ليبرمان المُعَدَّل! -عبد اللطيف مهنا
حققت صحيفة “القدس” الصادرة في العاصمة الفلسطينية المحتلة سابقةً وسبقاً كان لهما ما بعدهما. السابقة هي خطوة تطبيعية بامتياز لم يسبقها لها منبر اعلامي اوسلوي آخر، وهى فتح صفحاتها على الرحب والسعة لتغدو منبراً صال وجال من خلاله مجرم من أمثال ليبرمان، وزير الحرب الصهيوني، مخاطباً الشعب الفلسطيني مباشرةً، وموجهاً عبرها ما شاء من رسائل شيَّعها لكل من يهمه الأمر في الساحتين الفلسطينية والعربية، كما لم يخلو منها ما خص به ساحته الداخلية أيضاً.
أما السبق فهو نجاحها عبر ما نجم عما تفضلت فاتاحته، ولشخص مثل هذا الليبرمان بالذات وما صرَّح به و تطرَّق اليه ووجَّهه من خلالها، في اثارة ضجة شملت الساحتين الفلسطينية والصهيونية على السواء، وكلٍ فيهما تلقاها وفق موقعه وموقفه وفهمه للصراع ومن ثم لقراءته للشخص ولأقواله، أو الزاوية التي شاء أن يتعامل منها مع ما صدر عنه.
إن قلنا سابقة، فهذا لا يعني استغرابنا اقدام مثل هذه الصحيفة على مثل ما أقدمت عليه، وإنما لمستجد في مدى فجاجة شكلها التطبيعي الذي فاجأتنا به، أما جوهراً فالأمر لا يعدو كونه مجرَّد جزئية في سياق عام لحالة اوسلوية تطبيعية مزمنة وشاملة وصلت مداها في متعدد اشكال التعاون الأمني بين أجهزة السلطة وأجهزة الاحتلال، والذي بلغ حد التعاون في ملاحقة المقاومين للاحتلال والتناوب في اعتقال النشطاء المعارضين له وللسلطة، ومنه ما حدث مؤخراً لستة من هؤلاء أفرجت عنهم السلطة بعد اعتقال فاعتقلهم الاحتلال…تعاون لدرجة ارتفاع مكانته المعلنة عند رئيس السلطة لمنزلة “المقدس”… وتصديق ليبرمان على هذا التقديس عبر تذكيره صاحبه، وفي ذات المقابلة مع ذات الصحيفة، بأنه “من دون التعاون الأمني معنا لن يكون قادراً على البقاء”.
اغلب رسائل نتنياهو كانت موجهة للفلسطينيين بيد أن ضجيجها الذي جلبته كان اغلبه صهيونياً. الفلسطينيون، منهم من صدمته سابقة التطبيع فاستنكرها وبدا وكأنما هو ليس ازاء جزئية فحسب من حالة تأتت من مسار تطبيعي شامل، أو ما اشرنا اليه آنفاً، وآخرون جل ما همهم هو أن ليبرمان قد اقترف خطيئة لا تغتفر، وهي أنه قد تجاوز السلطة والفصائل فخاطب الشعب الفلسطيني مباشرةً! وكأنما هناك في الكيان الصهيوني من همه يوماً تقيداً بعدم الإقدام على مثل هذا التجاوز، لاسيما وأنهم يعلمون أن الموكل اليه الوحيد أمر مخاطبة السلطة في الكيان قد بات حصراً اللواء الأمني يؤاف مردخاي، الذي يُدعى “منسق الأعمال في المناطق”، بمعنى الحاكم الفعلي للضفة، باعتباره المشرف على التنسيق الأمني مع السلطة، والذي نسق مقابلة ليبرمان مع الصحيفة وكان حاضراً إلى جانبه ابانهاً.
…ما خلا هذا كانت ردود فعل الفصائل المعهودة، والتي، وكالعادة، وعلى اختلافها، لم تتجاوز موضوعياً ولن تتجاوز، من حيث وزنها، المقولة المأثورة، اوسعتهم شتماً وفروا بالإبل!
صخب ردود الأفعال الصهيونية انصب بمجمله على تباين حدة اللهجة اللبرمانية عند صاحبها وهو في موقع المسؤولية عنها أيام كان خارجها في المعارضة. بمعنى أن الحدث لم ينظر إليه خارج كونه مادةً صالحةً للاستخدام المعتاد في بازارات المماحكات بين الأطراف السياسية المتنافسة ومزايداتها اعلامياً، حيث تكثر هنا المقارنات بين مقاربات ليبرمان الفلسطينية مختلفة الحدة في الموقعين.
باختصار، هناك من استهجن انضباط ليبرمان المستجد والذي لم يعد مختلفاً فيه عن نتنياهو أو الجنرال ايزنكوت… وباختصار أيضاً، لا من جديد في كل ما قاله ليبرمان، والفارق أن ما كان يقوله سابقاً كان هو المضمر صهيونياً وما يقوله الآن هو المنسجم، أوقل المتهادن، مع الرسمي المعلن، والذي لا يتناقض مع ذاك المضمر وإنما يموهه، ويمكن تلخيصه في مسألتين:
موقفه، والذي لا يختلف عن موقف نتنياهو، من ابي مازن مع بعض المزايدة عليه، وتلويحه لحماس بالعصا والجزرة…حمل على الأول باعتباره عنده “غير شريك” موثوق، وهدد الثانية بأن “الحرب المقبلة ستكون مدمرة والأخيرة لهم” ولغزة، لكن، “إذا توقفوا عن التسلح وحفر الأنفاق فسنعطيهم ميناءً”!
بالنسبة لحركة حماس هناك من الصهاينة من تطوع فرد على لبرمان نيابةً عنها. صحيفة “يدعوت احرونوت” سارعت فذكَّرته بأن مسألة الحسم التي يتوعَّدها به هي مستحيلة “مع منظمة تعمل في المنطقة الأكثر اكتظاظاً في العالم جاهزة للمواصلة ولإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل حتى يومها الأخير”.
أما فيما يتعلق بأبي مازن فلفت موقع “واللا” نظر ليبرمان إلى أنه وإن كان ” صحيحاً أن أبا مازن لا يقاتل بقوة شديدة التحريض الفلسطيني ولا يعتزم ذلك ، لكن هذا هو ذات ابي مازن الذي يتحمَّل رجاله المسؤولية كل الوقت عن احباط العمليات، عن اخراج الجنود والمدنيين الإسرائيليين من مناطق السلطة بسلام واعتقال رجال حماس والجهاد الإسلامي”.
…في الحالين، وعبر سابقة وسبق صحيفة “القدس” التطبيعية، ظل لبرمان الأحدث، أو المُعَدَّل، هو لبرمان النسخة الأصلية التي لا تتبدًّل، وإن تبدَّلت اللهجة بتبدل الموقع فكضرورة من ضرورات تبدله… لم يأت عبر صفحات “القدس” بجديد، ظل عند مقولته: إن “إسرائيل ليست بحاجة لأم الفحم”، الأمر الذي فسرته حتى الصهيونية عضوة الكنيست الصهيوني، رئيسة حزب “ميرتس” الصهيوني، زهافا غلئون، بأنه لا شيء سوى “الترانسفير”.