الشهيد الأديب غسان كنفاني – أم سعد
في مثل هذا اليوم اغتال الصهاينة المبدع الشهيد اديبنا المعلم الكبير غسان كنفاني في بيروت سنة 1972 .
المجد لغسان والنصر لشعب فلسطين …
ثقافة المقاومة التي كان غسان راس حربتها ستبقى هي السائدة بالرغم من اننا نعيش في زمن الخراب والفساد والغاء العقل …
أم سعد
أم سعد تقول :
خيمة عن خيمة تفرق !
رواية غسان كنفاني
أم سعد ، المرأة التي عاشت مع أهلي في “الغبسية ” سنوات لا يحصيها العد ، والتي عاشت ، بعد ، في مخيمات التمزق سنوات لا قبل لأحد يحملها على كتفيه ، ما تزال تأتي لدارنا كل يوم ثلاثاء : تنظر إلى الأشياء شاعرة حتى أعماقها بحصتها فيها ، تنظر إلي كما لابنها ، تفتح امام أذني قصة تعاستها وقصة فرحها وقصة تعبها ، ولكنها أبداً لا تشكو .
إنها سيدة في سن الأربعين ، كما يبدو لي ، قوية كما لايستطيع الصخر ، صبورة كما لا يطيق الصبر ، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهاباً ، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنتزع لقمتها النظيفة ، ولقم أولادها .
أعرفها منذ سنوات . تشكل في مسيرة أيامي شيئاً لا غنى عنه ن حين تدق باب البيت وتضع أشيائها الفقيرة في المدخل تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق ، ببؤسها وآمالها ، ترتد إلى لساني غصة المرارة التي علكتها حتى الدوار وراء سنة .
آخر ثلاثاء جاءت كعادتها ، وضعت أشياءها الفقيرة واستدارت نحوي :
– يا ابن عمي ، أريد أن أقول لك شيئاً . لقد ذهب سعد .
– إلى أين ؟
– إليهم ؟
– من ؟
– إلى الفدائيين .
وسقط صمت متحفز فيما بيننا ، وفجأة رأيتها جالسة هناك ، عجوزاً قوية ، اهترأ عمرها في الكدح الشقي . كانت كفاحها مطويتين على حضنها ، ورأيتهما هناك جافتين كقطعتي حطب ، مشققتتين كجذع هرم ، وعبر الأخاديد التي حفرتها فيهما سنون لا تحصى من العمل الصعب ، رأيت رحلتها الشقية مع سعد ، مذ كان طفلاً إلى أن شب رجلاً ، تعهدته هاتان الكفان الصلبتان مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية ، والآن انفتحتا فجأة فطار من بينهما العصفور الذي كان هناك عشرين سنة .
– لقد التحق بالفدائيين .
وكنت ما ازال انظر إلى كفيها . منكفئين هناك كشيئين مصابين بالخيبة . تصيحان من أعماقها تطاردان المهاجر إلى الخطر والمجهول .. لماذا ، يا آلهي ، يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن ؟ لأول مرة أرى ذلك الشيء الذي يصدع القلب على مرمى كلمة واحدة مني ، كأننا على مسرح اغريقي نعيش مشهداً من ذلك الحزن الذي لا يدواى .
قلت لها ، محاولاً أ ن أضيعها وأضيع نفسي :
– ماذا قال لك ؟
– لم يقل شيئاً . ذهب فقط ، وقال لي رفيقه في الصباح أنه ذهب إليهم .
– ألم يذكر لك قبلاً أنه سيذهب ؟
– بلى . قال لي مرتين أو ثلاث مرات أنه ينوي الالتحاق بهم .
– ولم تصدقي آن ذاك ؟
– بلى . صدقت . أن أعرف سعد ، وقد عرفت أنه سيذهب .
– فلماذا إذاً فوجئت ؟
– أنا ؟ لم أفاجأ . إنما أعلمك بالأمر . قلت لنفسي : قد تكون ترغب في معرفة أخبار سعد .
– ولست حزينة أو غاضبة ؟
وتحركت كفاها المطويتان في حضنها ، ورأيتهما جملتين قويتين قادرتين دائما على أن تصنعا شيئاً ، وشككت ان كانتا حقاً تنحوان ، وقالت :
– ” لا . قلت لجارتي هذا الصباح : أود لو عندي مثله عشرة . أنامتعبة يا ابن عمي . اهترأ عمري في ذلك المخيم . كل مساء أقول يا رب ! . وها قد مرت عشرون سنة ، وإذا لم يذهب سعد ، فمن سيذهب ؟ “
وقامت ، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة . بدت الأشياء أكثر ألفة ، ورأيت فيها بيوت الغبسية مرة أخرى ، ولكنني لحقت بها إلى المطبخ ، وهناك ضحكت وهي تنظر إلي ، وأخبرتني .
– ” قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي آنذاك في الباص ان ولدي أضحى مقاتلاً ( بدا صوتها ، بلا ريب ، مختلفاً ، ولذلك تذكرا ) قلت له أنني أحبه وسأشتاق له ، ولكنه جاء ابن أمه ..
أتعتقد أنهم سيعطونه رشاشاً؟ “
انهم يعطون رجالهم رشاشات . دائماً .
– ” والطعام ؟ “
– يأكلون كفاية ، وكذلك يعطونهم السجاير .
– ” ان سعد لا يدخن ، ولكنني متأكدة أنه سيتعلم ذلك هناك . يا نور عيني أمه ! أود لو كان قريباً فأحمل له كل يوم طعامه من صنع يدي ” .
– يأكل مثل رفاقه .
– “اسم الله عليهم جميعاً .”
وصمتت لحظة ، ثم أدارت وواجهتني :
– ” أتعتقد أنه سينبسط لو ذهبت فزرته ؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق ، وأذهب يومين إلى هناك .”
وتذكرت شيئاً ، فأكملت :
– أتدري ؟ ان الأطفال ذل ! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به . لسكنت معه هناك . خيام ؟
خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم ، طبخت لهم طعامهم ، خدمتهم بعيني .
ولكن الأطفال ذل .”
قلت لها :
– لا ضرورة لأن تزوريه هناك ، دعيه يتصرف وحده .
ان الرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج ، بعد ، إلى رعاية أمه .
ونشفت كفيها بمريولها ، وعميقاً في عينيها رأيت شيئاً يشبه الخيبة : تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها أم ما أنه صار بالوسع الاستغناء عنها ، انها طرحت في جهة ما كشيء استهلكه الاستعمال .
ودنت مني تقول :
– ” أتعتقد ذلك حقاً ؟ أتعتقد أنه من غير المفيد أن أذهب إلى رئيسه فأوصيه به ؟ “
وتحيرت قليلاً . مستشعرة التمزق ينهكها ، ثم سألت :
– ” … أم تراك تستطيع أنت أن توصي رئيسه به؟ تقول له : دير بالك على سعد . الله يخليلك ولادك “
وقلت لها :
– كيف ؟ ان أحداً لا يستطيع بالفدائي .
– ” لماذا ؟ “
– لأنك أنت تقصدين أن يتدبر رئيسه الأمر بحيث لا يعرضه للخطر . أما سعد نفسه ، ورفاقه ، فيعتقدون أن أحسن وصية بهم هي ان يرسلوا على الفور إلى الحرب …
ومرة أخرى جلست هناك ، ولكنها بدت قوية أكثر مما رأيتها أبداً ، وراقبت في عينيها وكفيها الخشنتين حيرة الأم وتمزقها وأخيراً قر رأيها :
– ” أقول لك ، لتكن توصيتك به إلى رئيسه أن لا يغضبه قل له : أم سعد تستحلفك بأمك أن تحقق لسعد ما يريد . انه شاب طيب ، وحين يريد شيئاً لا يتحقق يصاب بحزن كبير . قل له ، دخيلك ، ان يحقق له ما يريد .. يريد أن يذهب إلى الحرب ؟ لماذا لا يرسله ؟ ” .
—————–