درس للعرب من الشعب التركي- معين الطاهر
من اللافت للنظر أن صور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، غابت تماماً عن ساحات اسطنبول وأنقرة ومجمل المدن التركية، ليحلّ مكانها العلم التركي الذي رفعه أنصار حزب العدالة والتنمية جنباً إلى جنب مع المعارضة التي وقفت بحزم ضد حكم العسكر، وعودتهم عبر انقلاب عسكري، للتحكّم بالأمة التركية، والانقلاب على مسارها الديمقراطي. لكن بعضنا ملكيّون أكثر من الملك نفسه، فبعض اليسار في بلادنا لم يتّعظ بعد من تأييده السابق انقلاب العسكر في مصر، وما جرّه على البلاد والعباد من ويلات، ولم يعجبه موقف المعارضة التركية أمام الانقلاب العسكري، فهلّل وطبّل وزمّر تأييدًا للانقلاب في ساعاته الأولى، منصّبًا نفسه مكان الشعب التركي الموحّد ضد الانقلاب. وبعضٌ آخر لم يعجبه مشهد العلم التركي وحيدًا من دون صور أردوغان في الشارع التركي، على ما يحمل ذلك من دلالة تُعبّر عن وحدة الموقف الداخلي، والتفافه حول القيادة المنتخبة، فملأ شوارع غزة بصور أردوغان، وتجلّى المشهد واضحاً في صورة لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، تحيط به صور الرئيس التركي من كل جانب. وفي تصريح للقيادي في الحركة، مشير المصري، أعلن عن الاستعداد لبذل الدماء على شواطئ تركيا!
من حق أيٍ منّا أن يتفق مع سياسات الرئيس التركي، أو يختلف معها، كلها أو بعضها، خصوصاً ما يتعلق منها بسياساته الإقليمية، وما يمكن أن تجلبه لنا من منفعة، أو تلحقه بنا من ضرر، وهو حقٌّ لا نجادل به أحدًا. لكن، يبدو أننا لم نفهم الدرس التركي بعد، ولم نتعلم من الشعب التركي الذي وقف وقفة رجلٍ واحد، من عارض أردوغان ومن أيّده، من سُجن واضطهد على يديه، ومن أصبح من أعمدة نظامه، ثم نُحي جانباً مثل رئيسي الجمهورية والحكومة السابقين، ناهيك عن قادة أحزاب المعارضة وجمهورها الذي وقف مع مناصري الرئيس التركي أمام الدبابات، وأوقف تقدّمها، وحاصرها في شوارع المدن التركية.
ثمّة درسان بالغا الأهمية ينبغي أن ندركهما من ساعات الليل الطويلة والدامية في تركيا. أولهما: أنّ نبض الجماهير ما زال متدفقًا، وأنّ قوتها لا تُقهر، وأنّ إرادتها تجترح المستحيل. وإذا كانت الثورات المضادة في عالمنا العربي قد حقّقت بعض التقدّم، فإنّ ما حدث في شوارع تركيا سيُشكّل حافزاً إضافياً للجماهير العربية، في معركتها ضد الصهيونية والتطرّف والاستبداد والفساد.
والثاني: أنّ ثمّة قواسم وطنية مشتركة، أهداف للأمة كلها، بكل أطيافها وقواها، لا يجوز التخلي عنها، أو المساومة عليها، لتحقيق مكاسب جزئية، أو آنية، تجاه المنافسين السياسيين، وهو ما عبّرت عنه المعارضة التركية الوطنية والقومية، ووسائل الإعلام كافة، والنقابات، حين رفضت تأييد الانقلاب، على الرغم من معارضة بعضها الشديدة سياسات حزب العدالة والتنمية.
تنعكس هذه الدروس، في الوضع الفلسطيني خصوصاً، من خلال التمسّك بالثوابت الوطنية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتبني المشروع الوطني الفلسطيني الجامع الذي يُشكّل نقيضاً مباشراً للكيان الصهيوني، وبديلاً عنه، ويمثّل تطلعات الشعب العربي الفلسطيني في أماكن وجوده كلها (الضفة والقطاع والشتات وفلسطين المحتلة سنة 1948).
يجب أن تحكم هذه الثوابت سلوك القوى السياسية المختلفة، وأن تُشكّل ناظماً لعلاقتها، بحيث لا يسعى أيٌّ منها إلى التفريط بها، أو المساومة عليها، سعياً وراء أية مكاسب فئوية، تماماً مثلما تمسّك الشعب التركي بثوابته في الديمقراطية وتداول السلطة، عبر صناديق الاقتراع.
دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا غاليًا نتيجة للانقسام الذي نتج عن ثلاثة عوامل أساسية، تتمثل في تباين النظرة للمشروع الوطني، وعدم احترام إرادة الناخبين، والاستقطاب الفئوي الحاد بين حركتي فتح وحماس، وهو ما انتبهت إليه الأحزاب التركية عند موقفها الجماعي الرافض للانقلاب.
ومن جهة أخرى، يعطي الموقف الشعبي الجارف أملاً كبيراً باستمرار الهبات الشعبية في أرجاء الوطن المحتل، وفي تمدّدها واتساعها، وفي تحقيق وحدةٍ ميدانيةٍ عابرة للفصائل، على قاعدة النضال الجماهيري المشترك ضد الاحتلال، مؤمناً بأنّ استمرار نضال الجماهير ووحدتها قوةٌ لا تقهر، وهي كفيلة بدحر الاحتلال، من دون قيد أو شرط.
هل تدرك الفصائل والناشطون الفلسطينيون (والعرب) أنّ من يُقرّر الوضع السياسي في تركيا ويحدّد اتجاهه ومساره هو الشعب التركي وحده؟ وهل تعرف أنّه بينما شغلتنا المزايدات والنزاعات والفرح والغضب حول مآلات الانقلاب في تركيا، كان الشعب التركي موحّدًا؟ وإذا كنّا قد جرّبنا الانقسام في فلسطين، والانقلاب العسكري في مصر، والتحريض المذهبي والطائفي، وكل أنواع الحروب، فهل سيساهم المثال الذي ضربه الشعب التركي في عودة الوعي واستخدام العقل وتحديد الأوليات في بلادنا. لعل في ذلك بعضاً من فسحة الأمل.