ترامب…اختارت اميركا من يُشبهها! – عبد اللطيف مهنا
من سوء حظ عالمنا الذي نعيشه اليوم هو ما يبدو من أن قدره التاريخي السائد في راهنه قد جعله في منزلة من لو عطست عنزة في واشنطن لتردد صدى عطستها في جنباته الأربع، ولوجد نفسه من ثم في موقع المحكوم بأن تتواتر في اطنابه ردود افعاله الرسمية وغير الرسمية على هذه العطسة، وحيث يكثر فيه المحللون لكنهها، والمتنبئون بما قد يكون الآتي من بعدها، وقد لا نعدم العائدون فيه بأثر رجعي لاستقراء تلكم المقدمات التي من شأنها أن ادت لحدوثها…
لا عجب، نحن هنا إزاء خريف الإمبراطورية الكونية الوحيدة في راهنه، أو حتى اللحظة، بل بليتة الأخطر، التي يزيد من خطورتها احساسها المتعاظم بتآكل آحاديتها القطبية الكونية المتزايد، وبدء تراجع سطوتها، فاهتزاز قدرتها على الإمساك بقرار العالم، وما يعنيه هذا من نذر افول امبراطوري مقبل وبات يلوح، إلى سائر اعراض ما بعد بلوغ القمة التي ليس من بعدها، وفق قوانين السيرورة التاريخية لسائر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، إلا الانحدار…خطورة واعراض هذا الإحساس هو فيما يستدعيه من رعونة محاولاتها، إن لم يك الحؤول دون الأفول، فأقله تأخير استحقاقه المحتوم.
بعض ما سبق يتبادر للذهن ونحن نشهد هذا العالم من حولنا يعيش كل هذا الانشداه، أو ما يتراوح بين عوارض المفاجأة ومظاهر الصدمة وسيماء الرعب، وهو يسمع بخبر فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، بعد ان اقنعته وسائل الإعلام الأميركية واستفتاءاتها المتواترة بفوز مؤزر منتظر لا شك فيه لمنافسته هيلاري كلنتون.
لندع العالم كل فيه، ومن موقعه، يرمق الحدث الأميركي ليراه بعينه ومن زاويته، وسنسمع هنا الكثير الكثير الذي خلاصته أن أميركا، الشعبوية، العنصرية، بل ألأنجلو سكسونية، يضاف إليه الرافضة للعولمة، قد اختارت من يشبهها فعثرت على ترامب، أو هو عثر عليها، ولا فرق…لندع كل هذا، ومعها أيضاً معهود القول بأن المؤسسة في هذه الشركة العظمى المسماة بالولايات المتحدة هي التي تحكم، أو هي الممسكة فعلاً بالخيوط التي تدير من خلف الستارة مسرح عرائس الرئاسة في المكتب البيضاوي… لندعه لأن كثر من سوانا سوف يتكفلون به، ولنقصر حديثنا على انفسنا كعرب، فهمنا للحدث الأميركي، وتداعياته علينا، وموقفنا منه…ولنأخذ الأمر على هدي مقولة ترامبوية جاءت في خطاب الفوز لخَّص فيها ترامب ترامب، واعداً أميركانه بما سوف ينتظرونه منه وما سوف يكرِّس نفسه له وهو “المصلحة الأميركية أولاً”، ومن بعدها “قواسم مشتركة مع الأمم”، وغني عن القول أن هذه الأخيرة لن تكون عنده قواسماً ولا مشتركة إن لم تك في خدمة المصلحة الأميركية.
…وعليه، وكعرب، ومن زاوية مصلحتنا نحن، التي لم ولن تلتقي يوماً مع المصلحة الأميركية، ونعني بالعرب هنا الأمة وليس أنظمتها، لأن مصلحة هذه القوة الأمبريالية الكبرى، والتي لم تلقَ منها أمتنا غير ما يؤكد كونها عدوها الأول، كانت دوماً نقيضاً موضوعياً لمصالحنا، لأنها تعني أولاً الوقوف إلى جانب أعدائنا، وثانياً نهب ثرواتنا، وقبله وبعده اخضاعنا واستتباعنا، وبالتالي السعي الدائم لتجزأة المجزأ منا وتفيت المتماسك فينا…علينا طرح السؤال التالي، وخصوصاً على أولئك العرب المتفجعين بفوز ترامب والمتباكين على خسارة هيلاري كلنتون:
ترى، وما هو الفارق بين الأميركي الفائز والأميركية الخاسرة أزاء أولوية المصلحة الأميركية وعدائية كليهما للعرب والمسلمين ومعهم مستضعفي العالم؟! ماهو سوى الفارق بين الوضوح الفج مقابل الخبث المخاتل والمراوغة المخادعة؟!
…مالفارق بين هيلاري كلنتون ودونالد ترامب؟!
الأولى من مؤيدي الحرب على العراق، والمتآمرين لتدمير ليبيا، والداعين للتدخل في سوريا، والمتعهدة في رسالة وجهتها للمليونير الصهيوني حاييم صبَّان بأنها في حال تولت رئاسة الولايات المتحدة “ستسمح لأسرائيل بقتل 200 الف طفل فلسطيني في غزة وليس ألفين”، في إشارة منها لمن قتلهم الصهاينة من أطفال في غزة ابان حربهم الأخيرة عليها.
والثاني، لعل ما يتميز به عن الأولى أنه قبل ترشحه للرئاسة لم يك سوى رجل اعمال. لم يك في موقع سياسي، ولا بذي خدمة عسكرية، ولم يُعرف بانتماء حزبي، ولا بصاحب موقف ايدولوجي، بل وكان الأقرب للديمقراطيين منه إلى الجمهوريين…قبل أن يأتي محمولاً على اجنحة الشعبوية والعنصرية، أو داعشية الواسب الأميركان، كان وسيظل لا يرى العالم إلا من خلال الدولار…اضف اليه تعهده بنقل السفارة الأميركية من تل ابيب إلى القدس، وقوله أنه يرى في نتنياهو استثماراً اميركياً مجزياً.
في مقال سابق لي ابان احتدام الحملات الرئاسية الأميركية آواخر الصيف، وإزاء حمئة هذا الكرنفال الهجائي الضاج بالبذاءات والابتذال، وحيث بدت فيه اميركا سادرة في عملية فضح نفسها بنفسها على ألسنة مرشحيها، قلت أنه لوكان لي أن ادلي بصوتي في انتخاباتهم لما ترددت في منح صوتي لدونالد ترامب، ولسبب واحد وهو أن فوزه يعني المزيد من انكشاف أكثر لوجه اميركا القبيح، كما أنه لوكان فلن يغير أو يبدِّل في تليد ثابت المواقف العدائية الأميركية تجاه قضايانا، أضف إليه أن مزيد من هذا الانكشاف قد يشفي وهو في منتهى سفور قبحه متأمركينا العرب من أوهامهم العضال المراهنة على تغيير هذا الثابت الأميركي، أو ما عساه قد يدفع باتجاه تخليصهم من استلابهم المقيم ودونيتهم المزمنة ازاء عدوة أمتنا الأولى.