تداعيات مؤتمر “فتح”- معين الطاهر
يمكن القول إن مؤتمر حركة فتح السابع انتهى قبل أن يبدأ، وحُسمت نتيجته النهائية بركلة جزاء في الجلسة الأولى، حين تمّت مبايعة الرئيس محمود عباس رئيساً للحركة، بالتصفيق وقوفاً، في أولى لحظات المؤتمر. وبذلك لم يعد أمام المؤتمرين من هو عرضة للسؤال أو النقد أو المراجعة بشأن المرحلة الماضية، وما آلت إليه المفاوضات ومآل مشروع الدولتين، أو حتى الوضع الداخلي للحركة. وبالتفويض المطلق الذي منحه المؤتمر لربّان السفينة، باستمرار قيادتها في بحر عاصف، وعلى الرغم من أشرعتها الممزّقة، من دون أي محاولة لرتقها، تخلّى المؤتمر عن دوره الرقابيّ، وحقّه في المحاسبة والمساءلة ورسم السياسات، وتحوّل إلى مهرجان انتخابيّ كبير تجاوزت حدوده قاعته الكبرى، لتملأ صور المرشّحين وسائط التواصل الاجتماعي، وليخرج بنتائج رُسمت، في غالبيتها، سلفًا عبر إعداد مُتقن.
تمثلت أولى تداعيات المؤتمر في هبوط السقف السياسي إلى منحدرٍ جديد. فقد اعتمد المؤتمر خطاب الرئيس محمود عباس الطويل، والمنقطع عن التاريخ المجيد لحركة فتح، برنامجًا سياسيًا للمرحلة المقبل، والمتضمن إشادات بالوعي المبكّر للرئيس بأهمية الحوار مع المجتمع الصهيوني، عندما كلّف المرحوم عصام السرطاوي بذلك في النصف الثاني من السبعينيات. حسبنا أن نذكر أن البند الأوّل يتحدّث عن السلام إستراتيجية وحيدة أمام الشعب الفلسطيني، ويقدّم في بنده الثالث اعترافًا بحقّ إسرائيل في الوجود، أما البند الثاني فيختزل الصراع العربي- الصهيوني والبعد التاريخي له باعتباره قد بدأ حين احتلّت القوات الإسرائيلية “أراضي دولة فلسطين في حرب 1967”. ويتجاهل الخطاب – البرنامج الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ غير القابلة للتصرّف، ويضعها في إطار توثيق العلاقة مع المنظّمات الدولية التي تعترف بهذه الحقوق في الفقرة الرابعة عشرة. أما حقّ الشعب الفلسطينيّ في المقاومة بأشكالها المختلفة فقد تراجع حتى الفقرة الثانية عشرة، واختُزل بالمقاومة الشعبيّة السلميّة، ووُضع في الفقرة نفسها التي تتحدّث عن المستوطنات، وليس عن الاحتلال.
ترافق هذا الانحدار في البرنامج السياسيّ مع انحدار تنظيميّ، لا يقلّ خطورة عنه، فقد كثُر
الحديث عن المحاور الجهويّة، وعدم تمثيل المناطق تمثيلاً عادلاً في تركيبة المجلس الثوريّ واللجنة المركزيّة وغياب القدس وتهميش غزّة، وهي أمور لم تكن تطرح في السابق، عندما كان البرنامج السياسيّ يشكّل هُويّةً نضاليّة متكاملة. تنظيميًا، يمكن القول إنّ “فتح” بهذا المؤتمر تخلّت عن كونها حركة التحرّر الوطنيّ للشعب الفلسطينيّ، لتتحوّل إلى حزبٍ أو حركةٍ لتحالفٍ يضمّ الأجهزة الأمنيّة وكبار موظفي السلطة وبعض رجال الأعمال. وبذلك، أصبح حالها حال الأنظمة العربيّة الممتدّة على مساحة الوطن العربي، ولعلّه من هنا جاء تضامن الرئيس عباس مع تلك الأنظمة في موقفه من الربيع العربيّ.
حركة مثل فتح لا يمكن أن تنشقّ، وتاريخ الانشقاقات في الحركة يثبت ذلك. إذ لم يعمّر انشقاق ويستمر، بغضّ النظر عن مدى الدعم المتوفّر له من هذا النظام أو ذاك، فهي حركةٌ تلتف حول فكرة تحرّر الشعب الفلسطينيّ، وهي فكرةٌ لا يمكن شقّها، ولكن من الممكن حرفها عن مسارها. يمكن أن تتحوّل الحركة إلى أهداف أخرى، كما حصل بالفعل، ويمكن أن تذوي وتذوب، ويمكنها أن تبقى تتحدّث عن تاريخٍ مجيدٍ، من دون أن تسعى إلى استلهامه في تغيير واقعها، وهي بهذا تفقد كل يوم جزءًا أكبر من أبنائها وبناتها، ولعلّ بإمكاننا القول إن الفتحاويين خارج حركة فتح يفوق عددهم آلاف المرات من هم بداخلها.
لن يكون من تداعيات المؤتمر انشقاقٌ جديدٌ في حركة فتح، ولكن سيزداد ابتعاد عدد من أبنائها عنها، وسيقتصر الأمر على نمو تيارات داخل الحركة وخارجها، يدّعي كلّ منها وصلًا بتاريخه. التحرّك الأبرز سينظمه أنصار محمد دحلان في القاهرة الذي كرّس المؤتمر الأخير إقصاء أنصاره، وسيقتصر هذا التحرّك على تظاهرةٍ كبرى تحشد المئات، وضع الرئيس عباس بعضهم في طريقه بفعل سياساته، لكنه من المؤكّد لن يرتكب خطأ إعلان تنظيم جديد موازٍ.
وثمّة تيار ثالث برز في فترة التحضيرات للمؤتمر وفي أثنائه، وضمّ مئات المناضلين الذين اُقصوا في الوطن والشتات، وسينضمّ إليهم عشراتٌ ممّن صُدموا بنتائج المؤتمر. حتمًا لم تتضح بعد معالم هذا الاتجاه، لكنه قد يشكّل علامةً فارقة مستقبلًا، خصوصًا في ظلّ الإقصاء الكبير والمتعمد للشتات، ولشريحة واسعة من المناضلين.
من حسنات هذا المؤتمر، ونتيجة ثانوية للاستقطاب العربيّ، أنّ بعض أشكال الحصار على قطاع غزّة قد تخفّ حدّتها، ومن ضمنها فتح معبر رفح على فترات متقاربة، ويهدف هذا الإجراء إلى تقوية نفوذ محمد دحلان في القطاع، وتصوير الإغلاق المصريّ للمعبر سابقًا أنه تمّ بطلب من الرئيس عباس.
ألقى رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خالد مشعل، طوق نجاة
للرئيس وللجنة المركزيّة في كلمته التي أرسلها إلى المؤتمر، إذ منع بذلك نقاش الأسباب الحقيقيّة للانقسام، واكتفى الناطقون المختلفون باسم “فتح” بالإشادة بها، والقول إنّهم سيقومون بالبناء عليها، ما غيّب تمامًا موضوع الانقسام عن فعاليات المؤتمر، كما غابت مجمل القضايا الكبرى. لن يطرأ أيّ تطوّر لافت على موضوع المصالحة مع “حماس”، والتي ستضاف إلى عقبات إنجازها علاقة الرئيس المتوتّرة بالرباعيّة العربيّة (الإمارات، مصر، السعودية، الأردن)، ما يعني تعذّر قيام مصر بدور الراعي لها في المدى المنظور. لكنّ الرئيس عباس قد يسعى إلى محاولة تحويل المصالحة إلى سباق انتخابيّ متوافق عليه، عبر السعي إلى إيجاد صيغة لاقتسام السلطة مع حركة حماس، والذهاب إلى انتخابات بقوائم قد يُتّفق عليها. وثمّة احتمالٌ آخر أكثر ترجيحًا، هو أن يعمد الرئيس عباس إلى إجراء انتخاباتٍ في مناطق السلطة الفلسطينيّة حصرًا، ما سيعمّق الانقسام، ويحوّله من انقسام سياسيّ إلى انقسام جغرافيّ.
على أن أخطر تداعيات مرحلة ما بعد المؤتمر السابع يتمثّل في محاولة عقد جلسة للمجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، تُجدّد شرعيّة اللّجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، ويجري عقد الجلسة في رام الله، وفي إطار تحضيراتٍ لا تختلف كثيرًا عن التي تمّت في مؤتمر “فتح”.
قبل نحو عام، حاول الرئيس عباس إجراء ذلك، بعيدًا عن فكرة الإطار القياديّ الموحّد، وعن إعادة تشكيل المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، ولم يُكتب لهذه المحاولة النجاح، بفضل الضغط الشعبيّ الكبير الذي تعرّضت له. تجري الآن محاولة لإعادة الكرة بالنهج نفسه، وهي محاولة خطِرة، وستجرّ نتائج كارثيةً على وضع منظّمة التحرير كياناً معنويّاً لكلّ الفلسطينيين، إذ كما جرى تحويل “فتح” إلى حزب السلطة الوطنية، ستجري محاولات لتحويل المنظّمة إلى ذراعٍ من أذرع السلطة، وهو ما سيمسّ بتمثيلها الشعب الفلسطينيّ الذي يجري اختزاله في المناطق التي احتلت عام 1967، أو حتى في جزء منها.
لن تُستنسخ حركة فتح. لكن ستبقى فكرتها، وهي تجمع كل المناضلين من كلّ الفصائل عبر حراكٍ عابر لها كلّها، ويستهدف العودة إلى ثوابت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتصحيح كل التداعيات التي مرّت عليها، بما فيها مواجهة تداعيات المؤتمر السابع.