل ابيب وموسكو في حالة ازدهار غير مسبوقة”، وأن تنوه بأن هذه العلاقات ومع قوة عظمى كروسيا تعد “ذخراً استراتيجياً حقيقياً” بالنسبة للكيان الصهيوني.
في التفاصيل، ما هذا إلا غيض من فيض سبقه. صادرات الكيان لروسيا تصاعدت خلال العامين الأخيرين، والتبادل التجاري فاق الثلاث مليارات، وتعاون في كافة مجالات ما تدعى التكنولوجيا الرفيعة أو المتقدمة ومنها العسكري، أما المستجد فيعني المزيد من انفتاح الأسواق الروسية للبضائع الصهيونية، والأمر مثله بالنسبة للسياحة الروسية إلى الكيان، إلى جانب انصباب الأموال الناجمة عن تعويضات ومعاشات تقاعد لمئات الألوف من يهود السوفيت الذين هجروا بلادهم وانهالوا على فلسطين المحتلة وبينهم ما يقارب الثلاثين الفاً من المتهوِّدين الزائفين الذين لم يبت الحاخامات حتى الآن في يهوديتهم، وبهم تعززت عملية تهويد فلسطين، وليبرمان واحد منهم…أهو مكافئة لهم على تركهم لبلادهم لاستعمار بلاد الآخرين؟! وأخيراً، ما يقال عن وعد روسي بعدم تزويد العرب بصواريخ إسكندر.
إنه لا من غرابة في هذا، خصوصا إذا ما استحضرنا زيارة بوتن لفلسطين المحتلة وتذكًّرنا تصريحاته آن ذاك، وإذا ما عرفنا أنه ونتنياهو التقيا للمرة الرابعة خلال عام والثانية فيما هو اقل من شهرين، وسبق هذه الأخيرة كرماً روسياً أعاد للكيان دبابته التي اسرها الجيش العربي السوري في معركة السلطان يعقوب في لبنان 1982 واهداها السوريون للأصدقاء السوفيت في حينه، الأمر الذي وصفه نتنياهو وهو يتفقد هذه الدبابة في متحف الدبابات الروسية باللفتة التي تستحق الإشادة…وكله مفهوم ولأمرين:
الأول، أننا إزاء روسيا البراغماتية والأقرب منها إلى روسيا القيصرية منها الى السوفيتية التي اعتدناها سابقاً، بمعنى القوة العظمى التي جار عليها الزمن وتحن إلى أيامها الخوالي، و تسعى لاستعادة دورها الكوني الغابر الذي افتقدته بإفول الاتحاد السوفيتي، لكن دون مبادئه أو مواقفه…بهذا فحسب اختلفت عن بقية ايتام السوفيت في شرق أوروبا، لكنها اتفقت معهم على أهمية المعبر الصهيوني إلى الغرب. هم باعتباره اسهل الطرق للارتماء في احضانه، وهى، وإذ تعلم، ومنذ القياصرة، أن هذا الغرب لن يحتضنها ولن يتركها وشأنها أو يكفيها شره، تأمل في هذا الممر ميسراً لنوع ما من الشراكة مع هذا الكاره لها قد يكفيها بعض أذى مقاطعتة ويستدر الاستثمارات الصهيونية، إلى جانب أن في توثيق العلاقة مع الكيان الصهيوني ما قد يسهِّل لها استعادة تأثيرها في منطقة لم تعد اكثر أنظمتها ترى فيه عدواً. إنه الأمر الذي التقطه الصهاينة ملوِّحين بجزرة الدور الموعود والوسيط المستقبلي في انعقادات بازارات التسوية في مسلسل عروض التصفية للقضية الفلسطينية، لكن مقابل تفاهمات تنسيقية بين جيشيهما في سورية، وتطمينات روسية بمحدودية التقارب مع الإيرانيين وعدم الذهاب أكثر في العلاقة معهم.
…قبل مغادرته موسكو وضع نتنياهو النقاط على حروف حصاده الوفير: ” روسيا غدت صديقة وهى ليست بديلاً لاميركا”، وعاد بأكثر من اشادة بوتن بما دعاه “جهوداً مشتركةً” لمواجهة الإرهاب مضيفاً: “وإسرائيل تعرف معنى ذلك حق المعرفة، وتكافح الإرهاب، ونحن حليفان في ذلك بلا شك، ويراكم بلدانا خبرة كبيرة في مجال مكافحة التطرف، ونحن سنعزز الاتصالات في هذا المجال”…لم يقل لنا بوتن أي إرهاب يكافحه الكيان الصهيوني، وأي تطرًّف يواجهه وزير حرب معتدل من امثال ليبرمان؟! وهل ثمة ما يعنيهم سوى المقاومين للاحتلال الصهيوني؟!