علَّمتني الشام حب الصباح – د. عبد الحسين شعبان
(1)
إذا كان أندريه بارو عالم الآثار الفرنسي وأول مدير لمتحف اللوفر، هو القائل: “لكلّ إنسان متحضّر وطنان، وطنه الأم وسورية”، فماذا سيقول عربي وسوراقي، عاش فترة من أجمل أيام حياته في دمشق؟ وهو المنتمي إليها وطناً ولغةً وهويّةً وعشقاً. أظنّه سيقتفي مثلي أثر محمود درويش القائل: دمشق ارتدتني يداك / دمشق ارتديتُ يديك.
كنتُ قد قلتُ في مقابلة لي مع مجلّة تحولات: أن هوّيتي سوراقية مشرقية، فبلاد الرافدين وبلاد الشام تجمعهما هوّية حضارية واحدة. ولكن لماذا أنا سوراقي؟ أجيب: “لأنني لا أستطيع وأنا العراقي إلاّ أن أفكر بطريقة أقرب إلى سورية أو قلْ إلى الشام”، وذلك لشعوري بوحدة الانتماء ووحدة المصير. وكلّما اقتربتُ من دمشق لا أستطيع إلاّ أن أفكّر ببغداد، فهما شقّان يكمّل بعضهما بعضاً. وأحياناً أقع في حيرة من أمري حين لا أستطيع أن أفاضل بينهما، وأقنع نفسي حين أتخيّلهما كما لو أنهما كالذّهب المشعشع في الميزان كفّتان، أو لكأنهما جناحا طير لا يمكنه الطيران إلاّ بهما معاً، فإن غاب أحدهما سقط أرضاً لا محال. والحق أقول بأني أحيا في حالة من التماهي في كيانيتي وعقلي بينما هو سوري وما هو عراقي.
هذه القناعة تولّدت لديّ منذ عقود من الزمان، وأخذت تترسّخ يوماً بعد يوم على نحو تلقائي وعفوي، غير متكلّف أو مُفتعل. ربما لعب مزاجي العروبي دوراً في ذلك، على الرغم من يساريتي وانتمائي “الماركسي”، وقد يكون ذلك “انشقاقاً” مبكّراً بين الثقافي الذي يقبع في داخلي، وبين السياسي الذي انضوينا تحت لوائه.
لكنني لا أكتفي بالمزاج وحده وبالعاطفة بمفردها، وإنْ كان لكلّ إنسان عاطفة، وينبغي أن يوليها اهتماماً ولا يستخفّ بها، لأن العاطفة لصيقة بالإنسان مثل الإحساس والشعور. وقلت وأنا أصف نفسي إنني حسّي، بمعنى أني فيورباخي، باستعارة نظريته في المعرفة التي اعتمد فيها على التجريبية والحسّية، ويستدخل فيورباخ الرغبة أو العاطفة إلى جانب الحسّ، فالرأس مصدر النشاط والقلب مصدر العاطفة. وحسب فيورباخ: فالأذن هي التي توصل إليك أولى الأحاسيس والإشارات، ومنها تنتقل إلى الدماغ، ومنه تتحوّل إلى فعل إرادي بمرورها على القلب أيضاً. هكذا إذن، وضمن هذا التوصيف المجازي فأنا حسّي بامتياز، وأشعر أن إحساسي مجزّءٌ بين العراق وسورية، وبين بغداد والشام، ولم يكن ذلك اعتباطاً، وإنما هو شعور بالمشتركات والمتداخلات والمتفاعلات والمتلاقحات ما بين بلاد الشام وأرض الرافدين، أكانا في جانبيهما العربي أم في جانبيهما الكردي. وكأن لسان حالي يؤكد قول الشاعرة العراقية عاتكة الخزرجي: “أهوى دمشق هواي / بغداد الحبيبة لو أفيها”.
(2)
كنت قد كتبت في وصيّـتي في تسعينات القرن الماضي: إذا داهمني ذلك “الذئب الذي ظل يترصّدني”، مثل قدر غاشم، فانقلوني إلى النجف، وإنْ تعذّر ذلك، فإلى إربيل لعلاقتي الوثيقة مع الشعب الكردي، وإنْ كان ثمّة صعوبات أو موانع في ذلك، فدمشق هي المكان المناسب، وكدتُ أقول القدس، لكنها ما تزال محتلّة من الصهاينة، ولأن القدس شقيقة دمشق، أصل بلاد الشام وروحها وعقلها، فإن العراق وسورية يؤلفان “سوراقيا”، جوهرة العرب، وإذا كان العراق جمجمة العرب، كما أطلق عليه عمر بن الخطاب، فالشام قلبها ومصر جناحيها.
لم أعرف أن والدتي الراحلة نجاة شعبان والتي افتقدتُ رؤيتها لنحو 20 عاماً، ستستطيع أن تلتحق بي، وفي دمشق بالذات، حيث انتظرتْ مثل غيرها من العراقيين الذين كانت وجهتهم الأولى دمشق، ولكنه عندما حان موعد رحيلها، لم تختر غير الشام، وخاطبتني عشية وفاتها قائلةً: “ادفنوني” قرب مقام السيّدة زينب إنْ استطعتم. تلك هي وصيتي الوحيدة… ونزولاً عند رغبتها كان لها ما أرادت، حتى إننا أقمنا الفاتحة على روحها بدمشق في منطقة المزّة، وفي “دار السعادة”!.
لم تكن والدتي تعرف بوصيتي المكتوبة، أنني وضعت الشام في أولوياتي، إلاّ أنه إحساس الأم قلّما يخطىء، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق بولدها. قلت مع نفسي كيف استطاعت أن تخمّن رغبتي؟ ولم أكن أجرؤ أن أتحدث أمامها، عن ذلك “الجهم” الذي يجلس على صدورنا، وكأنه حرسٌ على أنفاسنا حسب تعبير الجواهري، لكن دهشتي سرعان ما تبدّدت، فكيف لا وهي تعيش في قلبي وتتحسّس ما لديّ كل يوم، بل كل ساعة وكل لحظة، فكيف لا تقرأ عشقي لدمشق عيشاً أو رحيلاً، فالشام هي الملاذ الأوّل وربّما هي الملاذ والمستقر الأخير.
منذ مطلع الستينات كانت الشام قبلتنا. كان والدي مولعاً بها لدرجة الهيمان، فهي أكثر من مدينة بالنسبة له، لأنها بوابة الشرق إلى العالم، وهي التاريخ المزدان بقصص وحكايا وبطولات ومآسي. إنها أبلغُ من صُوَر اللّغة. وعلى الرغم من زيارته لبعض البلدان العربية، ولبراغ وبرلين ووارشو، إلاّ أن عشقه للشام وللقدس ورام الله، ظلّ مثل حبّه الأول يستعيده بمناسبة ودون مناسبة، وكانت والدتي تشعر أن صلاتها أكثر طهرية في مقام السيّدة زينب، وكنتُ قد اصطحبتها مرّتين من لندن إلى دمشق وعدد من الزيارات إلى دمشق من بيروت.
دمشق أو الأرض المسقية حسب معناها القديم، هي أقدم مدينة مسكونة ومتواصلة في التاريخ، وإحدى محطات طريق الحرير، وطريق البحر، وموكب الحج الشامي، والقوافل المتّجهة إلى بلاد فارس، أو آسيا الصغرى، أو مصر، أو الجزيرة العربية. وبقدر ما هي مدينة تجارية، فلها مركز سياسي مرموق تاريخاً، منذ الدولة الأموية، وأقام فيها أو دفن صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، وعُرفت بأنها مدينة الياسمين، وجاء في وصف ياقوت الحموي قوله: “ما وصفت الجنّة بشيء، إلاّ وفي دمشق مثله”.
ودمشق هي الشأمُ، أو: الشام: سُمّيتْ بذلك لأن أول مَن نزل بها سام بن نوح، فجُعلت السين شيناً لتغير اللّفظ الأعجمي؛ وكان اسم الشام الأول: سُورَى. وقال جماعة من أهل اللغة: (باعتبار) أنه يجوز أن لا يهمز فيقال “الشام”، فيكون جمع شامة، سمّيت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشُبِّهت بالشامات..!
وهذه الشام لا تشعرك بالغربة، فالغريب فيها مثل ابن البلد، ولم يحدث أن أحسست يوماً من أن هناك فارقاً بيني وبين أي شامي، أو أنني أختلف عنه في “الحقوق” الشخصية والاجتماعية. قد ينطبق على وصفنا هذا بيت الشعر العربي: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا / نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
لم أشعر بالأمان في أي بلد عربي أكثر من الشام. صحيح أن بغداد كانت آمنة في الستينات، والقاهرة أليفة، لكن حظوظ دمشق، كانت الأوفر والأكثر طمأنينة، لأنها الأكثر تعايشاً.
خلال القرون الغابرة التي مرّت على الشام كان النسيج الوطني السوري وما زال يتشكل من فسيفساء مجتمعية ذات ألوان وأشكال متعدّدة المشارب ومتنوّعة الانتماءات، وقد شكّل المجتمع الشامي أو الدمشقي تعدّدية ثقافية نوعية، دينية وإثنية تفاعلت مع بعضها بعضاً، لدرجة لا تستطيع أن تميّزها، فضمن ذلك الهارموني الموزائيكي هناك أديان وطوائف وإثنيات وأقوام ولغات، بل هناك أحياء تسمى بأسمائها، وقد حافظت جميعها على قدر من الاحترام الضروري في علاقاتها المشتركة، لا سيّما من خلال والتعايش والاختلاط، والمشترك الإنساني، وقد كان التنوّع مصدر غنىً وإثراء بتلاقح الثقافات، ولم يكن في الغالب الأعم مصدر توتّر واحتقان وعنف، إلاّ في ظروف محدّدة ومحدودة.
وإذا كانت “مقبرة الغرباء” في السيدة زينب قد احتضنت رفات عدد من الأصدقاء والأحبّة والمبدعين العراقيين، فلأنهم عاشوا فيها وقرّروا عدم مغادرتها، كالجواهري الكبير، ومصطفى جمال الدين، وغضبان السعد، وعبد اللطيف الراوي، وفاضل الأنصاري، وعلي كريم، وعبد الوهاب البياتي، وهادي العلوي، وسعيد جواد، وحسين مروّة، وغيرهم كثر..
ولأنها دمشق، فهي لا تعبّر عن ذاتها إلاّ بالتنوّع والتعدّدية والتسامح. إنها مدينة جامعة لأكثر من هويّة، وإنْ دافتها بوتقة العروبة، لكن هويّاتها الفرعية حافظت على خصوصياتها مع احترام هويّتها العامة الشاملة. والمدن مثل النّساء، فكما لكل امرأة رائحتها ومذاقها، بوحُها وسرّها، حزنها وفرحها، دمعتها وابتسامتها، سحرها وغموضها، روحها وشكلها، فلكلّ مدينة خصوصيتها وطباعها وطبيعتها، في دمشق تتجاور الكثير من الهويّات، حيث تلتقي فيها الدهشة والجمال والفتنة والإثارة، ومثلما دمشق الغوطة والربوة وسحر الشجر وعبق الحجر وذكاء البشر، وأسماء الكنائس والجوامع، فإن فيها أجمل النساء وأكثرهن عذوبةً ورقةً وصفاءً.
دمشق سرّة الياسمين حسب أدونيس، جمعت بين عظمة الماضي وروعة الحاضر، هي السندس الأخضر واللاّفندر (الخزامى)، هي الفل والياسمين والقرنفل والريحان. وكان نزار قباني على حق حين خاطبها معتذراً لأنه لم يعبّر عن عشقه لها.
آه يا شـــامُ كيفَ أشرحُ ما بـي / وأنــا فـيــكِ دائــمـاً مـَســـكونُ
سامحيني إن لم أكاشِفكِ بالعشقِ/ فأحلى مَا في الهَوى التضمينُ
في العشق ثمّة رفرفات، رفّة فؤاد ورفّة مودّة ورفّة براءة ورفّة سلام.
من منّا لم يستحضر قصيدة الشاعر أحمد شوقي “دمشق” التي كتبها دعماً للشعب السوري ضدّ الاحتلال الفرنسي، فقد عاشت سورية في الوجدان العربي، ونستذكر منها البيتين اللذين تردّدت أصداءهما في العالم العربي كله.
سلام من صبا بردى أرقُّ / ودمع لا يكفكف يا دمشق
وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجةٍ يدق
(3)
باستعادة سوراقيا يقول الجواهري في قصيدته “دمشق يا جبهة المجد”:
شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّاً، ولا مَذِقا
وما وَجَدْتُ إلى لُقْياكِ مُنْعَطَفاً
إلاّ إليكِ،ولا أَلْفَيْتُ مُفْتَرَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي بَلَداً
لكنْ كَمَنْ يَتَشَهّى وَجْهَ مَن عَشِقا
قالوا (دِمَشْقُ) و(بَغْدادٌ) فقلتُ هما
فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما انْبَثَقا
مَن قالَ أنْ ليسَ مِن معْنىً للفْظَتِها
بلا دِمَشْقَ وبَغدادٍ فقد صَدَقا
يمّم العراقيون وجههم صوب الشام: أحمد الصافي النجفي، الجواهري، مصطفى جمال الدين، عبد الوهاب البياتي، مظفر النواب، سعدي يوسف، يوسف الصايغ، عبد الرزاق عبد الواحد، شاكر السماوي، هادي العلوي، حسن العلوي، يوسف العاني، ناهدة الرمّاح، زينب (فخرية عبد الكريم)، جواد الأسدي، شوقية، حميد البصري، كوكب حمزة، سعدون جابر، وفؤاد سالم، وغيرهم.
مَن مِن العراقيين لم يرتوي من بردى ومن منهم من لم يزر الجامع الأموي وسوق الحميدية أو يحلو له قضاء الأماسي مرتقياً قمة جبل قاسيون؟! أو زائراً في أيام الصيف بلودان أو الزبداني أو نبع عين الفيجة أو عين الخضرة.
وهذا الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي الذي اختار دمشق موطناً استقرّ فيه، فأحبها وتغنّى بجمالها يقول:
أتيت جلّق مجتازاً على عجل / فأعجبتني حتى اخترتها وطنا
لا يبرح الحسن يوماً عن مرابعها / كأنما الحسن من قدم بها افتتنا
أيقنت أني من أهل الجنان ففي / دمشق أسكن جنات تفيض هنا
عجبت ممن أتاها كيف يبرحها / فهل يرى في سواها عن دمشق غنى؟
ويقول عنها الشاعر مظفر النواب: “إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله خرافي لحضارات شنقت نفسها على أبوابها، إنها دمشق الأقدم، ملتقى الحلم ونهايته…”.
أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فيرتل شكره شعراً لدمشق التي ضمّته إلى صدرها ومحت عنه آلام الفراق والغربة:
شكراً دمشق وهبت العمر أجمعه / حسن الختام وهذا ثوبه الخلق
يا أخت بغداد.. مليونان من بلدي/ في طهر أرضك ما ريعوا ولا رهقوا
بنصفهم ضاقت الدنيا بأجمعها / وأنت تسمو بك الأرحام والخلق
شكراً دمشق ولا والله لا طمع / ولا ادعاء ولا خوف ولا ملق
بها تغزّل الشاعر البحتري والشاعر أبو تمام والشاعر أبو نؤاس، ولجمالها الساحر وجمال طبيعتها وناسها تغزل أحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وسعيد عقل الذي تمازجت كلمات قصائده مع اللحن الرحباني والصوت الفيروزي، ليؤكدوا بأن دمشق هي تأويل هذا الشرق في اكتمال خطاه:
ظَمِئَ الشرقُ فَيَا شامُ اسْكُبي / واملأي الكأسَ لَهُ حتّى الجَمَامْ
أهلُكِ التاريخُ من فُضْلَتِهِمْ / ذِكْرُهُمْ في عُرْوَةِ الدهْرِ وِسَامْ
أُمَوِيُونَ فإن ضِقْتِ بِهِمْ / أَلْحَقُوا الدنيا بِبُستانِ هِشامْ
أنا لَسْتُ الغَرِدَ الفَرْدَ إذا / قُلْتُ طابَ الجَرْحُ في شَجْوِ الحَمامْ
أنا حَسْبِي أنَّني من جَبَلٍ / هُوَ بين اللهِ والأرض كلامْ
قِمَمٌ كالشمسِ في قِسْمَتِها / تَلِدُ النورَ وتُعْطِيهِ الأنامْ
نعم هي دمشق فيحاء الشرق وحورية المدائن وترنيمة العشق الأزلي ومفخرة التاريخ وفيض الحضارات، كما قال الشاعر سعيد عقل:
“قرأتُ مجدَكِ في قلبي و في الكُتُـبِ شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ”
إنها دمشق تراتيل الأنبياء والقديسيين:
“شآمُ أرضَ الشّهاماتِ التي اصْطَبَغَتْ بِعَـنْدَمِيٍّ تَمَتْـهُ الشّـمْسُ مُنسَـكِبِ”
فيروز غنّت وطرّبت وأطربت… وفي دمشق كان لصوتها معنى آخر “هنا الترابات من طيب ومن طربِ / وأين في غير شام يطرب الحجر”.
نعم هي الشام، الياسمين والفل، هي الشام التي قال عنها الشاعر محمد كرد علي:
الفلُّ يبدأ من دمشق بياضه / وبعطرها تتطيبُ الأطياب
والحبّ يبدأ من دمشق فأهلنا / عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا
فالدهر يبدأ من دمشق وعندها / تبقى اللغات وتحفظ الأنساب
ودمشق تعطي للعروبة شكلها / وبأرضها تتشكل الأحقاب
(4)
تتعانق العروبة من سوريا عبر الجزيرة إلى العراق حتى بطاح البصرة، هو هذا الهلال الخصيب، بلاد الرافدين وبلاد الشام التاريخية التي نعرفها. ولا تستطيع التحدّث عن سورية من دون التحدّث عن لبنان وعن فلسطين التي هي في قلب سورية. وهو ما يشكّل الهويّة المانعة الجامعة للمنطقة كافّة، وليس لدولها، لأنها امتداد لشعب واحد موحّد لغة وتاريخاً وحضارة وأدياناً، وحين تأتي إلى سوريا والعراق من الشمال لناحية مدينة دياربكر الكردية “التركية”، فستجد أنها أيضاً أرضاً موحّدة فإلى يسارك (المنطقة الكردية العراقية) وإلى يمينك (المنطقة الكردية السورية) وشمالها يوجد الامتداد التركي الكردي وتتصل بالمنطقة الكردية الإيرانية، جغرافياً ومجتمعياً وتاريخاً ولغةً.
ومثلما تعرّضت الهويّة العربية التاريخية إلى تهديدات خطرة في السابق، منذ حروب الفرنجة، وغزو نابليون لمصر وفلسطين وجبل لبنان، والاحتلال البريطاني والفرنسي، فإنها تتعرّض اليوم إلى تهديدات أشد خطورة وبأساً، تستهدف الوجود العربي والهويّة العربية، والدولة الوطنية العربية، لتجزأة المجزّء وتقسيم المقسّم، أي تمزيق الهويّات الوطنية في كل بلد عربي، وجعل الصراع بين الهويّات صراعاً تناحرياً وإلغائياً، بدلاً من حوار وجدل تكاملي بخصوص الحقوق والحريّات ومبادىء المساواة والشراكة والمشاركة.
(5)
في دمشق ازددت عروبة، وأستطيع القول إنني وبعد أن زرت جميع البلدان العربية وتعرّفت على مجتمعاتها وثقافاتها وأحوالها، وارتبطت بصداقات طويلة وعميقة مع العديد من نخبها، أن الشام هي البلد الذي تشعرك بانتمائك العروبي وبهويتك العربية وجمال لغتك العربية أكثر من أي بلد عربي، فكل شيء في الشام ينبض بالعروبة، وأقول مع نزار قباني:
دمشـقُ، يا كنزَ أحلامي ومروحتي / أشكو العروبةَ أم أشكو لكِ العربا؟
وفي دمشق عظُمَ اهتمامي باللغة العربية، وزاد شغفي بها وأخذت أشعر أكثر من ذي قبل ما تركت النجف عليّ من تأثيرات آسرة في البلاغة والنّحو وفخامة اللّغة وتنوّع معانيها، فازددت الاستمتاع بها مثلما ارتفعت درجة إحساسي بأهميتها وجمالها لفظاً وشكلاً ومحتوى، فمثلاً يوجد في اللغة العربية عشر مفردات للحب وعشرون لفعل الحب وأربعون لمشتقاته. أما في اللغة الفارسية فهناك ست مفردات فقط، ثلاث منها أصلية وثلاث من أصول عربية هي: العشق والوله والمحبة. أما في اللغة الإنكليزية فهناك مفردة واحدة للحب هي: Love. أما Like فهي تشبه مبدأ الشبيه، في حين أن كلمة Erotic هي للحب والغزل، وهي عروس أروس السامية.
ونلاحظ هنا الثراء في الكم اللغوي للغة العربية قياساً باللغات الأخرى، وبالطبع فإن هذا يعكس تفاوتاً في الكم الوجداني، فالإنسان يعبّر عمّا يمارسه في حياته العملية ويحوّله إلى لغة، ولذلك تجد كثرة مفردات الحب باللغة العربية، وهي دليل الوجدانية كما يقول هادي العلوي.
وفي دمشق ازددت “فلسطنةً“، فعلى الرغم من انتمائي الوجداني لفلسطين وتعلقي من باب الحقوق والعدالة بقضيتها، فقد شعرت بحرّية أكبر وأنا أتناول مواقفنا اليسارية بالنقد، بما فيها نقد الأسس التي بُنيت عليها بعض المواقف ابتداءً من قرار التقسيم وما تبعه من التباسات وارتباكات على مستوى النظرية والممارسة.
ومع أن ماركسيتي “المادية الجدلية”، أصبحت أكثر رحابة لي في التنظير والتّحليل وإعادة القراءة والانفتاح، بالانتقال التدريجي من الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية، التي كانت مرحلتها الأولى براغ، فإن الوضعية النقدية كانت قد اغتنت في الشام، إضافة إلى التفسير والتأويل، وهي المرحلة الأكثر عمقاً وشمولاً، حيث شهدت حوارات عربية لقوى وتيارات عروبية ويسارية وماركسية متعدّدة ومتنوّعة ومختلفة، وكان لها الأثر الأكبر في تحرير جزء غير قليل مما تبقّى خارج نطاق النقد عندي، والذي أخضعته للفحص والتدقيق في إطار تعزيز منظومتي المعرفية.
وفي دمشق زاد إحساسي أكثر بالجمال والتّمتع به، فبعد براغ التي فجّرت فيّ الينابيع الأولى، جاءت دمشق لتحفزّني، بل تستفزني للاستمتاع أكثر بالحياة وما تزخر فيه من إبداع وتنوّع، وتدعوني أكثر فأكثر إلى التأمّل والهدوء. وأستطيع القول إنني أخذت أنظر بعمق أكثر إلى الطبيعة وأسرارها ومناخها وفصولها وأشجارها وزهورها وأنهارها وبحارها وجبالها وسهولها، فالشام هي بلد التنوّع، فما لم يكن يلفت انتباهي أو لا أتوقّف عنده، فإذا بي أبدو مندهشاً أمامه لدرجة كبيرة.
دمشق مثل بغداد شذّبتني وساهمت في اعتدالي وزادتني مرونة وتسامحاً، وملت فيها أكثر فأكثر إلى القبول بالآخر واحترام “حق الاختلاف”، وتلك سمة التمدّن، ومعنى ذلك أن دمشق دمْشقتني، مثلما بغداد بغددتني، أي أنهما مدّناني، فالدمشقة والتبغدد معناهما، التمدّن، والتحضّر.
وفي التمدّن، يكون الإقرار بالتنوّع والتعدّدية مسألة بديهية، بحكم التعايش والتجاور والاختلاط، الذي ينمّي روح التسامح وقيم الاعتراف بالآخر وقبول الحق في الاختلاف. وفي دمشق تجتمع أديان وملل ونحل ولغات، فهناك المسلم والمسيحي، والعربي والكردي والتركماني، مثلما يوجد فيها السني والعلوي والدرزي، إضافة إلى الطوائف المسيحية كافة. وفي دمشق تتجاور المساجد والكنائس والحانات، من باب توما إلى باب شرقي وحي الميدان، ومن الجامع الأموي الكبير وجامع الباشورة أو السادات أو مدرسة وجامع النورية أو جامع الشيخ محيي الدين أو مقام السيدة زينب أو مقام السيّدة رقيّة، إلى كنيسة يوحّنا المعمدان ومصلى القديس حنانيا وكاتدرائية القديس أنطونيوس والقديس بولس وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي وكنيسة سيدة دمشق والسيدة العذراء وكنيسة الروس والكنيسة الإيطالية ودير الراهبات، وغيرها.
في الشام اغتنت صداقاتي وتنوّعت، وازددت إيماناً بالصداقة، وعرفت فيها صداقات أصيلة، ووفاء منقطع النظير، رجالاً ونساءً. ودائماً ما كنت أكرّر ثروتي في هذا العالم صداقاتي، فمن يريد أن يبحث عن الصديق قبل الطريق – كما يُقال – فسيجده في الشام. لم يترك أحد من العراقيين الشام، حسب علمي إلاّ وبكى عليها حسرة وألماً لفراقها، حتى وإن عانى فيها، وإذا كان هناك استثناء، فهذا من الشواذ عن القاعدة. أتذكر صخرة في الربوة، كُتب عليها: “اذكريني دائماً”. وليس نحن الذين نتذكّر (دمشق)، بل نطلب منها هذه المرّة أن تتذكرنا، وتلك رسالة العاشق والمعشوق.!!
في دمشق ازداد شغفي بالفن والأدب، فقرأت عشرات الروايات العالمية والعربية والسورية، وشاهدت أعداداً كبيرة من الأفلام. وكنت في الستينات والسبعينات خلال زياراتي المتكرّرة للشام أحضر كلما صادفني يوم ثلاثاء عروضاً خاصة في سينما الكندي، حيث يفتح باب المناقشة بعدها، لحوار حول الفيلم وأحداثه ودور الممثلين والممثلات والإخراج والرواية، وغيرها من الأمور التي يشترك فيها الجمهور مع أصحاب الاختصاص.
وأتذكّر أنني تخلّفتُ عن المشاركة في مهرجان الشباب والطلاب العالمي في برلين (العام 1973) بسبب ارتباطي بزيارة دمشق ولقاء الأهل والأحبّة، فقد كنت على موعد في اللاذقية ورأس البسيط ومع البحر والشمس والغابات والجمال. لم أترك صيفاً يمرّ إلاّ وكنت أزور الشام، وأحياناً أستغل بعض الشتويات لأزورها وأجد ألف ذريعة وحجة لكي أجهّز نفسي للقاء الحبيبة.
دمشق علمتني حب الصباح، والصباح دليل الأمل، ويمكن القول أنّه دليل العافية وحسب المفكر هنري ديفيد ثورو تقاس صحة الإنسان بحبّ الصباح وحبّ الربيع، فالفجر والإشراق والضوء والنور والندى والهدوء تجتمع كلها مع الأمل، وحتى لو كنت متشائماً بفعل إن كل ما حولنا مدعاةً للتشاؤم، فالأمل لا يجعلني يائساً بقدر ما يمتلك من الاستمرارية والتواصل والإصرار على التغيير. وفي الأمل تشعّ الابتسامة والبهجة والإقبال على الحياة والفرح بالنهار الجديد.
إنّه الصباح الذي يهبط علينا فنسمع أصوات الحساسين مغرّدةً بشدوٍ جميل، وفيه تنبعث روائح الزهور وعطور الياسمين مثل ريعٍ مجاني يستمتع به الجميع في الحدائق الفسيحة، المضلّلة بأشجار السدر الفوّاحة حيث نمضي إلى الحب أو نعود منه وقد تذوقنا زهرة الصبّير والمشمش الحموي أو استطعمنا التين البلدي واللوز الأخضر، إنه الصباح الذي نرى فيه النساء أحلى وأجمل. وإذا كنت أميل إلى الأماسي قبل دمشق وأتأمل القمر وأراقب النجوم، فإن دمشق أخذتني إلى الصباح والإشراق، وهكذا غدوت صباحياً ومتعتي صباحيّة وعشقي صباحي، وأصبحت بفضلها مشّاءً صباحيّاً، تارة في حي التجارة والقصور وأخرى في منطقة المزّة.
إنها دمشق سرّة الياسمين والوجه الآخر للعشق، وصدق من قال: “وعزّ الشرق أوّله دمشق”.
نُشرت في كتاب عنوانه: (الرسائل الدمشقية) بمشاركة 21 كاتباً، صدر عن دار الفارابي، بيروت، (ديسمبر/كانون الأول 2016).