ترامب وتأسيس داعش – منير شفيق
خرج الإعلام المكتوب وبعض المرئي صباح الجمعة 12 آب/ أغسطس 2016 بعنوان صارخ يقول: ترامب يتهم أوباما وكلينتون بـ”تأسيس داعش”. أما عند تقديم الخبر بتفاصيله فالمعنى المباشر الذي يوحي به العنوان يبدأ بالتلاشي. لأن دونالد ترامب قصد بـ”تأسيس داعش” بأن “أوباما وكلينتون أسّسا داعش إذ ساعدت استراتيجيتهما بسحب القوات الأمريكية من العراق في ظهور التنظيم” ومن ثم سيطرته على مناطق واسعة من سورية والعراق. أي ليست مساعدة مباشرة كما يوحي العنوان، وإنما أفاده “موضوعياً”.
المهم أن كلمة تأسيس هنا جاءت بمعنى أن أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون في حينه أسّسا داعش من خلال سحب القوات الأمريكية من العراق. وهذا لا علاقة له من قريب أو بعيد بمعنى كلمة التأسيس ولا سيما إذا فهمت بمعناها الحرفي مثلاً عندما يؤسّس شحص ما حزباً أو تنظيماً.
طبعا الإعلان يخدم الصرعات الإعلامية بسبب غرابته، وبسبب صدوره عن زعيم أمريكي مرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة. أما السبب الأهم فكوْن الإعلان بهكذا نص يدعم وجهة نظر الذين يعتبرون داعش منظمة صنعتها المخابرات الأمريكية . ولهذا لا بدّ من تلقفه والاستشهاد به باعتباره قد أصبح حقيقة موثوقة.
ولكن بدلاً من التمهّل يومين أو ثلاثة انطلقت تعليقات عدد من الصحفيين والكتاب، منذ اليوم الأول، إلى اعتماد تصريح ترامب باعتباره مسلّمة يمكن الاستناد إليها. وهي من نمط “شهد شاهد من أهله”.
على أن ترامب في اليوم التالي في 13 آب/ أغسطس تراجع عن اتهامه لأوباما وكلينتون بهذه التهمة التي وصفتها هيلاري كلينتون بأنها من “الكلام البذيء”، معلناً (ترامب) بالسخافة نفسها أو الضحالة ذاتها بأن اتهامه لأوباما وكلينتون عن “تأسيس داعش”، كان لـ”السخرية”، وغضب من الذين اتخذوه على محمل الجَد قائلاً “ألا يفهم أحد السخرية”.
على أن هذا التراجع الذي لا يحتمل التأويل لن يطوي صفحة التصريح الأول الذي سيظل حاضراً للاستشهاد الدائم به، ومن قبل كثيرين ممن لا يستطيعون أن يفسّروا ظاهرة داعش إلاّ باعتبارها مصنوعة أمريكياً بكل ما تحمل الكلمة “صنع”- “يصنع” من معنى. والأطرف أن ترامب عاد في اليوم الثالث فكرّرها ضدّ أوباما.
صحيح أن هنالك مدرسة راسخة عند كثيرين تفسّر الظواهر إما بـ”نظرية المؤامرة”، أو “الأيدي الخفيّة”، أو بالفبركة المخابراتية المباشرة. وهذه المدرسة لديها ما تقوله في دعم وجهة نظرها من خلال تاريخ استعماري طويل في المؤامرات والإنقلابات والتأثير في الأحداث. ولكن هذه الوقائع تظل محدودة جداً نوعاً وكماً بالقياس إلى الظواهر الكثيرة، بل أغلب الظواهر، التي نشأت وتنشأ ضمن ظروف وموازين قوى وشروط موضوعية وذاتية، ولا علاقة للأيدي الخفيّة بها، ولا للفبركات المخابراتية، ولا تنطبق عليها نظرية المؤامرة.
أما الفضيحة الأكبر من الناحية الفكرية والنظرية السياسية فهي استمرار اعتماد “نظرية المؤامرة” و”الأيدي الخفيّة” و”الفبركة المخابراتية”. بالرغم من أن موازين القوى التي سمحت للدول الاستعمارية من حبك المؤامرات والانقلابات والتلاعب بالأحداث ومصائرها قد تغيّرت تغيّراً أساسياً، كالتغيّر الذي يصيب الشاب أو الرجل عندما يصبح شيخاً متداعياً متهاوي القوى بعد أن كان قد شارك في الألعاب الأولمبية وفاز بالذهبية أو الفضية أو البرونزية.
لكن من جهة أخرى فثمة أسباب موضوعية وجيهة تسمح بأن يُستند إليها في تعزيز “نظرية المؤامرة” و”الأيدي الخفيّة” و”الفبركة المخابراتية”. وذلك من خلال تفسير سياسات داعش، وبحق أنها تخدم أمريكا وتستغلها أمريكا، ولهذا هي صنيعة للمخابرات، أو صنيعة لأمريكا، بل وحتى وهي تدخل حرباً مع أمريكا وفيما تسهم أمريكا بعملية المشاركة في الحروب التي تشنّ ضدّها. وقد راحت تفتك بعدد كبير من قادتها من خلال الاغتيالات و”الطائرات بدون طيار”. فإفادة أمريكا منها تُعتبر حجة قويّة بالرغم من الحرب بين الطرفين.
والحرب شيء جَدّي، ولا مجال للتعامل مع الذين يتقاتلون فيها، ويَقتلون بعضهم بعضاً، وبلا رحمة بالضرورة، بأنهم “أصحاب”، أو يلعبون بمسرحية أو أحدهما صنيعة للآخر.
ومع ذلك عندما يحللون سياسات داعش وما تلحقه بسمعة الإسلام والجهاد الإسلامي من إساءة، أو يتابعون كيفية استخدام أعداء الإسلام تلك السياسات لشنّ الحملات ضدّ الإسلام والمسلمين. وقد تصل إلى حدّ إلحاق الأضرار الفادحة بالذين توّطنوا في الغرب، كما بالقضيّة الفلسطينية.
هنا يمكن للعقل أن يقفز ليربط بين واقعتين مختلفتين، ليس ثمة رابطة مباشرة، كما يفعل، بينهما. وذلك بالاستناد إلى منطق يقول ما دامت تلك السياسات تسيء للإسلام والمسلمين إلى هذا الحدّ الخطير وما دامت أمريكا والصهيونية والغرب عموماً يفيدون منها في حربهم ضدّ الإسلام والمسلمين: إذن فإن ذلك يؤكد بأن داعش صنيعة أمريكا ويأتي تصريح ترامب ليستخدم كدليلٍ آخر.
إن اتهام سياسة ما بأن العدّو يفيد منها، أو تخدمه، فهذا لا يعني أن العدّو هو مَنْ صنعها أو أوحى بها. فكل نظام يمكن أن يتهّم معارضته. بل كل حزب يمكن أن يتهّم منافسه بأنه يخدم عدّو الأمّة، أو هو صنيعة له، ما دام من غير المنطقي أن تكون هنالك دوافع وراء تلك السياسة غير النتائج التي يريدها العدّو. بل أغلب السياسات هي كذلك، أو يمكن تأويلها بطريقة ذلك المنطق الشكلي الخاطئ الذي لا يحترم الوقائع والبرهان الصحيح.
إن من يدقق بسياسات داعش، كل سياسات داعش، ما دامت مُوجَهة ضد الجميع أو ضدّ كل من ليس داعشياً يمكن تأويلها بأنها تخدم خصمه عندما تكون مُوجَهة ضدّه، كما يُمكن لخصمه أن يتهمها بأنها في مصلحته هو ما دامت مُوجَهة ضدّه. وهذا يفسّر لماذا كثيرون ساعدوا داعش أو سهّلوا لها من أجل أن تفتك يخصومهم. ثم انتقلت لتفتك بهم. لأنها ضدّهم أيضاً أصلاً. وهنا يمكن أن تَلقى دعماً من خصومهم حين تغيّر اتجاه بندقيتها.
مشكلة ظاهرة داعش أنها ضدّ الجميع. وتعمل لحسابها وبأساليب مناقضة لقِيَم الإسلام والقِيَم الإنسانية عموماً. كما مناقضة لمصلحة كل قطر عربي وضدّ الشعب بكل مكوّناته وضدّ العرب والمسلمين كما ضدّ أمريكا والغرب وكل المساجد والكنائس والمعابد. بل هي ضدّ نفسها. ولهذا على التحليل الدقيق أن يفهمها على هذه الصورة. ويواجهها على هذا الأساس.
بل لو تأملنا فعلاً بالأضرار التي ألحقتها سياسات داعش بالإسلام وبالعرب والمسلمين وبقضية فلسطين لكفى ذلك إدانة لها وحشداً لمحاصرتها وشنّ حربٍ ضروس ضدّها. وهي التي أشعلتها وما زالت حريصة عليها، ولم تُقِم أيّة اعتبار لنتائج سياساتها وأفكارها وممارساتها وكيفية استخدام أعداء الأمّة لها.
ويكفي أن يُلاحَظ، أيضاً، كيف راح “يُعبّئ” الرأي العام الغربي ضدّ فلسطين والعرب والمسلمين في الوقت الذي راحت تميل كفة هذا الرأي العام ضدّ الكيان الصهيوني وفي مصلحة الفلسطينيين ولا سيما انتفاضة القدس والمقاومة في قطاع غزة. مما يسهل إنزال الهزيمة بحكومة نتنياهو وجيشه المهزوم في أربع حروب.