جامعة الدول العربيّة… من تجمع؟ – ثريا عاصي
لا نجازف في الكلام إذا قلنا انّ النفوذ في جامعة الدول العربية يعود بشكل رئيسي إلى الأمراء السعوديين وأتباعهم في الكيانات الخليجية الأخرى، وانّ من مظاهر هذا النفوذ ومن نتائجه ذات الدلالات العميقة صوراً لن تنساها الشعوب العربية بحسب رأيي، سواء استطاعت هذه الأخيرة ذات الحظ العاثر، البقاء في أوطانها أو أُجبرت على الرحيل نحو معسكرات التجميع. خذ إليك مثلاً صورة أمين عام جامعة الدول العربية في مجلس الأمن الدولي إلى جانب أمير قطري، حيث كانا بصدد مسعىً من أجل الحصول على قرار من المجلس المذكور يكلّف الولايات المتحدة الأميركية بفرض الديمقراطية على السوريين ومنحهم مطلق الحرية في الاقتتال فيما بينهم وفي تدمير دولتهم وتجزئة بلادهم. هناك صورة ثانية تدهشك إلى حدّ الذهول يبدو فيها أمين عام جامعة الدول أيضاً بمعيّة وزيرة إسرائيلية بصفته وزيراً للخارجية في الفترة التي سبقت نهاية حكم الرئيس المصري الأسبق، التي تميّزت بأحداث مفجعة اشتملت على حروب إسرائيلية ضدّ سكان قطاع غزة وعلى حصارات وجدران إسمنتية وحديدية حوله، بعضها ظاهر وبعضها مدفون تحت الأرض…
ما أودّ قوله هو إنّ الدول الخليجية وعلى رأسها مملكة السعوديين مرتبطة بعلاقات خاصة بالولايات المتحدة الأميركية، هذا معطىً ثابت لا جدال فيه. وبالتالي، لا مفرّ من أخذه بالحسبان في قراءة وفهم مواقف هذه الدول سواء على الصعيد الإقليمي والدولي. لا أظنّ أنّ هذه المسألة تحتاج إلى براهين لمحلها من الوضوح. بكلام آخر، إنّ هذه الدول خاضعة للنفوذ الأميركي إلى درجة أنها تبدو كأنها ما تزال شبه مستعمرة كما نصت على ذلك الاتفاقيات المعقودة بين أمرائها وحكامها من جهة، وبين الولايات المتحدة الأميركية، ومن قبلها بريطانيا من جهة ثانية.
ينجم عنه، أنه من المفروض أن يُقيّم الدور الذي تؤدّيه الدول الخليجية في سيرورة «الفوضى الخلاقة» التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية بمعيار خضوع هذه الدول للنفوذ الأميركي، حتى لا نقول ارتهانها. فعلى الأرجح أنّ هذه الأخيرة تتصرّف بحرية ومن دون موافقة الولايات المتحدة الأميركية ضمن حدود هامش ضيّق جداً. هل يعقل على سبيل المثال أن تُقدم دولة قطر التي تحتلّ القواعد الأميركية جزءاً كبيراً من مساحتها، ناهيك من أنّ نسبة عالية من سكانها هم من الأجانب، على انتهاج سلوك اعتراضي على سياسة الولايات المتحدة الأميركية في تدبير حروب على البلدان العربية التي شاركت بشكلٍ أو بآخر في حرب تشرين 1973 كمثل الحرب التي شنتها على أفغانستان تحت عنوان «عملية الارهاب الإسلامي»؟ أما إذا كانت الإجابة بالنفي، استناداً إلى أنّ هذه الدولة القطرية لا تمتلك شيئاً من الاستقلال بحسب المقاييس الموضوعية، فيحق لنا أن نسأل بناءً عليه عن الأسباب التي جعلت « قناة تلفزيونية « واسعة الانتشار، وشيوخ الأخوان المسلمين في مقدّمهم القرضاوي و«شيوخ الفكر العربي والثوري» وعلى رأسهم «المفكر العربي» الفلسطيني عزمي بشارة، يتواجدون جميعاً فيها (قطر) غير بعيدين عن قاعدة عسكرية أميركية يُحكى أنها مركز قيادة رئيسي!
وبالعودة إلى جامعة الدول العربية التي طوّعتها الإرادة الخليجية، فطردت العراق وسورية من عضويتها واستدعت حلف شمال الأطلسي العسكري من أجل إسقاط ما كان قد أُنجز من كيان الدولة الليبية في محاكاة للفاجعة العراقية.
يحسن التذكير بأنّ أمين عامها الحالي كان الناطق باسم أصحاب المشروع
السياسيّ الذي تبناه الرئيسان المصريّان الأسبقان السادات ومبارك، أيّ انّ الرجل خدم سياسة التطبيع مع المستعمر الإسرائيلي.
صحيح انه كان لمسألة العضوية في جامعة الدول العربية في الماضي وجه مختلف عن الحاضر، لجهة أنّ النفوذ الغالب فيها كان بيد نظم الحكم الوطنية . أقصد أصحاب الخطاب الوطني العروبي، بصرف النظر عن مصداقية هذا الخطاب طبعاً، علماً أنّ هذه النظم كانت تحظى بدعم الجماهير العربية التي كانت تعتقد أنّ الخطاب الوطنيّ والعروبي الرسميّ ذو مصداقية لا يخالطها شكّ.
من نافلة القول، انّ الوضع تبدّل في الراهن، فالخطاب الوطني العروبيّ ليس
مقبولاً، أو بالأحرى ليس مسموحاً به إلا تحت درجات متواضعة جداً، شرط أن يبقى مغشى بالضباب حتى لا يُفضي إلى شعارات وطنية إصلاحية يُخشى من تأثيرها في وعي الناس لمشكلاتهم المعيشية . في المقابل، اكتشف هؤلاء الناس أنّ حكامهم لا يستحقون أية مصداقية. لا شكّ في أنّ هذه المتغيرات والمتبدّلات قصمت ظهر المشاعر الوطنية الناشئة، الحديثة الولادة، تاركةً المجال واسعاً أمام فيروسات العصبية والأنانية وغريزة الجمع. فصارت السلطة تأكل محاصيل الناس وتفتدي بقاءها بهم، أما هم فصاروا يهربون من المستعمر ومن الحاكم ومن الآخرين الذين يشبهونهم.
توصل في الحقيقة مداورة مسألة جامعة الدول العربية في الذّهن إلى نتيجة
مفادها أنّ الدّول الخليجية هي في الواقع شبه مستعمرات، أي أنها تحت الهيمنة الأميركية. ينبني عليه، أنّ عضويتها في جامعة الدول العربية كانت في الماضي، عندما كان الخطاب الوطنيّ القوميّ العربيّ ذا فعالة نسبية حمى هذه الدول الخليجية من تمدّد حركة التحرّرالعربية آنذاك، أو بالأحرى من صدى خطابها. أظنّ أنّ هذا الاستنتاج إذا كان صحيحاً قبل حرب حزيران 1967 بدأ بفقدان صلاحيته بعدها، وتحديداً بعد الهزيمة الماحقة التي لحقت بالذين كانوا يمثلون التيار الوطني والقومي بين نظم الحكم العربية. كانت الهزيمة بمثابة قارب النجاة للدول الخليجية، إذ صارت الحكومات المنكسرة والنظم المتداعية بسبب العدوان الاستعماري بحاجة ماسة لوكلاء المستعمرين المحليين! فكان طبيعياً أن تختفي بعد هزيمة حزيران 1967 تدريجياً الفروقات بين بلدان عربية تعتبر مستقلة من جهة، وبين بلدان عربية مستعمرة، ولكن تعامى الجميع حكاماً ومواطنين، عن كونها مستعمرة من جهة ثانية.
أنا على يقين من أنّ الدول الخليجية ما كانت لولا هزيمة حزيران 1967 لتستطيع أن تطرد العراق وليبيا وسورية من جامعة الدول العربية، ولما كان بمقدورها من دون قناع أن تعاون الدول الاستعمارية في تدمير الدول العربية التي انكسرت في حزيران 1967، وحاولت من دون أن تفلح في «محو آثار العدوان» في تشرين 1973. خلاصة القول وقصاراه، إنّ المزج والخلط بين الوطنيين المناضلين ضدّ الاستعمار وبين المتعاونين مع الاستعمار، كما حصل في جامعة الدول العربية، يؤدّي إلى «ثورات مقلوبة»: المستعمرون ضدّ الوطنيين، المحتلون ضدّ الأصلانيين.
“الديار”