الانتخابات البلدية الفلسطينية بين المهنية والسياسية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي :
أكثر المتحدثون باسم القوى والتنظيمات الفلسطينية، والأمناء العامون وأعضاء ورؤساء المكاتب السياسية من مختلف القوى والتوجهات، من التصريحات الإعلامية والتعليمات التنظيمية الداخلية والخارجية، التي أكدوا فيها عزمهم على خوض الانتخابات البلدية على أساسٍ مهنيٍ صرفٍ، وأنه لن تكون هناك قوائمٌ حزبية، ولا مرشحون سياسيون أو وفق برامج سياسيةٍ، وأن قوائمها ستعتمد الكفاءة والمهنية، لا الولاءات والانتماءات الحزبية، وأن مرشحيها سيكونون أصحاب أيادي بيضاء وطنية، من المشهود لهم بالصدقية والكفاءة، والنزاهة والعفاف، والخبرة والتجربة وعموم المعرفة، الذين يفيدون وينفعون، ويخدمون ويعملون، ويدركون حاجات المواطنين ويحسون بأوجاعهم، ويألمون لآلامهم، ويتمنون أن يكونوا في خدمتهم، وأن يسخروا من أجلهم طاقاتهم، وأن يكونوا عوناً لهم لا عليهم، ويداً معهم لا ضدهم.
ذلك هو الشعار المرفوع اليوم، وهو الأكثر شيوعاً ورواجاً، يتغنى به المسؤولون بفخرٍ، ويكرر المعنيون بالأمر إعلانه بشفافيةٍ من وقتٍ إلى آخر، وكأنهم بهذا يدينون التجارب السابقة، ويلعنون نتائج الانتخابات الأخيرة، التي قامت على أساسٍ حزبي، ونظمت على قواعد سياسية، فجاءت بالمنتمين حزبياً، والموالين سياسياً، وهم الأعلى صوتاً، والأكثر قرباً وولاءاً، الذين يفتقرون إلى الخبرة والكفاءة، ولم يكن لديهم سابق تجربة أو معرفة، اللهم إلا تأييد أحزابهم، والهتاف باسم وحياة قادتهم، الذين حملوهم إلى هذه المناصب، وأجلسوهم على هذه المقاعد، وجعلوهم سادةً يتصدرون، وأعياناً يتقدمون، ووجهاء يحترمون، في الوقت الذي نسوا فيه الواجب الذي من أجله انتخبوا، وتخلوا عن البرامج التي رفعوها وخاضوا الانتخابات على أساسها، ولكن حلاوة المناصب أسكرتهم، وسطوة السلطة أغرتهم.
يرحب الفلسطينيون بهذا الشعار ويتمنونه حقيقةً لا خيالاً، وواقعاً لا شعاراً، ودائماً لا مؤقتاً، وثابتاً لا متغيراً، وبرنامج عملٍ لا داعية انتخاباتٍ، ويأملون ألا يتقدم ليرشح نفسه لهذه الانتخابات الخدمية إلا من كان كفؤاً لهذا المنصب وجديراً به، وأنه فعلاً في قرارة نفسه وبشهادة غيره، ينفع ويخدم، ويضحي ويعطي، ويجتهد ويثابر، وأنه لن يحابي قريباً ولن يظلم غريباً، وأنه لن ينصر قوياً ولن يقصر في نصرة ضعيفٍ، ولن يقف مع الغني ويدير ظهره للفقير، وأنه لن يرشي ولن يرتشي، ولن يكون خادماً للمسؤولين وشرطياً على المواطنين، ولا حارساً لمصالح الحزب على حساب الوطن، ولا مسيراً لشؤون جماعته على حساب مصالح شعبه، ذلك أنهم عانوا الكثير من التجارب السابقة، التي زادت معاناتهم، وعمقت أزمتهم، وضاعفت من مشاكلهم، فكانت عليهم وبالاً، زادتهم رهقاً وتعباً، وأورثتهم ذلاً ومهانةً، وحقداً وكرهاً.
الفلسطينيون يستحقون أن يتولى عليهم خيارهم، وأن يتقدمهم أصفياؤهم، وأن يحمل أمانتهم أمناؤهم، وأن يتصدى للمهام الصعبة التي تواجههم أقوياؤهم، وأن ينبري للدفاع عن حقوقهم أخلصهم، وأن يكون في خدمتهم من ذاق المر مثلهم، ومن عانى صنوف العذاب معهم، ممن يعيشون بينهم، ويسكنون في مخيماتهم وبلداتهم، ويعرفون كيف تجتاح مياه الأمطار بيوتهم، وكيف يحرق قيظ الصيف وجوههم وأجسامهم، ممن يعدون الساعات الطويلةِ في انتظار التيار الكهربائي، ويؤجلون أعمالهم لينجزوها في ساعات الوصل المحدودة.
الفلسطينيون في حاجةٍ إلى منتخبين لإدارة مجالسهم البلدية، ممن يمشون في الشوارع فتغبر ثيابهم، وتسوخ في الأرض أقدامهم، وتتعثر عليها خطواتهم، الذين يشعرون بمعاناة المواطنين من الشوارع الترابية، المليئة بالحفر، التي لا تستطيع السيارات اجتيازها، ولا يرتاح المشاة في عبورها، والتي يشكوا الناس جميعاً من تكدس القمامة على جنباتها، مسفوحةً بلا حاويات، ومكشوفةً بلا أكياس، فتفوح منها روائح عفنةٌ منتنةٌ، تزيد من نتنها حرارة الشمس اللاهبة في فصول الصيف الحارقة.
الفلسطينيون في حاجةٍ إلى رجال بلديةٍ مخلصين صادقين، ينظمون الشوارع والطرقات، وينيرونها ليلاً إن توفرت الكهرباء، ويغرسون على جوانبها الأشجار الخضراء، ويزيلون منها الردم وحديد السيارات الخربة، ويتخلصون بسرعةٍ من كل ما يؤذي الأنوف وتعافه النفوس الكريمة، وتكره أن تقع عليه العيون الجميلة، دون أن يكرهوا مواطناً على إزالة ما قصرت عن إزالته البلدية، وتأخر عن القيام بها عمالها والمكلفون بها، ولا يريدون موظفين يحسنون جمع الضرائب وفرض العقوبات وصرف المخالفات، ممن يتفننون في مخالفة المحال التجارية، وأصحاب البسطات والعربات الصغيرة، ولكن عيونهم تعمى وأيديهم تقصر إن أكرمهم وأغدق عليهم المخالفون.
الفلسطينيون في حاجةٍ إلى بلدياتٍ إنسانيةٍ، تهتم بالمواطن الفلسطيني، وتسعى للتخفيف عنه والوقوف إلى جانبه في أزماته وملماته، تبني المساكن الشعبية، وتؤسس للمشاريع السكنية، وتضمن عدالة التوزيع ونزاهة القرعة والتقسيم، وتكون أمينةً على المساعدات والمعونات والهبات، لتصل الحقوق إلى أصحابها، ولا يحرم منها أهلها، ويسكن البيوت الجديدة مستحقوها من الأزواج الشباب أولاً، وممن هدمت بيوتهم ودمرت بسبب الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المناطق الفلسطينية، أو بسبب قرارات الهدم والنسف التي تقوم بها سلطات الاحتلال العسكرية.
الفلسطينيون في حاجةٍ إلى مجالس بلديةٍ تطور بلداتهم، وتحسن الخدمات العامة فيها، وترفع من مستوى المواطنين والسكان، وتجمل البلدات وتنظفها، وتزينها وتحسن من مظهرها، وتعمل على خلق مساحاتٍ خضراء يرتاح فيها المواطنون، ويلجأ إليها الناس في أوقات راحتهم، وتجهد نفسها في الاهتمام بالأطفال والأجيال الطالعة، فتنبني لهم الملاعب ورياض الأطفال، والحدائق والمنتزهات، والمدارس والملاهي والأندية الرياضية والثقافية، وغير ذلك مما يساعد على نشئ الجيل وحسن تربيته.
هل ينجح الفلسطينيون هذه المرة في انتخاب من ينفعهم، واختيار من يقوم على خدمتهم والنهوض بهم، فيكونون أقوياء في قرارهم، ومستقلين في اختياراتهم، أم أنهم يدركون أن هذه الدعوات ليست إلا شعارات انتخابية جوفاء، سرعان ما تتبخر عند فتح أول صندوقٍ انتخابي وظهور أولى النتائج، وأن الداعين إليها كاذبين منافقين، ومخادعين ومزورين، همهم المقعد، وحلمهم المنصب، وغايتهم السلطة، وعيونهم على الحزب، وقلوبهم على الجماعة، بينما الوطن آخر همهم، والشعب خارج كل حساباتهم.
بيروت في 2/8/2016