استحالة دور (إسرائيل) شرطياً في العالم العربي – معين الطاهر
منذ بدء تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، والاعتقاد السائد أن الغرب الاستعماري زرع الكيان الصهيوني في وسط منطقتنا العربية، ليشكل قاعدةً متقدمةً للاستعمار في العالم العربي، تحرس تجزئته، وتدافع عن المصالح الغربية فيه، وتجهض أي حالة نهوضٍ قد تكتنفه، عبر قيامها بدور الشرطي في المنطقة.
وإذا كان هذا هو أحد المبرّرات الغربية للموافقة على إقامة الكيان الصهيوني بداية، إضافة إلى ما عرف بالسعي للتخلص من “المسألة اليهودية” في أوروبا، ومن ثم الاستمرار في دعمه، وتأييد سياساته الاستيطانية، وتمويل حروبه العدوانية لاحقاً، فإن الأسئلة المطروحة هنا، هو هل نجح الكيان الصهيوني في القيام بدور شرطي المنطقة؟ وما هو الدور الذي يسعى إليه في هذه المرحلة؟ وما هي الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها؟ وكيف يحاول استعادة دوره؟ وما تأثير ذلك على رؤيته لحل القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني؟
لا بد من التسليم أن الكيان الصهيوني وداعميه نجحوا في غرس فكرة أن الهراوة الصهيونية في المنطقة جاهزة ومستعدة للتدخل لحماية الأنظمة الحليفة، أو لمنع أي تطور إيجابي فيها يعرض المصالح الغربية للخطر. وبذلك، فإن استراتيجية الردع والتحذير من عواقب أي مساس بمصالح الغرب ظلت، على الدوام، سياسة غربية وصهيونية دائمة، تجسّدت بالإيحاء بإمكانية التدخل العسكري الصهيوني المباشر في مواجهة أي تطورات. وحتماً، كان لاستراتيجية الردع هذه صدى واسع في مجمل السياسات العربية.
وهنا، ينبغي التفريق بين الاعتداءات الصهيونية المتواصلة التي كانت تجري على طول الحدود مع لبنان وسورية وقطاع غزة والأردن، وحتى الضربات الجوية التي وجهت إلى عمق هذه الدول، بغرض فرض أمر واقع وتحقيق إنجازات جزئية، ودور شرطي المنطقة الذي يعمل على الهيمنة عليها، والمساهمة في رسم سياساتها، والتحكّم بها، والقيام بدور إقليمي رئيس فيها ممثلاً لمصالحه السياسية وللغرب الاستعماري.
سياسة مخلب القط الاستعماري وشرطي المنطقة لم تطبق عملياً إلا في حالاتٍ محدودة، قبل أن تتراجع هذه السياسة، وتُدفن في حرب الخليج إبّان غزو صدام حسين الكويت.
الحالة الأولى: كانت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بعد تأميم الرئيس جمال عبد الناصر قناة السويس، إذ استخدم العدوان الإسرائيلي مبرّراً للتدخل البريطاني والفرنسي، بدعوى حماية طرق الملاحة الدولية. يومها احتلت إسرائيل سيناء التي انسحب منها الجيش المصري بعد نزول القوات الأجنبية في منطقة القناة، لكن العدوان فشل فشلاً ذريعا أمام الإرادة المصرية أولا، وأمام ضغط المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت تحل مكان الإمبراطورية البريطانية التي كانت شمسها قد بدأت تغيب، ليدق هذا العدوان مسماراً آخر في نعشها.
الحالة الثانية: كانت في حرب يونيو/ حزيران 1967، وحقّق فيه الجيش الإسرائيلي نصراً حاسماً على الجيوش العربية، يومها قيل إن وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه دايان، كان يجلس في مكتبه منتظراً أن يقرع جرس هاتفه ليتلقى مكالمات الزعماء العرب. وبدلا من ذلك، تلقى لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث الشهيرة، “لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات”، وتنامي العمل الفدائي ومعركة الكرامة وحرب الاستنزاف. ولم تستطع نكسة حزيران أن تُحدث اختراقاً إسرائيلياً في الواقع العربي، أو أن تلد الهزيمة استسلاماً عربياً للواقع الصهيوني.
“أيلول” الأردني وحرب أكتوبر
بخلاف هاتين الحربين، وخارج إطار استراتيجية الردع والتلويح بالقوة، لم تتمكّن إسرائيل من القيام بدور الشرطي في الأزمات التي عصفت في المنطقة، وبدا هذا واضحاً بعد ثورة العراق والتظاهرات التي اجتاحت الأردن، حيث اضطر البريطانيون إلى إنزال قواتهم في عمّان فترة محدودة، وإبّان حوادث أيلول 1970 المؤسفة، وتقدّم القوات السورية في شمال الأردن، وفي الوقت الذي كان الملك حسين يبذل جهده، مع حكومته العسكرية التي أنشأها من أجل تفويضه باستدعاء قواتٍ أجنبية، إذا دعت الحاجة في ظل أوضاع البلاد المضطربة، فإن خيار التدخل العسكري الإسرائيلي قد استبعد، وغاية ما سمحت به الولايات المتجدة تحليق للطيران الصهيوني فوق أرتال الدبابات السورية فترة وجيزة.
أما في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وعلى الرغم من حظر تدفق النفط العربي، فإن إسرائيل لم تتمكّن من القيام بدورها، وتأمين استمرار تدفق النفط، ولم تصمد في هذه الحرب إلا بفضل الجسر الجوي الأميركي المباشر والسماح لها باستخدام المخزون الاستراتيجي الأميركي من السلاح، وبعد الحرب، اكتشفت الولايات المتحدة أن عليها أن تتبع استراتيجية مختلفة لضمان تدفق النفط يتضمن التهديد بتدخلها المباشر.
ساهم نهوض الحركات القومية واليسارية والإسلامية، وتشكل الدولة القطرية العربية المستقرة نسبياً، وتراجع الاستعمار على مستوى العالم، في الحد من فرص إسرائيل بالقيام بدور الشرطي المباشر في العالم العربي، وإن كان قد بقي محتفظاً بالهالة التي أحاط نفسه بها فترة لاحقة، لم تفلح المحاولات الصهيونية خلالها، حرباً أو سلماً، في اختراق النظام العربي الرسمي، ذلك أن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر السادات لم تؤدِّ إلى تغلغل العدو الصهيوني داخل الصف العربي، بقدر ما أدت إلى عزلة النظام المصري، أما اجتياح لبنان ودخول الجيش الإسرائيلي أول عاصمة عربية، وتنصيب بشير الجميل رئيساً للبنان، من خلال مدافع الدبابات الإسرائيلية المرابطة حول القصر الجمهوري، وتوقيع اتفاق 17 أيار بين لبنان وإسرائيل، ليصبح لبنان الدولة الثانية التي توقع صلحا معها، فقد انهار هذا كله في غضون بضعة أشهر. اغتيل بشير الجميل، قبل أن يدخل قصر بعبدا، وتم إلغاء الاتفاق بعد فترة وجيزة، لينهار الحلم الإسرائيلي، وينهار معه الشريط الحدودي والجدار “الطيب”، ويضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، بفعل المقاومة التي أفقدته كل ما أنجزه في لبنان منذ 1976.
وجاءت الضربة القاصمة لدور الشرطي الإسرائيلي في المنطقة في أثناء حرب الخليج الأولى واحتلال صدام الكويت عام 1990-1991، في حينها، شكلت الولايات المتحدة قوة عسكرية من مختلف دول العالم، ومن ضمنها قوات من دول عربية، لتحريرالكويت، في حين تم استثناء إسرائيل من المشاركة في التحالف الدولي، وعلى الرغم من تهديد صدام بقصفها بالصواريخ، بل والقيام بذلك فعلاً، من دون أن يتجرأ رئيس الحكومة الإسرائيلية، إسحاق شامير، بالرد ولو بطلقة واحدة على الصواريخ العراقية، ليس خوفاً من القدرة العسكرية العراقية التي تم تدميرها، ولا لعدم رغبته الجامحة في أن يشارك الحلفاء نصرهم، ولكن إذعاناً منه لإملاءات الولايات المتحدة وضغوطها، وهي التي بلغ حرصها على تجنب شبهة مشاركة إسرائيل في الحرب الدائرة في الخليج، أن امتنعت طائراتهم عن التحليق، عبر مجالها الجوي، في طريقها لضرب العراق، أو استخدام مخزون الأسلحة والذخائر الاستراتيجي المحفوظ لديها، وتولت بطاريات صواريخ باتريوت أميركية بطواقمها حماية المدن (الإسرائيلية) من الصواريخ العراقية.
كان لهذا القرار مغزاه الكبير، لم تعد إسرائيل الشرطي المعتمد القادر على حماية المصالح الأميركية أو الغربية في المنطقة، بل أصبحت، بحكم حالة العداء العربي الشعبي ضدها، عبئاً على حلفائها الغربيين، المطالبين دوما بالإعراب عن استعدادهم لتوفير ضماناتٍ لحماية أمنها ووجودها. أصبح شرطي المنطقة يحتاج من يضمن له سلامته واستمرار وجوده. وازدادت عزلته في المنطقة العربية، كما تنامت الضغوط الدولية عليه، من أجل إجباره على تقديم تنازلاتٍ، ولو محدودة، في مفاوضات السلام.
ما بعد “أوسلو ”
جاء الاختراق الأول للوضع العربي عبر اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وتلاه بسرعة قياسية اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، لتكون الأردن الدولة الثالثة التي تبرم اتفاقاً مع إسرائيل، بعد مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية. الخطير في “أوسلو” أنه اتفاق بين أصحاب الأرض والقضية وعدوّهم، ما أعطى مبرّراً لعدد من الدول العربية، مثل تونس وموريتانيا وقطر والمغرب، لفتح مكاتب تمثيل إسرائيلية بمستويات مختلفة، ما دام صاحب البيت قد فتح لهم الباب لذلك.
اعتقدت إسرائيل أن سلامها مع الفلسطينيين سيفتح الباب واسعاً أمامها لعلاقاتٍ مع الدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث المؤيدة للقضية الفلسطينية، واعتقدت قيادة منظمة التحرير أن ذلك سيساهم في فك عزلتها العربية التي أحاطت بها بعد حرب الخليج في 1991، إلا أن سياسة الأرض مقابل السلام قد انهارت أمام أول امتحانٍ عملي لها، اغتيل إسحق رابين (كان رئيس حكومة إسرائيل) في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، واندلعت الانتفاضة الثانية بعد رفض إسرائيل الانسحاب، واستشهد ياسر عرفات، واجتاح الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية، معلناً عودة قواته للعمل في كل مناطقها.
خلال ذلك وبعده، تمت إعادة إنتاج اتفاق أوسلو بطريقةٍ أكثر سوءاً من سابقتها، عبر اتفاقيات التنسيق الأمني التي حولت السلطة إلى حارس للاحتلال المجاني للأرض الفلسطينية. وفي ظل هذه الاتفاقات، تنامى الاستيطان بشكل لم يسبق له مثيل، إذ بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية ما يقارب 780 ألف مستوطن، يسيطرون على أغلب منطقة (ج)، والتي تبلغ مساحتها 62% من مساحة الضفة، وتعثرت كل أشكال المفاوضات، ما جعل لحل الدولتين نهايةً محتومة، ووضع السلطة الفلسطينية ومستقبلها ووظيفتها أمام مستقبلٍ بات المتحكم الرئيس به العدو الصهيوني.
أدّى تعثر الحل مع الفلسطينيين إلى وقف المبرّرات للتطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل عبر البوابة الفلسطينية، وفقدت بذلك إسرائيل فرصتها لكي تكون عبر هذا المدخل جزءاً من نسيج المنطقة وأنظمتها، يؤهلها من جديد لتأدية دورها المفقود.
وإذا كان ذلك، بالإضافة إلى أحداث الربيع العربي قد أدى إلى إغلاق ممثليات إسرائيلية في بعض العواصم العربية، مثل تونس أو قطر، إلا أن عوامل الثورة المضادة التي استعادت مكامن قوتها فتحت الباب مجدّداً لعلاقاتٍ مع أطراف عربية مختلفة، تسعى إسرائيل من خلالها إلى استعادة دورها، بحسبانها جزءاً من المنظومة الإقليمية وطرفاً رئيسياً في صراعاتها.
لم تستطع الدبابة الإسرائيلية أن تفرض تطبيعاً رسمياً عربياً معها، ولم تستطع المفاوضات الثنائية أن تفرض مثل هذا التطبيع، على الرغم من المحاولات الخجولة التي تمت، بعد اتفاق أوسلو، للتطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، ذلك أن القضية الفلسطينية حافظت على مكانتها قضية مركزية للأمة العربية، وبقي العدو الصهيوني العدو الرئيس للأمة، على اختلاف أنظمتها ومللها ونحلها. منعت هذه المعادلة الكيان الصهيوني من الاختراق العلني للمنظومة العربية ككل، ولم تمكّنه حالات الاختراق المحدودة (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة) من أن يكون طرفاً فاعلا في هذه المنظومة.
دور الثورات المضادة
لكن، ثمّة مفاهيم بدأت تتغير في منطقتنا في أعقاب أحداث الربيع العربي والثورات المضادّة، وتتعلق بأولويات الصراع وأطرافه، إذ لم تعد إسرائيل، في رأي بعض القوى والأنظمة، التهديد الرئيسي للمنطقة، واختلط الصراع السياسي مع الخلاف المذهبي الذي ارتدى طابعاً طائفياً يهدّد الأمة بالانقسام والتمزق، ورأى بعضهم أن تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة يشكل التهديد الأول، وربما الأخير، إضافة إلى الرغبة الجامحة في التخلص من الحركات الإسلامية، المعتدل منها أم التي اتخذت أشكالاً متطرفة، تكفر الجميع وتحارب الكل.
فتح هذا المجال واسعاً لتغييرات عميقة في السياسة الإسرائيلية التي بدأت تتحدّث عن اجتماع المال العربي والقدرة الإسرائيلية، على حد تعبير وزير الحرب الحالي، أفيغدور ليبرمان. اعتقد قادة الكيان، المتجه أكثر فأكثر نحو اليمين الصهيوني الفاشي، أن ثمة فرصة سانحة للعب دور إقليمي مباشر، عبر التحالف مع جزء من النظام العربي، واختلاق عدو مشترك للطرفين، وهو المنفذ الذي تسعى إسرائيل للدخول منه عبر تعميق حالة الاصطفاف المذهبي في المنطقة.
بعد اجتياح غزة (2014) قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن إسرائيل كسبت، في هذه الحرب، حلفاء استراتيجيين جدداً، وبدأت السياسة الإسرائيلية في المنطقة وتجاه الفلسطينيين في التغيير، لم يعد الاستيطان أو ضم أجزاء من الضفة الغربية، في نظر القيادة الإسرائيلية، شيئاً ضد السلام، بل إن مفهوم السلام بذاته قد تغيّر، فحسب المدير العام لوزارة الخارجية، دوري غولد، في لقائه، في يوليو/ تموز الماضي، باللواء السعودي المتعاقد، أنور عشقي، في القدس المحتلة، ينتقد المفهوم السائد حول السلام مع الفلسطينيين كمساعد على التطبيع مع العالم العربي، إذ يعتقد أن العكس هو الصحيح، “إذ أن تحسين العلاقات مع العالم العربي قد يهيئ المسرح لاختراق مستقبلي مع الفلسطينيين”.
لم يعد الموضوع الفلسطيني هاجساً عند القيادة الإسرائيلية، والتي عبر ليبرمان عن سياستها التي أطلق عليها اسم العصا والجزرة، فهي، على المستوى الداخلي، تسعى إلى تفكيك السلطة الفلسطينية، وإعادة تركيبها كي تتكيف مع الوقائع التي صنعها الاحتلال، بحيث لن يكون لما يتبقى منها في النهاية أكثر من سيادةٍ محدودةٍ على السكان في تجمعاتهم الكبرى. وعلى المستوى الخارجي، ترتيب علاقات إسرائيل الإقليمية، بحيث يعود لإسرائيل دورها الذي فشلت فيه سابقاً، حيث يصبح العدو لاعباً أساسيا في صراعات المنطقة، وطرفاً مباشرا فيها، وفي ذلك خطورة كبرى على مسار القضية الفلسطينية، ومحاولة جديدة من أجل تصفيتها، وسط صمتٍ عربي يتحدّث عن “سلام دافئ”، وعن “مخرج للقضية”، من دون أي حديثٍ عن حقوقٍ مشروعة للشعب الفلسطيني، كما في تصريحات عبد الفتاح السيسي أخيراً. وفي مواجهة ذلك، ثمة عجز فاضح في أوساط السلطة الفلسطينية، ينذر بمخاطر كبرى، تتهدد القضية المركزية للأمة العربية، لولا بعض من أمل في جيل عربي يقاوم التطبيع، وجيل فلسطيني يمتهن المقاومة.