الترامبية وتَصَدُّعُ “الحلم الأميركي”؟ – زاهي وهبي
كيف نفهم البُعد الثقافي لفوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية؟
وهل حقاً يأتي فوزه من خارج السياق أم نتيجةً طبيعية لتدهور منظومة القِيَم على مستوى العالم برمّته بفعل عولمَة طاحِنة تطغى فيها قِيَم السوق على ما عداها؟
للوهلة الأولى يبدو العالم أكثر انفتاحاً من ذي قبل، وغالباً ما نقرأ أن كوكبنا بات قرية واحدة بفعل العولمة المُتعدّدة المستويات والأبعاد، وبفضل الثورة الرقمية والميديا الحديثة التي قرَّبت البعيد (المفارقة أنها بعَّدت القريب)، وسهَّلت الاتصال والتواصل بين البشر في رياح الأرض الأربع جاعلةً الحدود الجغرافية غير ذات جدوى، وها هي موجات الهجرة عبر البرِّ والبحر تكشف كيف تهاوت الجدران بين البلدان والدول، وكشفت المستور في النظرة إلى الآخر، خصوصاً الآخر المُختلف في العِرق واللون والدين والطبقة الاجتماعية.
السؤال الذي يطرح نفسه فوراً هو التالي: هل حقاً زالت الحدود بين الشعوب والمُجتمعات، أم أن حدوداً سقطت لِتعلو أخرى مكانها أشدّ صلابة وأكثر ارتفاعاً؟ لئن وافقنا على مقولة “القرية الواحدة” أو “القرية الكونية” نستطيع الاستنتاج بسهولة أن الكلَّ بات يعرف الكلَّ، وهذا بعض ما يُميّز مجتمعات القرى حيث الجميع يعرفون بعضهم بعضاً، لكن كما هو واضح فإن هذه “المعرفة” القروية/الكونية لم تؤدِ إلى تلاقُحٍ وتناغُم بل إلى مزيد من الفجوات والتباعُد بين عالمين يبدو أنهما متوازيان لا يلتقيان أبداً بسبب “عولمة آحادية” قائمة على مُعادلة مُنتِج ومُستهلِك، لا عولمة مُتكافئة يتساوى فيها الجميع إنتاجاًً واستهلاكاً.
لقد تم ترييف العالم ولكن من دون القِيَم النبيلة للريف مثل النخوة والكرَم وروح التعاون. ريفية عالمنا المُعاصر ليس فيها من الريف سوى ضراوة الكاوبوي وطِباع رُعاة البقر. لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي مُجرّد سقوط لقوة عُظمى ونهاية لحرب باردة بين قطبين عالميين، بل أيضاً انهيار لقِيَم إنسانية نبيلة مثل التحرّر والمساواة والعدالة الاجتماعية. وهكذا شهِدت حُقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة تعميقاً للهوّة الهائلة (التي اتّسعت بُعيد الحرب العالمية الأولى وترسَّخت بُعيد الثانية) بين عالمين شهد أحدهما قفزات واسعة بفعل الثورة الصناعية، وتراجع الآخر نتيجة تخلّفه عنها ووقوعه فريسة المطامع الاستعمارية، ثم بين فكيِّ عولمة استهلاكية وضعت جانباً كل المُثُل والفلسفات الساعية المُحترِمة لحقوق الإنسان في معزل عن قدرته الشرائية، وأعلت شأن قِيَم السوق التي لا ترى الناس سوى مُستهلِكين. فيما أسفرت الثورة الرقمية عن تعميق تلك الهوّة في وقت بدت فيه أنها تُجسِّرُها، كيف؟
للوهلة الأولى يبدو العالم أكثر انفتاحاً بفعل سهولة التواصل بين الناس وسرعة تداول المعلومات. فما كان يحتاج شهوراً صار يحدث بإغماضة عين، وما كان يستلزم أياماً بات يحصل بكبسة زرّ. لكن مقابل انتفاء أهمية المسافات والحدود الجغرافية وُلِدَت مسافات وحدود جديدة، انكشاف المجتمعات أمام بعضها بعضاً بلا رتوش ولا زينة جعلها_عِوَضَ تقاربها وتعارفها_أكثر خشيةً وخوفاً من بعضها بعضاً.
عوامل الخوف على الهوية وخصوصيّاتها تفاقمت لأسباب عديدة منها الفجوة السحيقة الفاصلة بين المجتمعات الصناعية وتلك النامية أو المُتخلّفة، وتنامي مشاعر الكراهية والغضب في أوساط شرائح واسعة من المجتمعات على مدار الكوكب بفعل الأزمات الاقتصادية الخانقة والتزاحم على لقمة العيش، وبسبب جرائم المنظمّات الإرهابية والتكفيرية التي أُلبِسَت رداء الإسلام.
ومَن أجدر مِن الحركات اليمينية والشوفينية في توظيف تلك المشاعر واستغلالها خدمة لأهدافها التي تناسبها جداً بيئة حاضنة للأفكار المُتطرّفة. من هنا نلاحظ النقمة العارمة على المُهاجرين واللاجئين الذين تراهم شرائح واسعة من مكوّنات المجتمعات الأوروبية والأميركية خطراً عليها ومزاحمين لها على فرص العمل ولقمة العيش، وقد شهدنا خلال استفتاء البريكست البريطاني وحملات الانتخابات الرئاسية الأميركية كيف كان اللاجئون عنصراً محورياً من عناصر التنافُس على كسب أصوات الناخبين، وهنا يمكننا أن نفهم كيف بات اليمين يجذب أصوات الطبقة العمالية المحسوبة تاريخياً في خانة اليسار.
من سِمات التيّارات اليمينية والشعبوية أنها تتجاهل الأسباب البنيوية العميقة للأزمات، وتلقي بتبعاتها كلها على الآخرين لا سيما أولئك الذين تنظر إليهم بِدونيّة وتعتبرهم طارئين وغير جديرين بالانتماء إلى جنّة “الرجل الأبيض”، وهنا لا بدّ من استدراك بأن “الرجل الأبيض” ليس لوناً ولا عِرقاً بل “ثقافة” تضمّ تحت جناحيها الكثير من “الملّونين”.
وصول ترامب إلى البيت الأبيض ليس فلتة شوط، بل نتيجة منطقية لمتغيّرات جدّية في المجتمع الأميركي (تزامناً مع مُتغيرات مُماثلة في كثير من المُجتمعات الرأسمالية). لا من قبيل التشاؤم بل من باب الواقعية القول إننا أمام صعود مُتزايد للحركات والتيّارات اليمينية والشعبوية، ولأن رُبَّ ضارّة نافعة، نرى أننا في الوقت نفسه أمام انكشاف المستور في النظام الرأسمالي والاقتصادات الحرَّة المعولمة والنيوليبرالية التي انفصلت نُخبها عن الواقع، حيث أدركت الطبقات الدنيا أن تلك النُخب لم تُقدِّم لها شيئاً، بل على العكس تماماً ساهمت في تعميق أزماتها ومفاقمة مشاكلها، لكنها عِوَض البحث عن كوى خلاص حقيقية، أغواها الخطاب الانتخابي الترامبي الشعبوي الذي عرَّى مقولة “الحلم الأميركي” وكشف على الملأ حقيقة ما يُصيب المهاجرين إلى “أرض الأحلام” حيث مقابل كل واحد ينجح وتُسلَّط عليه الأضواء ثمة ملايين المسحوقين والمُضطهَدين… والمُهدّدين، بعد فوز ترامب، بالطرد من “الجنة” التي قامت أصلاً على جُثث السكان الأصليين، والمفارقة المُحزنة أن يرى كثير من العمّال خلاصهم على يد ربّ عمل مثل ترامب.
ثمة خليط من المشاعر القومية والطبقية تتمازج و”تتصاهر” لِتولِّد ظواهر مُماثلة للظاهرة الترامبية التي تجد لها حالياً نظائر في المجتمعات كافة سواء أَكانت مُتطوّرةً أو مُتخلّفة.
ولا يمكن فهم ما يجري في العالم اليوم من دون العودة إلى مقولة أن “قيمنا هي المُستهدَفة” و”مَن ليس معنا هو ضدّنا” التي كان هنري كسينجر من أوائل المُنظِّرين لها، ثم تصاعدت نبرتها بُعيد جريمة ١١ أيلول/سبتمبر، لِتُقسِّم العالم فسطاطين يقودهما(آنذاك): جورج بوش وأسامة بن لادن، وما فوز دونالد ترامب سوى تظهير صادِم لذاك الفهم القديم/الجديد الذي يسعى لِتَسيُّد العالم وجعلنا جميعاً رقيقاً في خدمة الشركات العملاقة المُتوحّشة.
من البريكست البريطاني إلى الترامبية الأميركية وبينهما اتّساع رقعة المصوّتين للأحزاب اليمينية في كثير من الدول الأوروبية_ومَن يدري ماذا بعد_رُفِعَ الغطاء وكُشِفَ المستور، وتأكّدت مرةً أخرى حاجة العالم إلى أفكار ومفاهيم جديدة تُنشد الخلاص، ولا خلاص بلا عدالة ومساواة بين جميع بني البشر. فالترامبية الشعبوية ليست هي المُخلّص ولا المُنقذ، ولا حتى النقيض للرأسمالية ولا للنظريات النيوليبرالية، بل هي تعبيرها الأكثر وقاحة ومظهرها العاري بلا رتوش ولا زينة.
* الميادين