حلب.. وابنها المطران كبوجي – رشاد أبو شاور
أغمض السيد المطران هيلاريون كبوجي عينيه، بعد أن اطمأنّ إلى أن حلب تحررت من آخر القتلة الإرهابيين، ومدينته، مسقط رأسه، حلب، تلفظهم بعيداً عن قلبها، مجللين بالعار والخزي، حاملين معهم ما سرقوه من المال والذهب، ثروات الحلبيين النشطاء المجدين في الحياة الذين جعلوا، جيلاً بعد جيل مدينتهم مدينة صناعة، وتجارة، وطرب، وحرسوا قلعتهم التي حرستهم على مدى العصور والأزمنة، فصاروا، هم وهي، قلعة وناساً ومدينة، قلعة واحدة عصيّة على الاختطاف، والاحتلال، وسرقة الهوية العربية السورية، وإعادتهم إلى عصور الظلمات والتخلّف في الزمن العثماني البغيض الذي تواصل أربعة قرون عجاف ثقال.
عرفته، وأصغيت له، وهو يخطب في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، وكانت الدورة تنعقد في دمشق، والنشاطات في مسرح (العمّال)، فانبهرت، كغيري، من الفصاحة، والوضوح في الانتماء، منه، هو رجل الدين، للمقاومة، والتصدي للتهويد والصهينة، فرأيت فيه الامتداد لمطران عربي وفد إلى فلسطين، هو المطران حجّار، فانحاز للحركة الوطنية الفلسطينية، وتحدى الانتداب البريطاني..الذي، في النهاية، لم يجد حلاً لرجل الدين المقاوم، الذي لُقّب بمطران العرب، سوى الاغتيال!.
فلسطين، سورية الجنوبية، كانت دائماً على موعد مع رجال وفدوا إليها من قلب سورية، من شمالها، وجبالها، وساحلها، وجنوبها، من دمشق الشام، ومن جبلة الشيخ عز الدين القسام، ومن حماة البطل سعيد العاص قائد الثورة في سورية الجنوبية، فلسطين، وهكذا فلا غرابة أن ينقل السيد المطران كبوجي السلاح إلى الفدائيين الفلسطينيين، في عمق فلسطين، في سيّارته الديبلوماسية، ليقاتلوا الاحتلال، فرجل الدين المؤمن بوطنه، بعروبته، بإنسانيته، لا يمكن أن يقف على الحياد.
هذا هو رجل الدين المثقف، العارف بجذور الصراع، وبما تمثله الصهيونية من خطر على كل القيم الإنسانية، وبخاصة علينا نحن العرب كأمة، وكتراث، وكمصير؟!.
أغمض السيد المطران عينيه راضياً مرضياً، فهو مع فلسطين، ومع مسقط رأسه الحلبي السوري، وهو مع كل قضايا الإنسان في أي مكان على هذه الأرض.
تحررت حلب، وهي مع دمشق تشكلان كفتي الميزان، ميزان الوطن السوري، والدولة السورية، وإن بقيت هناك أراض، مدن، وبلدات، وقرى، ما زالت محتلة بالإرهابيين القتلة، جنوباً وشمالاً.. فستُحرّر.
لكن السيد المطران وهو يرى حلب تتحرر بتضحيات وبطولات جيشها العربي السوري، أيقن أن المؤامرة أُسقطت بالإرادة العربية السورية، وأن ما بقي لن ينتظر طويلاً حتى يرفرف في سمائه علم سورية العربية بنجمتيه المتلألئتين.
مع أفول العام 2016، ومع شروق شمس حلب على مشارف العام 2017، وأنا أتابع لحظة بلحظة انقشاع ظلام التكفير، والتآمر التركي السعودي القطري، بإشراف أمريكي، ودعم بريطاني فرنسي، هتفت، وكنت وحدي أمام شاشة التلفزيون: لا شرقية ولا غربية.. حلب مدينة سورية.
ووجهت وجهي باتجاه سورية، وركزت نظري إلى حلب، فرأيت مصانعها تدور، والحياة فيها تنهض من تحت الدمار، فعرفت أن الحلبيين السوريين الشجعان الصابرين قد أرسلوا رسالة حياة كريمة حرّة، لا إلى أرجاء سورية الوطن، ولكن إلى الوطن العربي الكبير، وإلى ملايين العرب الشرفاء، وإلى ملايين البشر على هذه الأرض.
هذه قيامة سورية يا سيدي المطران… وإني أتذكر سهرتنا الممتدة معك حتى الفجر في روما، في شهر تشرين الأوّل عام 1981، وأنت تبشرنا بعودة القدس، رغم أنك نفيت بعد السنين التي قضيتها في الزنزانة طوال سنوات بعيداً عنها، مع شرط ألا تعود إليها، ولكنك عدت إليها بمواقفك وروحك، وصلواتك.
في هذا العام 2017 ستنتصر سورية، وستنهض، وتستعيد عافيتها، بشعبها، ومؤسسات دولتها، يتقدمها جيشها العظيم…
لقد راهنا على انتصار سورية، وشعبها، ودولتها، وجيشها، وقيادتها الشجاعة الشريفة الصابرة ..وهذا الرهان ينتصر ويملأ العين والقلب والعقل والضمير.
وليتجرّع الخونة السم الذي أرادوا أن يقتلوا به سورية الأبية العريقة، قلب بلاد الشام.. سورية الكبرى التي جنوبها فلسطين..ودرّتها دمشق: قلب العروبة النابض في الجسد السوري، والعربي مشرقاً ومغرباً.