مرايا الأسر بين الشّهادة والتّخييل! – آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أمسيةً أدبيّةً، لإشهار كتاب (مرايا الأسر) لمؤلّفِهِ حسام كناعنة، وذلك بتاريخ 21-7-2016، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ووسط حضور من المُهتمّين بموضوع الأسرى الفلسطينيّين وتوثيق الأحداث، وقد تولّى عرافة الأمسية المحامي حسن عبّادي، وتحدّث عن الكتاب كلٌّ مِن د. لينا الشيخ حشمة، وخلود فوراني سريّة نيابة عن الكاتب المقدسيّ محمود شقير الذي تعذّر حضوره، وعلي عمري، والمحتفى به حسام كناعنة، ثمّ مداخلات من الحضور والتقاط الصّور التذكاريّة!
مداخلة د. لينا الشيخ حشمة: في الأسر يكتب حسام مراياه؛ مرايا الأسر في انعكاس القهر، مرايا الذّاكرة بين الجدران وخلف القضبان؛ مرايا صادقة لكنّها مشوّهة ألمًا مهشّمة نفسًا. في هذا العنوان، مرايا الأسر، يتعرّى الواقع. فلم يَصُغْ حسام مراياه ليتأنّق ويتزيّن بل ليعكس قمعًا ويصوّر سجنًا. هو نصّ يأخذنا بدءًا بعتبته؛ بعنوانه الكاشف إلى ذلك الأسر، إلى قضبان السّجن، مرورًا بصورة غلاف الكتاب الموفّقة حيث تتكشّف الحكاية، إذ تتصارع الألوان؛ فيتغطرس الأحمر: القهر والدّماء، ويتلطّخ بسواد في عتمةٍ دون صفاء. ومن عتمته؛ عتمةِ الغلاف ينشقّ سجينٌ يفتح ذراعيْهِ، مفجّرًا بساعديْهِ سوادًا قهره؛ إذ كان في الأمس الأسود سجينًا، خلف القضبان حبيسًا، ينظر إلى الأعلى حيث طيرٌ أبيضُ يرفرف بجناحيْهِ، يرفرف ببياض الحريّة؛ فالبياض أملٌ وصفاء. تراه يحدّق بنظره نحو الفضاء، في صرخة تعدو حتّى أروقة السّماء.. ربّما باكيًا، للسّماء شاكيًا، كيف تركته أكثر من عشر سنواتٍ سجينًا من السّجناء”؟! يفتح ذراعيْهِ كأنّه يريد أن يقبض على كلّ الفضا، يصرخ بملء شدقيْهِ: ها أنا حرّ، ولي طول المدى.
أدب السّجون، هذا الأدب الّذي يعنى بالكتابات الّتي أُلِّفت في السّجن أو عن السّجن؛ يعالج قمع السّلطة وسجن السّياسيّ المثقّف المعارض وتعذيبه. هو شهادةٌ وإدانةٌ، هو ذاكرة حافظة لتاريخ لا يمور إلّا سجنًا، ولا يصيح إلّا قهرًا، يسجّل تاريخًا ويؤرّخ، يرسم واقعًا ويحفظ، يهدف إلى تصوير حياة السّجين خلف القضبان، مسلّطًا الضّوء على صور التّعذيب الجسديّ والنّفسيّ الّتي يتعرّض لها، وقسوة السّجن وبطش السّجّان.
يتّسم أدب السّجون بأنّه كتابات تستخدم التّوثيق وسيلة للإدانة وفضحًا لبشاعة السّجن، إذ يلحّ الكاتب على دعم نصّه بالوثائق والتّواريخ والأسماء، وهو ينشر بعد انتهاء التّجربة الموجعة. كما أنّه يُنشَر خارج الوطن أو بعد زوال النّظام السّياسيّ المتّهم. هو وليدُ تجربةٍ حيّةٍ صادقة، فهناك العديد من السّجناء الّذين أُطلِق سراحهم بدؤوا يكتبون بعد هذه التّجربة، جاعلين السّجن تيمةً في كتاباتهم. بات أدب السّجون يشكّل ظاهرةً روائيّةً عربيّةً، يتعاظم انتشار كتّابها من المحيط إلى الخليج في ظلّ أنظمة شموليّةٍ قامعة.
ونبدأ الحكاية.. وأبرزُ عناصرِ هذه الحكاية هو المكان. أَلَمْ ترتبط هذه الحكاية بدءًا بالكلمة الأولى بهويّة المكان؟ أوَ ليس السّجن كاتب الحكاية وصانعها؟ أَوَ ليسَ أدب السّجون عنوانًا يختزل الحكاية كلّها بالمكان، فيرصد سجينًا في مكان كريهٍ تدفعه إليه السّلطة؟ هي إذًا حركةٌ قسريّة لا إراديّة، ينتقل خلالها السّجين إلى مكانٍ مرفوضٍ سلفًا نحو الفقد والخراب، لا مجال فيها للحديث عن بطولة أو ارتقاء، بل هي رحلة تنتهي بسجين مقهورٍ مطارد، مصيره إلى التّهميش أو التّدجين أو الموت. إنّها رحلة التّشظّي بكلّ أبعاده، رحلة اللّابطولة والاغتراب، تقوم على مفردات من الرّعب والاستلاب، وفي عتمة هذا المكان يحلُم حسام، وهو يقدّم لنا حلمه، فيقول في الاستهلال بآليّة الميتاقصّ: “هنا حيث لا طعمَ ولا لونَ إلّا للأحلام.. نحلم بالحريّة وبالحبّ وبالحياة.. نحلُم، نحلُم.. وهذا حلمي إليكم”(ص12). لكنّنا ندرك أنّه حلمٌ مشوبٌ بالوجع منغَّصٌ بالألم؛ ففي السّجن يتداعى كلّ شيء ويتخثّر، يغدو آسنًا متعفّنًا، يحاولون محوَ ماضيه، وسلخَهُ عن واقعِهِ وطمسَ مستقبله، لكنّ السّجين بأسنانه وأظفاره يحاول أن يتشبّث بالزّمن والذّاكرة والأحلام. وتمسي المعادلة: “لحمي ولا حلمي”.
ولهذا ينصح عمرُ سامحًا قائلًا له: “اقرأ واقرأ واقرأ، ثمّ اكتب ما استطعت إلى ذلك سبيلًا” (ص40). هكذا يتعلّم السّجين ألّا يترك نفسه فريسةً للفراغ أو لقمةً سائغةً للملل، وأنّ عليه أن يمارس الأحلام؛ فالحلم حياة لأشباه الأموات. وفي السّجن يصبح القلم عزيزًا، وتصبح القراءةُ خلاصًا، والكتابةُ حريّةً. وفي السّجن لا تسمّى الأشياء بمسمّياتها المعروفة، بل للسّجن قاموسُهُ الخاصّ، ويُختَزل العالمُ بغرفةٍ واحدةٍ، أو قُلْ: بزنزانةٍ. وفي السّجن، في الغرفِ المُعتمةِ الجميعُ سواسية، مهما اختلفت آراؤهم أو خلفّياتهم الثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة. ومع طول الإقامة فيه يكتسب السّجناء سماتِهم الخاصّة، ويفقد السّجين هويّته وحريّته، فحيث الازدحام التّعس والهواء المتعفّن وقسوة المكان ينزل الإنسان إلى تفاهة الرّقْمِ المجرَّدِ. ولهذا يقول سامح: “هنا قصصنا وحكايانا، معاناتنا ونوادرنا، تأخذ عناوينها من أرقام الزّنازين والأقسام” (ص11).
لا وجودَ للإنسان إلّا بارتباطه بالمكان؛ فهو المحرّك الأساسيّ في تحديد نشاطه وسلوكه، مع ذاته ومع محيطه، وتتحوّل أهميّةُ المكان في النّصّ الأدبيّ إلى ما يشبه القدر الّذي يتحكّم في مصير الحدث والشّخصيّة. فليس السّجن مجرّدَ مكانٍ، إنّه مكانٌ سلبيٌّ كريهٌ ومعادٍ، إنّه حيّز الإقامة الجبريّة والممارسات العقابيّة؛ هو مكانٌ لإقصاء الآخر وتدجينه، إنّه السّيّد الّذي يعيد صياغة الآخر، لأنّ الآخر هنا فاقدُ الحريّة ومسلوب الإرادة، يتحوّل السّجن إلى عالمه القسريّ، ويصبح بيته، فراشه ووطنه. إليه يدعو أحلامه، وفيه يعيش أحزانه.
وفي السّجن تتكشّف المفارقة، فالسّجين من جهة يفتقد الحريّة، وتُقيَّد حركته الجسديّة، لكنّه بالمقابل يكسر قيودَ السّجن ويبدّد عزلته عبر حركة الوعي؛ فالانحباس فيه يقابله انفتاحٌ في الخيال والأفكارِ. هكذا تبدأ رحلة الوجدان حين يسيطر الاغتراب على المكان، فكلّما سعى السّجن إلى سلب إرادته، سعى السّجين إلى البحث عن طريقة للصمود. ولن يتأتّى له ذلك إلّا بالبحث في ثنايا النّفس عن النور في عتمة هذا المكان. وقد يتعرّف إلى نفسه لأوّل مرّة، يغوص فيها، وقد يتصالح معها، بعد أن رفضها. إنّها هذه الحريّة الرّوحيّة الّتي لا يمكن لأحدٍ أن يستلبها منه، وهي الّتي تجعل للحياة في اللّا حياة معنًى وهدفًا، وفي اللّامكان أملًا وصبرًا. إنّها تلك المخيّلة الّتي تختار رحلةً تعويضيّة طالما رحلة الجسد غير ممكنة، فتجوب الذّاكرةُ الوعيَ وتسترجع ماضيَها وتتأمّل حاضرَها ومستقبلَها، حيث لا قيودَ ولا قضبانَ في ثنايا الذّاكرة.
فها هو سامح، هروبًا من واقعِهِ يكتب، وهروبًا يتوهّم، يتوهّم صديقًا، من أناه، من ذاته تنشقّ له ذاتٌ أخرى، يسمّيها الصّديقَ، ويدّعي بوعيٍ أنّه لا يعرفه، يحاوره كاشفًا أفكارَهُ ومشاعرَهُ، يولّده من قوّة الوعيِ، من مرآة الذّاتِ، تلك الذّات الواعية لحضور الوهم في غياب الحضور. وفي خلق هذا الوهمِ، أي الصّديق الوهميّ، خرقٌ للمألوف وإغرابٌ. هكذا يعيد السّجين خلق عالمِهِ حسب رغباتِهِ هو، فتغترب الذّاتُ وتهجر ذاك المعاديَ، تتلصّصُ إلى الدّاخل، على نفسها، تتوهّم ليمسيَ الاغترابُ إيجابيًّا كآليّة تعويضيّة.
— ولمّا كان السّجنُ/ المكانُ صاحب السّلطة على الشّخصيّات والأحداث، سيصبح الزّمان متعالقًا معه، متحكّمًا بالشّخصيّة؛ فوجودُ الشّخصيّة زمكانيٌّ؛ والمكانُ الجسديُّ في الزّمانِ الرّوحيِّ. وكلّ من يبحث في الإنسان يبحث في زمكانيّته. من هنا، كانت زمكانيّةُ أدب السّجون من أهمّ ركائزِ هذا الأدب ومعالمه.
— إلّا أنّ الزّمن يقوم على جدليّة في حدِّ ذاته: فهناك الزّمنُ الخارجيُّ الطّبيعيُّ؛ الزّمن الحاضرُ، زمنُ السّجنِ؛ بينما هناك الزّمنُ الدّاخليُّ النّفسيُّ، الزّمن الحرُّ، زمنُ الذّاكرةِ والماضي وزمنُ الأحلامِ والمستقبلِ؛ فما الّذي يملكه السّجين بعد أن عرّاه سجّانه من كلّ شيء؟ لا شيءَ سوى خيالِهِ وأحلامِهِ. ولهذا لا يحسب سامح الزّمنَ بالسّنوات والأشهر والأيّام، “بل بالرّسائل والزّيارات والأحلام” (ص200).
— ليس زمانُ هذه الرّحلة ذلك الزّمان الطّبيعيّ الّذي نعرفه في المكان الطّبيعيّ؛ فالزّمن هنا يكتسب سماتِهِ من نفسيّة الشّخصيّة. يعرّفه حسامٌ في الاستهلال بـ: “الزّمنِ الحبيس أو الزّمن الموازي” (ص11). أمّا سامحٌ فيقول: “في الأسرِ المستقبلُ محاصرٌ، والحاضرُ توقّفَ لحظةَ الاعتقالِ، وأمّا الماضي فينمو ويزدادُ مع كلّ لحظةٍ نقضيها ههنا.. ويحكم “الزّمنَ الأسيرَ” قوانينُ وقواعدُ خاصّةٌ به. عند السّجين لا فرقَ بين اليومِ والأمسِ والغد، إلّا بما يخطّه الوقتُ على الجسدِ، وما تطبعه معاناتنا في النّفس والقصص في الذّاكرة”(ص195- 201).
إنّ زمن السّجن لا يكلّ ولا يملّ، يسعى إلى إنهاك السّجين وقتله، متآمرًا مع المكان عليه، وتفقد الأيّام أرقامها وأسماءها. ولأنّ السّجن سيّد الذّاكرة يخشى البطل بعد خروجه رؤية تلك الأنا السّجينة تقبع في نفسه، وقد يصعب عليه التّصالح مع العالم الخارجيّ، ويمسي كائنًا مغتربًا، فاقدًا للثّقة والسّعادة. فالسّلطة قد تعيد للسّجين كلّ أشيائه، إلّا الحريّة الّتي استلبتها منه، فيخرج السّجين من السّجن وهو لا يشبه نفسَهُ. فكيف يشبه نفسَهُ وقد عاش تجربةَ الفقدِ والفقدان؟! وفي السّجن لا يكون السّجين بطلًا؛ فالبطل لا يمكن أن يكونَ بطلًا لسلوكِهِ طريقًا بالإكراه، وهو الّذي يقبع خلف القضبان غيرَ قادرٍ على تغيير واقعِهِ؟ البطولةُ خلفَ القضبانِ تقتصر على عدم الاعتراف في أقبية التّحقيق، وقد يخوض السّجناء معركتهم أمام السّجّان؛ معركةَ الأمعاء الخاوية، معركةَ الإضراب المفتوح عن الطّعام لتحقيق مطالبهم (ص137)، ليمثّل الإضرابُ عن الطّعام أرقى حالات التّمرّد، إذ كيف يتمرّدُ مَن فقد حريّتَهُ؟ إنّ الجسدَ المتحرّقَ في نار الجوع هو السّلاحُ في معركة الإرادة.
تعتمد مرايا الأسر على عواملَ أوتوبيوغرافيّةٍ لكاتبها، وعلى تجربته الشّخصيّة في السّجن، وإِنْ أخفى الكثيرَ من جوانبِها. يتحدّث كذلك عن تجارب سجناء آخرين التقى بهم خلف القضبان، حيث يشير إلى هذا في الإهداء والتّنويه والاستهلال والشّكر والحاشية. الكاتبُ لا يُخفي صلته بعالمه الأدبيِّ، لهذا يختار اسمَ البطل قريبًا من اسمِهِ، يختار سامحًا بدلًا من حسامٍ، فيبدّل الحروفَ تمويهًا ومواربةً. ولا شكّ أنّ استخدامَهُ لضّمير المتكلّم وهيمنته على السّرد من شأنه أن يفسح المجالَ أمامَهُ لأن يُبحرَ في فضاءات الرّوح، ويكشفَ فضاءات البوح، مسجّلًا أفكارَهُ، موثّقًا ذاكرتَهُ.
يعنون الكاتب كتابَه بعنوانين؛ إذ يأتي العنوان الأساسيُّ، مرايا الأسر، ليشير إلى بعد السّيرة الذّاتيّة، فهي مرايا تكشف الحقائقَ وتوثّقها، بينما العنوانُ الفرعيُّ: “قصصٌ وحكايا من الزّمن الحبيس” يأتي ليؤكّدَ على البعد التّخييليّ، وذلك باستخدامه للمفردة الفنيّة: “قصص”. هكذا يمزج الكاتب بين الشّهادة والتّخييل، مؤكّدًا ذلك بقوله في التّنويه: “هذه القصص مبنيّة على خيالٍ ممزوجٍ بالواقع، وواقعٍ مشبّعٍ بالخيال”(ص7). لكنّه لا يحاول أنْ يُبعد صدقَ حكايته أو أن يتنصّلَ من حقيقتِها، قائلًا: “وإذا كان هناك أيُّ تشابهٍ بالأسماء والأحداث مع الواقع، فهو مقصودٌ وعن سابقِ إصرارٍ وتعمّدٍ” (ص7).
أختلف مع الكاتب في تسمية هذا النّوع الأدبيّ، والّذي أطلق عليه “قصصًا وحكايا”، برأيي هي تميل إلى رواية السّيرة الذّاتيّة أو سيرة روائية، حيث تولّد خطابٌ سرديٌّ مهجّنٌ من السّيرةِ الذّاتيّة والرّواية، فهي من جهةٍ كُتِبَتْ بفنّيّة الرّواية، مقسّمةً إلى فصولٍ معنونة مترابطة مضمونًا، يسردها الرّاوي السّجين سامحٌ بضمير المتكلّم، معتمدة على التّخييل والخيال. لتعتمد من جهة ثانية، على فنّ السّيرة بتوثيق الحقائق والوقائع، الأمر الذي يتيح للكاتب استثمار تجربته، لتكون عماد نصّه بتحقيق شرط استخدام البعد التّخييليّ.
ولمّا سعى معظم الأدباء إلى المواربة، خوفًا من المساءلة، مازجوا بين التّجارب الشّخصيّة والمكوّنات التّخييليّة، حيث يمنح ذلك الكاتب آفاقًا للاختباء وراءها حين يغدو قول الحقيقة محرّمًا. كما أنّ الكاتبَ حين يُخفي الحقائقَ هو لا يخفيها بإرادته، وإنّما تلك الرّقابة الذّاتيّة هي الّتي تفرض نفسها في الذّهن، فيختار حسام واعيًا ما يريد أن ينقله للقرّاء، مختارًا أسماء غير حقيقيّة لشخصيّات واقعيّة. أمّا الّذين وثّقهم بأسمائِهم الحقيقيّة وتاريخ ميلادهم وموتهم هم فقط الّذين ماتوا، فخلّصهم الموت من مساءلة السّلطة.
يفتقد هذا النّصّ، باعتقادي، لأهمّ ركائز أدب السّجون، كالتّركيز على تصوير التّعذيب النّفسيّ والجسديّ، أو وصف شخصيّة السّجّان وعلاقته مع السّجين. أضف إلى أنّه لم يسهب في وصف السّجن/المكان، ولم يكشف مدى قسوته وبشاعته، إذ يُعنى أدب السّجون بتقديم وصف دقيق لسمات السّجن بعناية واهتمام، بل لعلّ الكثيرين جعلوا السّجن بطلًا لرواياتهم وسيرهم. أمّا في مرايا الأسر فلم يظهر المكان قاسيًا قامعًا مشوّهًا إلى الدّرجة التي يعكسها أدب السّجون، كرواية “القوقعة” لمصطفى خليفة، أو “الآن هنا.. أو شرق المتوسّط مرّة أخرى” لعبد الرحمن منيف، على سبيل الذّكر. فإنّ ما فعله الكاتب هو ذكر هذه الرّكائز، دون التّعمّق فيها أو في وصفها، متفاديًا كشفَ تفاصيلها البشعة، وقسوة السّجن وطرق التّعذيب وفظاعتها، وقد أكثر من آليّة الحوار، الديالوج، خاصّة بين سامح وصديقه الوهميّ، في حوارات بدت أحيانًا واهية المضمون ضعيفة الأفكار، فكان بإمكانه أن يستبدل الديالوج، برأيي، بآليّة المونولوج، أي الحوار الدّاخليّ، وهي آليّة لها حضورها في أدب السّجون، إذ تمنحه فضاءاتٍ أوسعَ للبوح، وقدرة على الغوص في ثنايا الذّات والشّعور، كشكل من أشكال الحريّة المفقودة. إلّا أنّي أعتقد أنّ الرّقيب الذّاتيّ، ذاك الشّرطيّ الّذي يقبع في ذهنه، هو السّبب في هذا، وهو الّذي دفعه لأن يتناسى متعمّدًا الكثير من التّفاصيل ويتجاهلها. وأخيرًا، لا يسعني إلّا أن أبارك لك هذا الإصدار متمنّية لك مستقبلًا ملؤه الحريّة، وحريّة الإبداع وتميّز اليراع.
مداخلة الكاتب محمود شقير: على امتداد مئة وأربعة عشر مشهدًا يكتب حسام كناعنة نصّه الذي تتداخل فيه أجناس أدبية عدة، حيث يأخذ من القصّة القصيرة جدًّا بعضَ سماتها، ومن السرد الروائيّ بعض تقنيّاته، ومن السيرة الشخصيّة بعض تفاصيلها، ومن التقرير الإخباريّ مادّته المستندة إلى المعلومة، بحيث يصحّ أن نطلق على هذا النصّ المفتوح وصفًا يعزّز قيمته ولا ينتقص منها شيئًا حين نقول إنه: كتاب السجن، فإذا استثنينا كتاب “ألف يوم في الزنزانة”، الذي وصف فيه الأسير مروان البرغوثي تجربته في السجون الإسرائيليّة، وهو ما زال صامدًا فيها، فإنّ هذا الكتاب الذي أنجزه حسام كناعنة عن حياته وحياة زملائه الأسرى، يتّسم بالسمة نفسها، أي أنه أنجزه عن السجن وهو في السجن. ذلك أنّ أسرى آخرين كتبوا وهم في السجن قصصًا ورواياتٍ لا تتطرّق إلى ما هم فيه من معاناة، بل رصدوا وقائع من التاريخ البعيد، كما فعل باسم خندقجي في روايته “مسك الكفاية”، حين اختار فترة من تاريخ العبّاسيين لتسليط الضوء عليها، وكما فعل حسام زهدي شاهين في روايته “زغرودة الفنجان”، حين اختار موضوع الإسقاط عبر تصوير العلاقات الجنسيّة بالكاميرا، لأشخاص مستهدفين أثناء سنوات الانتفاضة الأولى، وكما فعل عصمت منصور في روايته “السلك”، حين كتب عن تجربة الأنفاق في قطاع غزة، مستفيدًا ممّا رواه له زملاؤه أسرى القطاع عن تلك الأنفاق.
وبالطبع، ثمّة كُتّابٌ فلسطينيّون جرّبوا السجون الإسرائيليّة، ثمّ كتبوا عنها بعد خروجهم منها، كما فعل أسعد عبد الرحمن في كتابه “أوراق سجين”، وكما فعل نعيم الأشهب في سيرته “دروب الألم.. دروب الأمل”، وكما فعل جميل السلحوت في روايته “العسف”، وغير ذلك من مجموعات قصصيّة وروايات وكُتب سيرة عديدة، تمحورت حول تجربة السجون. هذا الكتاب، كرّسه حسام كناعنه لوصف المعاناة التي عاشها هو وصحبه من الأسرى، وقد جسّد فيه بصدق، ومن دون مبالغة أو افتعال، عبرَ لوحة بانورامية، تفاصيلَ وافرة من حياة الأسرى الفلسطينيين في السجون، حيث نلمس بعضَ مظاهر ضعفهم بصفة كونهم بشرًا لا ملائكة، ونلمس في الوقت نفسه صمودهم وصبرهم على مشقات الأسر، وعلى فداحة العزلة عن العالم الخارجيّ، تلك العزلة التي تخفّف من وطأتها رسائلُ الأهل والأصدقاء، والزيارات والصحف ومحطات التلفزة، لكنّها تظلّ عزلة فادحة في أغلب الأحوال.
لذلك، تستحقّ هذه الميزة التي يتميز بها الكتاب لفت الأنظار إليها، من واقع أنّه ليس من السهل أن تكتب عن التجربة وأنت لم تزل تحيا في داخلها. ولكي يتمكّن حسام كناعنة من تذليل الصعوبات التي كان يمكنها أن تواجهه، وهو يكتب عن حاضر يتشكل أمام ناظريه، فقد استعان إلى جانب ملاحظته المباشرة للوقائع، بالرواة من الأسرى الذين كانوا يختزنون في صدورهم قصصًا وحكايات اختبروها بأنفسهم داخل السجون، أو شاهدوها أو سمعوا عنها. واستعان كذلك بتجربته الشخصيّة، حين راح يرصد مشاعره وقلقه وترقبه وانتظاره ليوم الإفراج عنه، بعد وصول فترة محكوميّته البالغة أربعة عشر عامًا، إلى عامها الأخير. ولكي يُعبّر عن هذه المشاعر وهذا القلق بأسلوب مقنع، فقد ابتدع شخصيّة الصديق/ القرين الذي يحاوره ويناكفه، ويظهر له في لحظات التأزم، لكي يعزّز لديه فكرة ما أو يبادر إلى نقضها. وبالطبع، فإنّ هذه التقنيّة الفنّيّة، تقنيّة القرين، ليست جديدة في الأدب، إذ استخدمها كلٌّ من دستويفسكي في روايته “القرين”، وجوزيف كونراد في روايته “الشريك الخفي”، وخوزيه ساراماغو في روايته “سنة وفاة ريكاردو ريس”، وابراهيم نصر الله في روايته “براري الحمّى”. ومع ذلك، فإنّ استخدام حسام كناعنة لها، جاء في مكانه الصحيح، حيث عزّز بذلك النزعة الأدبيّة في نصّه المفتوح، وأضفى على شخصيّة سامح، الشخصيّة المحوريّة في النصّ، الذي تتشكّل حروف اسمه من حروف اسم حسام من دون زيادة أو نقصان، بُعدًا فنّيًّا مقنعًا. وعزّز كذلك عنصر التشويق، ونموّ الحالة المرصودة عبرَ محاوراته الظريفة مع القرين، ومن خلال المتتاليات السرديّة الخاصّة، برصد مشاعر سامح أثناء انتظاره ليوم الخلاص من الأسر.
ولم تقتصر هذه المتتاليات السرديّة على سامح وقرينه وحسب، بل تجاوزتهما إلى الحديث عن أشخاص آخرين وموضوعات أخرى، بحيث جاءت هذه المتتاليات لتعزّز بدورها عنصر التناول الفنيّ لوقائع فعليّة مَعيشة، وبحيث أسهمت في إنقاذ النصّ من الوقوع في أسر التسجيل الحرفيّ للوقائع، والاكتفاء بالمادّة الخبَريّة التي سرّبها الكاتب إلى نصّه، وهو يتحدّث عن غياب اليسار وعن الثورة وأخطائها، وعن الانقسام والإضراب عن الطعام، وما شابه ذلك من قضايا ومشكلات. وفي ظني أن حسام كناعنة أنقذ مشاهد كثيرة في نصّه المفتوح من الوقوع في أسر التسجيل الحرفيّ، حين راح يرصد على نحو ظريف شخصيّة “أبو العريف” العليم بكلّ شيء، وحين استعان بالفكاهة في رصد بعض التفاصيل، وبالسخرية وبالانزياح عن تسمية الأشياء بأسمائها، مُعبّرًا عمّا في السجون، وعمّا في الواقع الفلسطينيّ من تحزّب واصطفاف وانقسام وتناقض وتنافر في البرامج والسياسات، من خلال الترميز الذكيّ الشفّاف، وعَبْرَ لغةٍ سهلة لا تعقيد فيها، وبأسلوب ينحو نحو التكثيف والاقتصاد اللغويّ، وذلك بتصوير الصراع بين الأسرى حول اللغة، فثمّة فريقٌ حداثيٌّ وآخرُ أصاليّ، وثمّة فريقٌ وسَطيٌّ توفيقيٌّ بين الفريقيْن المتصارعيْن.
ورغم هذا الصراع، وتناوله بهذا الأسلوب الظريف الذي لا يُثقل على المتلقي بأيّ حال، ففي الكتاب نزعة تفاؤل مُبرَّرة، وإشادة بصمود الأسرى وبتضحيات الشهداء، وبالتأكيد على المقولة التي تَردّدَ صداها صراحة، وما بين السطور: “قضيّتنا عادلة والاحتلال إلى زوال”. تحية إلى الأسير المحرّر الكاتب حسام كناعنة.
مداخلة علي عمري: هناك حياة موازية للحياة في الخارج، فهدف الحركة الوطنيّة الأسيرة خلق الكادر التنظيميّ الواعي لمسيرة الثورة والشعب، ولتحقيق ذلك هناك برنامج ثقافيّ مكثف لكل عنصر جديد.
*الثقافة الثوريّة الإلزاميّة للجميع تشمل جلسات متنوّعة لمحو الأمّيّة، جلسات تنظيميّة تشمل: جلسات أمنيّة. نظام داخليّ يشمل أهداف وأساليب وفلسفة التنظيم. جلسات إداريّة تشمل السلوك الثوريّ، وجلسات وطنيّة تشمل التعامل مع إدارة المعتقل، والمحافظة على العلاقات مع الفصائل الأخرى، وجلسات عن تاريخ فلسطين.
*الثقافة الرسميّة اختياريّة كمثل: امتحانات التوجيهي، والتعليم الجامعيّ.
*الثقافة العامّة إلزاميّة بشكل جزئيّ، كالمطالعة في أوقات مُحدّدة بشكل يوميّ، ووضع برنامج خاصّ لكلّ مناضل حسب إمكانيّاته الثقافيّة.
*الكتابة بشكل اختياريّ تخضع للجنة خاصّة، كالمجلّة التنظيميّة، والمجلة الاعتقاليّة.
*سوق عكاظ في سجن نفحه وعسقلان.
لقد أعادني كتاب حسام إلى أجواء السجن: الغرفة (ص36): بيت مختزل في غرفة. محامو دفاع (ص121) الكادر. (ص123) وليد واطلاق سراح ابو رفعت وابو سميرة “الكادر الحقيقي لا يقوم فقط بعمل محام واحد، وإنّما بعمل مؤسّسة”. أبو الهول (ص169) بعد 19 عاما أطلق سراحه بسبب السرطان، وحضور الضابط سلمان ليخبرنا “أطلقنا سراحه ليموت في البيت وليس في السجن”. أبو العريف (ص69): الحقيقي في سجن نفحه في الثمانينات وبداية التسعينات. أصبحت تسمية لكل من يدعي المعرف بما يعرف وما لا يعرف. عيادة السجن (ص131) “هدفها المحافظة على حياة الأسير لتنفيذ عقوبته وإنهاء محكوميته وليس علاجه”. في سجن الرملة (بنطلوني يوجعني).
مداخلة المحتفى به حسام كناعنة: في البداية أشكر نادي حيفا الثقافيّ لتنظيمه هذه الأمسية، شكرًا لأعضاء النادي وبشكل خاصّ للإخوة فؤاد نقارة وحسن عبادي، وشكرًا للحضور الكريم.
لهذه الأمسية وهذا الإشهار من مدينة حيفا معنى خاصّ، وهنا اسمحوا لي أن أقتبس ما كتبه صديقي ورفيقي العزيز، الأسير الكاتب حسام شاهين صاحب رواية “زغرودة الفنجان”، والذي يمضي عامه الثالث عشر في سجون الاحتلال، وقد فقد والده هذا الأسبوع دون أن يودّعه، و(فقدان الأهل بالأسر هو أحد الهواجس التي كثيرا ما تؤرّق الأسرى)، كتب في رسالته إلى الأديب محمود شقير يقول: “بالنسبة لي، وهذا شعور شخصي، الرواية الفلسطينية تبقى ناقصة، إلى أن يتمّ تعميدها ومناقشتها وتداولها في القدس والداخل الفلسطينيّ”. وهنا أريد أن أؤكّد لكم، أنّ هنالك مكانة خاصّة في قلوب الأسرى للداخل الفلسطينيّ، ولكلّ ما يخرج منه وعنه، فالأسرى ينظرون بالكثير من الحبّ والتقدير لهذا القطاع من الشعب الفلسطينيّ، وإذا كان لديهم أمل فهو بهذه الشريحة من شعبنا.
هذا الكتاب قمت بكتابته في الأشهر الأخيرة من الأسر، حيث كان جاهزًا ينتظر أن يُكتب. في السنوات العشر الأولى قضيت معظم الوقت وأنا أقرأ ثم أقرأ ثم أقرأ، وكنت أكتب بعض الخواطر والشطحات والقصائد والكثير من الرسائل، وفي الأشهر الأخيرة شعرت بالحاجة لأن أكتب أوًلاً لي، وأيضًا لأهالي الأسرى الذين يشاركوننا “حالة الأسر” بكلّ مراحلها، فهُم أسرى معنا، وأردت أن أنقل لهم صورة من الداخل، دون مبالغة أو تضخيم لهذه الحالة، من خلال هاجس شخصيّ كثيرًا ما كان يؤرّقني، منذ أن دخلت الأسر.
تحدثت عن المعاناة والحرمان في الأسر، ولم أتحدّث عن التعذيب بشكل خاصّ، ذكرته تحت عنوان “القمعة”، ولم أذكر فترة التحقيق. حين دخلت المعتقل استقبلني بعض الأسرى من وادي عارة، وتحديدًا من باقة الغربية، وحين ذكرت لهم اسمي عرفوا مَن أكون، وأنا عرفتهم بأسمائهم، لأنهم كانوا نفس الأسرى الذين استقبلوا أخي الأكبر محمد كناعنة أبو أسعد، حين تمّ اعتقاله عام 1986، وتحرّرَ عام 1988، واعتقل وسُجن وتحرّر مرات كثيرة، وها نحن نعتقل ونسجن مُجدّدًا أنا وأبو أسعد عام 2004، فهل من المعقول أن نتحرّر، ونتركهم مجدّدًا خلفنا في الأسر؟! أبو أسعد تَحرّر عام 2008، وابنه أسعد اعتقل والتقى بهؤلاء الأسرى وتعرّفوا عليه وتحرّر، وأنا قضيت عشر أعوام ونصف العام وتحرّرت، وقد مضى على تحريري سنتيْن، وأولئك الأسرى من الداخل الفلسطينيّ من وادي عارة، ما زالوا يقبعون خلف القضبان، وبعضهم في الأسر منذ عام 1983! فهل هنالك معاناة وحرمان يعادل هذا؟ في النهاية، فانّ الملحمة الحقيقيّة للأسرى هي تلك الملحمة التي يسطرها الأسرى اليوم بدمائهم ولحمهم عبْرَ معارك الأمعاء الخاوية: ماذا ننتظر من أسير قضى محكوميّته أربعة عشر عامًا ونصفَ العام، وفي اليوم الموعود لتحرّره يتمّ تحويله إلى الاعتقال الإداريّ؟