نصف الكوب الفارغ- معين الطاهر
بدعوة كريمة من آل قعوار في عمّان، وفي باحة منزلهم، أُتيح لي حضور فيلم
(Open Bethlehem)،
وتروي فيه مخرجته التلحمية، ليلى صنصور، قصة مدينتها، داعيةً، وكما هو جلي من اسمه، إلى فك الحصار الإسرائيلي عن المدينة التي يطوّق الجدار الصهيوني العازل جهاتها الأربع.
لستُ ناقداً في السينما لأعرض رؤية نقدية فنية للفيلم الذي استغرق إعداده اثنتي عشرة سنة، تابعت ليلى فيها كيف أطبق الحصار على المدينة وخنقها، وقضى على السياحة فيها، إلا من بضع باصاتٍ تتبع شركات إسرائيليةٍ، وتأتي على عجلٍ إلى باحة كنيسة المهد، حيث ولد السيد المسيح، ليقضي السياح أقل من ساعةٍ فيها، ويغادروها من دون أن يعرفوا أنهم كانوا في جزء عزيز من فلسطين. لكن دقة التصوير، ووضوح الصورة وجمالها المستمد من جمال بلادنا، وقدرة لقطاتها على شرح مضمونها ورواية حكايتها، من دون جهد حواري مصطنع، أمر يلفت نظر المشاهد العادي مثلي.
اللافت أيضا أن الفيلم ليس مشهداً عابراً يروي حكايته ويمضي، بعد أن يُعرض في هذا المهرجان أو ذاك، محاولاً حصد جائزةٍ من هنا أو من هناك، بل هو جزء من رسالة مستمرة، قام بها بنات بيت لحم وأبناؤها من أجل إحيائها، وفك الحصار عنها، وتعزيز مقوّمات الصمود فيها، وجعل المواطنة الرمزية فيها لكل المؤمنين برسالتها، عبر إصدار جواز سفر رمزي باسم “جواز بيت لحم”. وذلك كله بمبادرتهم الشخصية ومواردهم المحدودة، بعد أن أغلقت في وجوههم كل الأبواب.
ثمّة إشكاليةٌ دائمةٌ تصاحب الحوار التي يعقب عرض الأفلام بحضور صانعيها، إذ يتفذلك بعض المحاورين فيُحملون فيلماً له هدف محدد، وتدور أحداثه ضمن دائرة محددة، مسؤولية القضية الفلسطينية من بدء الخليقة وحتى يوم القيامة. لا شك أن ثمة مضمونا سياسيا يتحكّم في كل عمل ويوجّهه، لكن الفيلم مثل القصة والرواية وقصيدة الشعر ليس كتاباً للتاريخ، هو يعالج جانباً منه ضمن منظور إبداعي. أمس، وفي جانبٍ من هذا الحوار، قال أحدهم إن الفيلم يهمل أساس القضية الفلسطينية وضرورة تحريرها من النهر إلى البحر، بتركيزه فقط على بيت لحم وحصارها وحزام المستوطنات الصهيونية من حولها.
كانت ليلي صنصور محظوظةً، لأن أحداً من الحاضرين لم يتهمها بالتفريط في القضية الفلسطينية، كما فعلت إحداهن حين اتهمت مخرج فيلم “خمس كاميرات مكسورة”، (كسرها جيش الاحتلال في اثناء التصوير) بأن فيلمه يخدم رئاسة الأركان في الجيش الصهيوني! بحجة أنه وعبر تركيزه على الاستيطان والجدار العازل يستبدل القضية الفلسطينية بالتركيز على هذه الجزئية. ألا يستدعي مثل هذا المنطق أن نطالب محمود درويش أو إلياس خوري بأن يُضمّن الأول قصيدته والثاني روايته كل التاريخ الفلسطيني منذ الكنعانيين، وربما اشترط بعضهم أن تعرّج القصيدة والرواية والفيلم على الثوابت الوطنية كلها، وبنود الميثاق القومي معها، مع قسم غليظ بالتمسك بها، على أن يتكرّر القسم بين فقرة وأخرى.
مؤسفٌ أن مثل هذا الجدل شائع في الوسط السياسي، فقبل أيام، كنت أستمع إلى محاورة قيمة حول دور الجاليات في دعم القضايا العربية، وما أن أنهى المحاضر حديثه، حتى ألقى علينا أستاذ جامعي نصائحه بمقاطعة حركات مقاطعة العدو في الخارج، لأنها لم تُضمن برامجها تحرير كل فلسطين، معتبراً أنها حلقة تستهدف إلهاءنا على طريق تصفية القضية الفلسطينية.
وفي بحثٍ أُجريه حول المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني، فوجئت بكم النقد الذي يصل إلى حد التخوين لمن يؤيد أو يدعو إلى مقاطعة منتجات المستوطنات في الأسواق الغربية، أو إلى مقاطعة الاحتلال، أكاديمياً وسياسياً، حتى زوال احتلاله عن الأراضي المحتلة منذ 1967، أو يعترض على سياساته العنصرية ضد أهلنا في المناطق المحتلة من فلسطين سنة 1948، معتبرين أن مثل هذه الدعوات منقوصة، وتشوّه حقيقة القضية الفلسطينية، وتصب في اتجاه تكريس اغتصاب فلسطين، وتعطي شرعيةً لاحتلال قسمٍ منها، طالما أنها لا تتكلم صراحة عن تحرير كل فلسطين، بدلاً من اعتبارها جزءاً، ولو بسيطاً من نضال شعبنا وأصدقائه، ومساهمة في إضعاف العدو وعزله، وإضافةً إلى جبهة الأصدقاء.
يهدم هذا النقد ولا يبني، ويُنقص من الجهد ولا يراكمه. وهي نظرة عاجزٍ لا يرى في الكوب إلا نصفه الفارغ. وقعقعةٌ ممن هم خارج دائرة الفعل لا تؤدي إلى طحنٍ، ولا تُراكم إنجازاً. ذلك أن تحقيق إنجازات جزئية، وخصوصاً في مثل هذه المجالات لا يستدعي أو يتطلب التخلي عن الثوابت الوطنية والمواقف المبدئية، بقدر ما يعزّزها ويجعلنا أكثر تمسكاً بها، أما اليأس والشعور بأننا وحدنا، وأن العالم بأسره يقف ضدنا ويتآمر علينا، فهو المقدمة الضرورية للتخلي عن ثوابتنا.