التغلّب على الأزمة الداخلية الفلسطينية – د. عبد الستار قاسم
تعصف الأزمة الداخلية الفلسطينية المُتمثّلة بالانقسامات والاقتتال الداخلي وعدم احترام القوانين الفلسطينية بالشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. وقد أساءت هذه الأزمة للشعب الفلسطيني وأودت به من ضعف إلى ضعف، وإلى تشجيع العدو على التطاول بالمزيد على الأرض الفلسطينية وتسريع حركتي الاستيطان والتهويد. وقد هزّت هذه الأزمة أركان المؤيّدين للحقوق الفلسطينية والمُدافعين عن شعب فلسطين لأنهم بدوا على الساحات العربية والإسلامية والدولية وكأنهم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وتعرّضوا للكثير من التشهير والملامة والاتّهام بالقفز على إرادة الشعب الفلسطيني التي لم تعد حرّة.
لقد تصدّى العديد من الكتّاب والمُثقّفين الفلسطينيين المُفكّرين لهذه الأزمة وقدّموا العديد من الأفكار والآراء والمُبادرات للتغلّب عليها، لكن السياسيين من مختلف الأطراف غضّوا الطّرف وتجاهلوا كل ما يطرحه الآخرون. وتدخّلت دول عربية واستضافت الأطراف الفلسطينية المُتنازِعة من أجل التوصّل إلى اتفاق ينهي الصِراعات الداخلية، وكانت تنجح أحياناً. لقد وقّعت الفصائل الفلسطينية اتفاقات عدّة في ما بينها، لكن التنفيذ لم يحصل. اتفقت الفصائل في القاهرة عام 2005 وقبل الصراع الدموي بين فتح وحماس على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كمخَرج من أزمة كانت بوادر حدوثها واضحة، لكن التنفيذ بقي بعيد المنال. واتفق الفصيلان الكبيران على إقامة حكومة وحدة وطنية علماً أن هذه حكومة حُكم ذاتي لا سيادة لها ولا حرية في اتّخاذ القرار، وتشكّلت الحكومة لكنها فشلت وانفرط عقدها لتتّشكل حكومتان إحداهما في الضفة الغربية والثانية في غزّة. ثم حصلت اتفاقيات أخرى أهمها تشكيل إطار قيادي يقود الناس إلى الوئام والمحبة لكنه لم يجد طريقاً نحو التنفيذ.
والجدير بالذكر أن التخاصُم الداخلي الفلسطيني سرَى بسرعة إلى الجذور وانقسم الناس في ما بينهم. لم يبق الانقسام سياسياً لكنه سرعان ما أصبح اجتماعياً، ووقف الأخ ضدّ أخيه والجار ضدّ جاره، وارتسمت صورة مَقيتة من التمزّق الاجتماعي الفلسطيني. وتدهورت الثقة بين الناس إلى أن أصبحت العلاقات العامة تقوم على الشكّ المُتبادَل وليس على الثقة المُتبادلة. وإذا ساد الشكّ فَقَدَ المجتمع قيمتين أخلاقيتين في غاية الأهمية وهما العمل الجماعي والتعاون المُتبادَل. وعندما تنهار هاتين القيمتين تنهار القدرة على مواجهة الاحتلال. مؤخراً، طرح الدكتور رمضان عبد الله شلح مبادرة للتخلُص من الصراع الفتحاوي الحمساوي، وكان في ذلك ما يفيد لأن مبادرته شجّعت الحوار الداخلي وأحيت الاهتمام من جديد بإنهاء الانقسام. لكن يبدو أن الفصائل بخاصة حركة فتح لم تكترث جدّياً بالمبادرة لأنها دعت أولاً إلى التخلّص من اتفاق أوسلو، وسرعان ما ركد الجدل حول المبادرة وعزفت وسائل الإعلام عن الاهتمام بها. وأنوّه هنا أن بعض وسائل الإعلام اهتمّ بالمبادرة لأنها صادرة عن فصيل فلسطيني وله وسائل إعلامه.
استكمالاً لمبادرة الدكتور رمضان، أقدّم الأفكار التالية لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وليس فقط إنهاء الانقسام الفتحاوي الحمساوي: لقد قدّمتُ أفكاراً عديدة للخروج مما نحن فيه عبر السنوات ولم تنفتح شهية أي فصيل لمناقشة هذه الأفكار، وها أنا أكرّر الآن بعض ما طرحته عبر السنوات. فلكي نخرج من مأزق المفاوضات ومأزق الانقسام والتفتّت الاجتماعي، ومأزق التسوّل ومأزق غياب الإرادة الفلسطينية الحرة ومأزق التنسيق الأمني، أرى أن النقاط التالية قد تفتح الطريق أمام حوار فلسطيني واسع لا يقتصر على الفصائل:
أولاً: مطروح على فصيلي فتح وحماس السؤال: هل لديهما الاستعداد للانسحاب من السلطة الحاكمة لصالح تحقيق وحدة وطنية فلسطينية مؤقتاً لغاية إجراء انتخابات سياسية؟ ما يلي من أفكار لا قيمة له إذا كانت الإجابة سلبية، وله كل المعنى إذا كان هدف الفريقين استعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وليس البحث عن سُلطان والإمساك بالمال والقرار الفلسطينيين.
ثانياً: تشكيل هيئة وطنية لإدارة شؤون الحياة المدنية واليومية للشعب الفلسطيني من الخُبراء والمُختصّين والأكاديميين الفلسطينيين المُستقلين. هذا مختلف عن طروحات صهيونية حول إقامة مجلس إداري لأنه فلسطيني المنشأ والهدف، وهو مؤقت، ولا مفرّ من إقامته لأننا تورّطنا في الكثير من الأعمال المدنية واليومية التي لا بدّ من تغطيتها إدارياً. لا يكفي أن ندعو إلى حل السلطة لأننا في ورطة من ناحية إدارة الكثير من المؤسسات المدنية ويجب أن يتوافر لدينا جسم يُدير شؤون المؤسسات.
أعرّف المستقل بأنه المعروف بانتمائه الوطني لكنه غير مرتبط بأي فصيل فلسطيني وأية دولة عربية أو غير عربية.
ثالثاً: مهمة المجلس إدارية فقط، وليست سياسية، وله صلاحية فرض الأمن المدني. أي أنه يُشرف على قوة شرطة لها صلاحية الإشراف على الأمن المدني.
رابعاً: لا علاقة لهذا المجلس بالأمن الوطني، وتبقى مهمة الأمن الوطني بيد فصائل المقاومة التي تعمل سراً ومن دون التدخّل إطلاقاً في مُجريات الحياة المدنية واليومية الفلسطينية.
خامساً: على كل الفصائل الفلسطينية أن تدعم إدارة هذا المجلس إذا طلب الدعم من دون أن يكون لها حق الاعتراض. مَن شاء منها أن يُقاتل فالعدو أمامنا، ومن لم يشأ فله النشاط الاجتماعي. سادساً: يُحضّر المجلس بعد استتباب الأوضاع المدنية الفلسطينية لعمل انتخابات إدارية.
سابعاً: الجهاز الأمني الوحيد المسموح بوجوده هو جهاز الشرطة التابع مباشرة للمجلس الإداري. نحن لسنا بحاجة إلى أجهزة أمن أو قوة تنفيذية، ومن الضروري استيعاب أفرادها في مرافق أخرى. ثامناً: ينشط المجلس مع مختلف قوى الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها لإعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية بطريقة يتمثّل فيها الجميع وفق ميثاق تُجمع عليه مختلف القوى، والتي تتولّى بعد ذلك الإشراف على شؤون الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج بما في ذلك الشأن السياسي. هذا مجلس يُجنّبنا أمرين وهما المشاكل الناجمة عن صراعات الفصائل والآفات المُترتّبة على الاتفاقيات مع الصهاينة.
كيف يتشكّل المجلس يتم تخويل فصائل غير مُشارِكة في القتال الداخلي تشكيل هذا المجلس، واختصاراً للجُهد وتقليلاً للصَخَب، أقترح أن يتولّى فصيل إسلامي وآخر وطني غير فتح وحماس هذه المهمة بموافقة صريحة وعلنية من قِبَل مختلف الفصائل وعلى رأسها حماس وفتح.
الوضع الاقتصادي السؤال الأول الذي يتم طرحه: من أين الأموال إذا سرنا في طريق لا يعجب الدول المانحة والصهاينة؟ إذا كنا سنبقى مُعتمدين على الدول المانحة في لقمة الخبز، فبالتأكيد نحن لا نبحث عن دولة حقيقية أو حل مُشرّف للقضية الفلسطينية. من الممكن تخطّي عقبة الأموال إذا اتبعنا الخطوات التالية:
أولاً: لا مفرّ من تطوير عقلية الاعتماد على الذات وترجمة ذلك سلوكياً.
ثانياَ: الطلب من الاقتصاديين الفلسطينيين التفكير في بناء اقتصاد فلسطيني ما أمكن بطريقة تتناسب مع تطلّعاتنا نحو التحرير.
ثالثاً: التخلّي عن الكثير من البضائع الإسرائيلية والتوقّف عن استيراد بضائع يُمكن إنتاجها محلياً وذلك لتأكيد فكرة الاعتماد على الذات ولتوفير فُرَص عمل حقيقية للناس.
رابعاً: الطلب من الدول العربية التي تُعطي أموالها للدول المانحة تحويلها إلى فلسطين مباشرة.
خامساً: من المهم أن نعود إلى أساليب إدخال الأموال القديمة، وليس عبر مؤسسات مالية تخضع بطريقة أو بأخرى للرقابة الإسرائيلية والأمريكية.
سادساً: يجب التركيز على الزراعة وإلى إعادة الخيّاطين والنجّارين والحدّادين والنعّالين والنسّاجين ومختلف الحرفيين إلى ورشهم من خلال الحدّ من الاستيراد.
سابعاً: لا مفرّ أمامنا إلا أن نقبل بمستوى استهلاكي أقل من المستوى القائم حالياً.
ثامناً: التركيز على التحوّل الثقافي وبطريقة تتناسب مع مُتطلبات التحرير.
تاسعاً: إعادة ترتيب الهياكل الإدارية للسُلطة من خلال الهندرة (إعادة هندسة الإدارة) لنحرص على العدالة بين الناس وكسر احتكار الوظائف العامة من قِبَل الفصائل. نحن نستطيع ترسيخ الوحدة الوطنية الفلسطينية وإعادة القضية الفلسطينية إلى مكانتها الصحيحة على مختلف المستويات. ونستطيع أن يحمل بعضنا البعض الآخر وأن نتقاسم الرغيف. فقط نحن بحاجة إلى إرادة سياسية تقوم على الانتماء والالتزام الوطنيين.