مونولوج صامت غاضب في مبنى الأمم المتحدة – رشاد أبوشاور
صباح بارد، ولكنني متحمس لهذه لزيارة نيويورك، والتجوال في مبنى الأمم المتحدة.
صديقي الدكتور عبد الحميد صيام أبلغني أمس أنه سيصطحبني إلى نيويورك، فيوم الاثنين 24 تشرين أول هو يوم ذكرى تأسيس الأمم المتحدة في العام 1945 .
وأنا أصعد السيارة بجواره، وأستقر على المقعد، أخبرني أن صديقينا سعيد عريقات وزوجته الدكتورة آمنة عريقات، سيسبقاننا بسيارتهما، وأننا سنلتقي في نيويورك لأنهما سيغادران بعد الغداء إلى واشنطن حيث يقيمان.
الطريق مزدحم، والسيارات تتحرك ببطء، وأنا أشغل نفسي بتأمل كل ما نمر به، فهذه نيويورك بشهرتها..نيويورك التي هجاها شاعر اسبانيا العظيم، ووصفها بأنها مدينة من اسمنت وحديد.
ماذا كتب عنها أدونيس عندما زارها؟ كتب نصّا طويلاً بعنوان: قبر من أجل نيويورك.
من جديد ، عدت لتأمل أبنية حي هارلم ، حي الزنوج، الشهير، الذي كما أخبرني صديقي عبد الحميد ، لم يعد حيا نقيا للزنوج، فقد تم غزوه من قبل التجّار، الذين يشترون أبنية السود بأثمان باهظة لإغوائهم بالبيع..
قبالة مبنى الأمم المتحدة الذي يشبه علبة كبريت عملاقة، أو كأنه صورة في الفراغ، وصرة مائيّة، وقفنا على الرصيف قليلاً، ومن ثم التقينا بصديقينا سعيد وآمنة، ولحقنا بطوابير الزوّار المتراصين على مدخل مبنى الأمم المتحدة، والذين يتعرضون للتفتيش، ومن ثم ينطلقون صوب مدخل البناء.
قدمنا وثائقنا، ومنحنا باجات، ومن ثم أخذنا نتحرك في قاعة الاستقبال الفسيحة.
تنبهت لتمثال نصفي لعسكري، فتوجهت صوبه. لحق بي صوت الدكتور عبد الحميد، وأخبرني قبل أن أنحني لقراءة ما هو مكتوب:
_ هذا تمثال الكونت برنادوت…
ياااه: الكونت برنادوت اغتاله الصهاينة، بقيادة شامير، الذي صار رئيسا لوزراء الكيان الصهيوني، عندما كان وسيطا للأمم المتحدة في فلسطين، عقابا له على اقتراحه بعودة الفلسطينيين المشردين إلى بيوتهم، في مدنهم وقراهم فورا.
ملت على التمثال النصفي، وهمست له: أنت لم تكن أيها الكونت السويدي، أول ضحية من ضحايا الصهاينة، فنحن الشعب الفلسطيني ضحيتهم، وما زلنا، ويبدو أننا سنبقى طويلا، نقدّم الضحايا في صراعنا معهم، ومع من يدعمهم، ويوظف الأمم المتحدة للتغطية على جرائمهم.
صعدنا، فأخذ الدكتور عبد الحميد يشرح لي عن أجنحة بناء الأمم المتحدة، ويدخلنا إلى مقار اللجان، وتوقف بي في قاعة مجلس الأمن.
وقفنا على الشرفة، وأمامنا تبدّت مقاعد أعضاء المجلس، الدائمين الخمسة، والعشرة المنتخبين من بقية الدول، والذين تدوم عضويتهم لمدة عامين.
سألني الدكتور عبد الحميد :
_ بماذا تفكر؟
ظللت أحدق في المقاعد الفارغة، وأتخيل المندوبين الدائمين، فأخذت أتمتم: أنتم يا من تجلسون على هذه الكراسي. أنتم الخمسة _ واستثني الصين_ تآمرتم على فلسطين، وطني، وعلى شعب فلسطين الذي أنتمي له. اتخذتم قرار التقسيم..تقسيم فلسطين بين عرب فلسطين، أصحاب الأرض والتاريخ والجغرافيا، ومزقتم قلب الوطن العربي. أنت يا بريطانيا: أنت أصل البلاء..أتسمعني يا مندوب بريطانيا؟ دولتك من دشن الجريمة في أرض فلسطين. وأنت يا مندوب أميركا: مولت دولتك الكيان الصهيوني، وسلحته، ووظفت ديبلوماسيتها لحمايته من أي محاسبة. أنت.يا مندوب فرنسا: أنت بعت صوتك دائما في هذا المحفل الدولي للصهاينة، وزرعت دولتك المفاعل النووي في فلسطين لإنتاج مئات رؤوس القنابل النووي. .أنت ..يا مندوب الاتحاد السوفييتي_ لم يعد هنا مندوب_ لقد اقترفت جريمة، وبعت ضميرك عندما وافقت على التقسيم، واعترفت بدولة الكيان الصهيوني!
وأنتم يا من تمثلون الدول الصغيرة: بعضكم باع ضميره، وصوت لمصلحة الكيان الصهيوني، و..بعضكم وقف بشجاعة رافضا تقرير مصير شعب فلسطين بعيدا عن إرادته.
أصابتني الكآبة، وأنا أتجول في ردهات هذا المبنى الذي حمل وعدا بإنصاف الشعوب، بعد هزيمة النازية، ولكنه خان الوعد، بسبب هيمنة أميركا وأتباعها ذئاب دول الاستعمار الغربية، تتقدمها بريطانيا المجرمة دائما، وفرنسا الكاذبة الفاجرة التي اقترفت الجرائم في فياتنام، والجزائر، وتونس، وسورية ، ولبنان، وشاركت في العدوان الثلاثي على مصر الناصرية، ولم تخرج من هذه البلدان إلاّ بالكفاح المسلح، مُذلّة مهانة.
قلت للدكتور صيام:
_ أود أن أكتب مونودراما عن فلسطيني يقف أمام المقاعد الفارغة في قاعة المجلس، و..يحاكم مسيرة الظلم والتآمر.
ابتسم مرحبا:
_ لي في هذا العمل المسرحي نصيب..إذا يا صديقي.
في ممر ترتفع فيه أعلام كل الدول الأعضاء، وقفنا بجوار علم فلسطين، والتقطنا الصور. إنه علم فلسطين، التي لم يعترف بها دولة كاملة العضوية، ولكنه ينتصب هنا، بفضل تضحيات شعبنا.
سيأتي اليوم الذي ترفرف فيه عاليا يا علم فلسطين الواحدة الكاملة، ولا بد أن ينتهي زمن علم الصهاينة مغتصبي فلسطين، ولكن زمن تسيّد العدل الكامل غير المنقوص ما زال بعيدا..ولكننا نراه قريبا، مهما طال المشوار.
دعانا إلى الغداء الأستاذ عدنان جرار، رئيس قسم تحرير المحاضر باللغة العربية في الأمم المتحدة، وهو فلسطيني، صديق للدكتور عبد الحميد، ولسعيد وآمنة عريقات، متحدث لبق، واسع الاطلاع.
عبر الزجاج تبدّت أمام ناظري بنايات عملاقة متراصة، عرفني الأستاذ عدنان على بعضها، وما تمثله، وبعد أن فرغنا من الغداء، ودعنا سعيد وآمنة، وغادرا إلى واشنطن، فشعرت بالحزن: ها نحن نلتقي بعد سنوات طويلة، فهل سنلتقي من جديد يوما ما، وأين؟! هذا حالنا نحن الفلسطينيين: لقاءات سريعة خاطفة لا تبل الشوق، وقلق، وجدل صاخب، وحزن، و..أمل رغم كل شيء.
في طريق العودة إلى نيوجرسي، استأنف الدكتور عبد الحميد تعريفي بما نمر به من أحياء نيويورك، وكنت غارقا في داخل نفسي: عام 48 حملنا ذوونا من قريتنا ، ذكرين إلى الخليل، ثم بيت لحم، فأريحا، فعمّان..فدمشق، فبيروت، فتونس، ولكننا لم ننقرض، أو نذب، بل تجاوزنا آلام حياتنا. دفنّا موتانا في الغربة، وشهداءنا في معارك خضناها، تزوجنا وأنجبنا، تعلمنا وتفوقنا، ورغم أنف المشروع الصهيوني ، وكل دول الغرب الاستعماري، والإمبراطورية الأمريكية: ها نحن..وها شعبنا، وقضيتنا، وناسنا النشطاء الشجعان..ها نحن أحياء..نحيا ونقاوم،رغم كل المحن.