إلى ناجي العلي بلا عنوان – عادل سمارة
وأنت وحدك تذكره وتتذكره. في أكثر من زاوية في مكتبتك “القرمطية” اثر لناجي العلي. في خلوتك تعانق الصمت حيث تعود إلى الفطرة الأولى قبل اللغة مع حضور عذابات الفكر لتنطق فلا تُحسن ذلك.
مهلا، إذن لا بد من القهوة، سمراء في فنجان أبيض يُحدِّق بياضه الخالص بسمرتها التامة، هي نفسها التي سقاني إياهل طعما مُرَّاً وذكرى أكثر مرارة إنما هي شحنة للصد والرد. كان ذلك صباح الإثنين في مبطخ بيته في ضاحية ويمبلدون في لندن، صب لي وله وقال: عادل هالمرَّة رح يقتلوني” وحصل.
تُسأل عنه، تختلط الصور في الذهن والروح، كلمات من حجر الصَّوان تقطع الطريق على الكلام. كلمات من القلب والروح تذهب للبوح وكلمات من العقل والمشاعر تحذرها من القتل. فما أسهل أن يتحول البوح إلى رصاص في بلادي.
إغتاله التطبيع فكان النبي الأول على صليب فلسطين. هل كان أن سدَّ ناجي العلي بوابات الرعب جميعاً، وما أن أغتيل حتى فاض رصالص التطبيع على الأمة كاملة. بين البوح وبين الامتناع، تطغى عليك الحشرجة ، يتهدج الصوت، يصيح بك البكاء دعني، فتتماسك.
ولكن، الا تبكي الرجال؟ بكى محمد فقال: “إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع”. وبكى إنجلز رفيقه فقال: “أي مشعل للفكر قد انطفىء، اي قلب توقف عن الخفقان” لكن ناجي أُغتيل، فيا ألم الدهر لن تتوقف في داخلي.
هل تعرف معنى بكاء الروح؟ إنه سحق الباكي من داخله في داخله وغسلك بالعطر والياسمين، كيف لا ومن يستحق إلاّك.
ولكن، لا، دع البكاء للزمن الذي قد يأتي لأن هذا زمان حراسة الثغور، لا وقت للنوم ولا للبكاء.
كأنه اللحظة مسجى في ذلك المشفى في لندن، نتخيله حيا، بينما لايعرف انه مات منذ اللحظة الأولى التي أطلق عليه التطبيع رصاصته الوحيدة، سوى ثلاثة: الله والقاتل والشرطة البريطانية.
هو الهادىء، قسمات وجهه تنبىء عن توازن نفسي داخلي ربما هو سر إبداعه وابتكاره الذي فاض ب اربعين الف لوحة، كتب عنها المحقق البريطاني إلى أم خالد جملة واحدة: ” لم نجد في الأربعين ألف لوحة التي اختبرناها ما يوجب القتل”.
كلا يا هذا، لو فكرت قليلا لتذكرت بأن سلطة بلدك هي التي زرعت في وطن حنظلة ما قاد لاغتيال خالق حنظلة الرافض المعترض العنيد بصمت وهدوء. إغتيال يمتد اليوم إلى الأمة بأسرها. سلطة بلدك هي خالقة القاتل الطاغية. الطاغية جبانا، فّزِعاً، يُبيد كل لا ينبطح ارضا ليدوس عليه. إنه رُعب الطاغية الذي يتخيل أنه لن يموت.
كلما تذكرته، تذكرت قول شوقي في رثاء حافظ:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي…يا منصف الموتى من الأحياء”
أنت ايها االبسيط بعمق والهادىء بقوة، والمنتمي بصمت. وحدك الذي غيابه حضور، ووجوده إلهام، انت الذي عمرك الأبد، فاين القتلة؟ لن اقول اليوم.
في سيارتي الطريفة التي ابتعتها من إبن برجوازي إيراني هارب من الثورة انتظرنا ناجي العلي في محطة بروديي لقطار ما تحت الأرض لنأخذه إلى بيتنا. كان اول لقاء، وكان لحظتها أشد من الوضوح البسيط. بعد مسافة قصيرة قال، وأنت دكتور، “والله قبل ما تحكي فكرتك من جماعة وبما أنه” في تهكم على المثقفين.
لكن كل تأدبه وهدوئه لم تزحزحانه عن موقفه قيد أنمله. في لقاء حضره جمع من المثقفين، احتذ النقاش ضد التطبيع، جلس ناجي على ركبة ونصف، وقال: “أنا ضد التطبيع واللي بدو يطخني يطخني”. وما هي إلا بضعة ايم حتى اغتيل ناجي.
حينها كان التطبيع يتسلل من تحت إبط الفاشيين المطبعين بكاتم الصوت، أما اليوم، فيقيم التطبيع المحاكم والمشانق. إنها أمة باسرها تُقام لها المشانق كما الأعراس في البوادي والسهول ويلوِّح الفاشي والمطبِّع ببيارق سوداء كالليل الذي سيتبعه فجرنا، فسلام عليك وسلام لك أيها الخالد ابا خالد .