الأسرى المضربون عقابٌ كامنٌ وحسابٌ لا يموت – د. مصطفى يوسف اللداوي
انتهى إضراب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، بعد صمودٍ كبيرٍ استمر أكثر من أربعين يوماً، تدهورت فيها صحتهم، ووهنت أجسادهم، ونحلت أجسامهم، وضعفت قواهم، وجَهِدَ معهم الشعب وتعبت معهم الأمة، وساندهم الأحرار ووقف إلى جانبهم المناضلون، ولكنه تكلل في نهايته بالنجاح، بعد مفاوضاتٍ مضنيةٍ مع مصلحة السجون الإسرائيلية، ومندوبين عن الأجهزة الأمنية، ومكتب رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، وبحضور ومشاركة اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وبانتهاء الإضراب لم تنتهِ المعركة ولم تصفُ النفوس ولم تهدأ القلوب، بل بدأت مرحلة جديدة من المواجهة مع سلطات السجون الإسرائيلية، وانطلقت معاركٌ خفيةٌ خبيثةٌ، تخطط لها الإدارة وتنفذها بصمتٍ وهدوءٍ وبطءٍ شديدٍ، دون أن تثير جلبةً بتعميمها، ولا فوضى بالإعلان عنها، ولكنها معركة منظمة يعرفها الأسرى والمعتقلون، ويهيئون أنفسهم لها وقد مروا بمثلها، فلا يهابون من مواجهتها والتصدي لها، لكنهم يعترفون أنها معركة قاسية بخبثها، ومرة بأدواتها، وقذرة بتوقيتها، وغير متوازنة في قدراتها، وهي معركةٌ تستهدف الأسرى عموماً والذين شاركوا في الإضراب على وجه الخصوص، في الوقت الذي لا تستثني غيرهم، ولعل الأسرى جميعاً يدركون أن هذه المعركة كانت قادمة لا محالة، وأنها إن تأخرت فلن يشطبها العدو من برامجه.
إنها معركة الثأر والانتقام، واستعادة المبادرة ورد الكرامة، فالعدو يدرك أنه خسر في هذه المعركة وأهين، وأنه مهما تصلب وتشدد، وأياً كانت حجم التنازلات التي قدمها، والتسهيلات التي بادر إلها، فإنه قد قام بها مرغماً ومجبراً، ولو أنه كان مخيراً أو مختاراً ما أعطاهم شيئاً، ولا تنازل لهم عن حق، ولكنه خضع لإرادتهم، واستسلم لصمودهم، وخاف من عنادهم، وجبن عن المضي قدماً في مواجهتهم، وقد ساءت صورته وتشوهت، وتعرضت حكومته للانتقاد وسياستها للشجب والاستنكار، وقد أيقن العدو بوجوب القبول بشروطهم، إذ أن الأسرى كانوا يسيرون بإضرابهم العنيد إلى إحدى الحسنيين اللتين لا ثالث لهما عندهم، نصرٌ على العدو واستعادة الحقوق منه، أو شهادةٌ ينالون بها شرف الصمود وعزة المقاومة.
الأصل أن يلتزم الموقعون بما وقعوا عليه، وأن يفوا بما اتفقوا عليه والتزموا به، وألا ينقضوا العهد ويخرقوا الاتفاق، ولو كانوا هم الأقوى والأكثر سلطةً وقدرةً وتحكماً، إذ على الاتفاق شهودٌ دوليون وفلسطينيون، وجنودُ الإضراب حضورٌ، وما زالت أيديهم على زناد معداتهم جاهزة، والأحزمة التي يشدون بها على بطونهم حاضرة، لكن العدو الخبيث بطبعه والسيئ في خلقه، والانتهازي في سياسته، والناكث للعهود في تاريخه، والخائن للأمانات طوال عمره، والغادر للمواثيق والأحلاف في ماضيه، يدرك أوضاع الأسرى والمعتقلين الخارجين للتو من إضرابٍ مفتوحٍ طويلٍ عن الطعام، ويعرف حالتهم النفسية وقدراتهم الجسدية، ومدى قدرتهم على مواجهة الصعاب وتحدي المشاق، وبهذا قرر مواجهتهم، واستعد لإعلان الحرب عليهم، وتجريدهم فردياً من حقوقهم، وحرمانهم تدريجياً من امتيازاتهم.
يعرف العدو تدهور الحالة الصحية للكثير من الأسرى الذين شاركوا في الإضراب عن الطعام، ويعرف أن بعضهم قد بدأ يعاني من اضطراباتٍ عصبية وضغوطٍ نفسية، فضلاً عن مضاعفاتٍ سلبية في وظائف الأجهزة الحيوية لديهم، نتيجة النقص الحاد في الغذاء الذي تعرضت له على مدى أكثر من أربعين يوماً، وبسبب نقص الدواء وغياب الرعاية الصحية والطبية اللازمة، التي كان ينبغي أن يتلقوها بعد تعليقهم الإضراب، وعودتهم لتناول الطعام والشراب بصورةٍ عادية، لهذا قررت مصلحة السجون والمخابرات مباغتتهم في ضعفهم، ومواجهتهم خلال فترة نقاهتهم، وانتهاز فرصة اعتلال صحتهم للإغارة عليهم، علها تستعيد منهم ما حصلوا عليه بصمودهم ونضالهم، وتجردهم مما يظنون أنه امتيازٌ وحقٌ دائمٌ لهم.
الحرب التي شنها العدو ضد الأسرى والمعتقلين كانت على مختلف الجبهات وكل المواقع، واستخدم فيها كل أسلحته وسخر فيها كل جنوده، وكانت أولها مصلحة السجون التي كانت ترصد وتراقب المعركة النضالية التي خاضها الأسرى والمعتقلون ضد سياستها وممارساتها القمعية، فزاد حقدها عليهم وبدأت بتنفيذ حملة انتقامٍ وتأديبٍ مدروسةٍ ضدهم، حيث لجأت من جديد إلى استخدام وسيلة النقل والترحيل، والعزل العقابي ولو أنه لفتراتٍ أقلٍ وفي نفس السجن، إلا أنها تتعمد معاقبة النشطاء والمسؤولين والمحرضين، وتتباطئ في الاستجابة إلى طلباتهم، وتؤخر تنفيذ ما اتفقت عليه معهم، وتفاوضهم من جديد على ما أقرته لهم، وتضيق عليهم لقاءاتهم مع محاميهم، ولا تمنحهما الفرصة ولا الوقت الكافي للقاء.
أما المحاكم العسكرية فقد انفلتت من عقالها كمجنونةٍ، وبدأت بإصدار أحكام قاسية، والتي تتضمن إلى جانب سنوات السجن الطويلة، غراماتٍ مالية عالية، ينوء عن دفعها وسدادها كبار الأغنياء وأشهر الأثرياء، فكيف بالفقراء المعدمين، والمحاصرين المحرومين، ولم تستثن من أحكامها الجائرة الأطفال والفتيات القاصرات والنساء، كما عمدت إلى المصادقة على الأحكام الإدارية بحق معتقلين جدد، أو تجديد الأحكام السابقة وتمديدها، رغم أن الأسرى في إضرابهم قد طالبوا بوقف سياسة الاعتقال الإداري.
وعلى المستوى السياسي فقد اجتمع المجلس الوزاري الإسرائيلي الأمني المصغر “الكابينت”، ووافق على قرار خصم رواتب ومستحقات الأسرى والمعتقلين جميعاً من العوائد الضربية للسلطة الفلسطينية، ضمن سلسلة الإجراءات العقابية التي تنوي الحكومة الإسرائيلية اتخاذها، والتي يبدو أنها تمت بعلم وموافقة الإدارة الأمريكية، في الوقت الذي ألزمت فيه السلطة الفلسطينية بدفع مبلغ ستة ملايين دولار لتغطية نفقات وتكاليف الزيارة الثانية التي استطاع الأسرى والمعتقلون انتزاعها من إدارة السجون.
إنهم يحقدون على الأسرى والمعتقلين ويكرهونهم، ويخططون للإبقاء عليهم في سجونهم أو معتقلاتهم، يقضون عمرهم كله في سجونهم وفيها يموتون، ولا يخرجون منها ما استطاعوا، ولا ينعمون بالحرية مهما حاولوا، وإذا قدر الله لهم وخرجوا من سجونهم، محررين أو لانتهاء مدة محكومياتهم، فإنهم يلاحقون ويطاردون، ويضيق عليهم ويعاد اعتقالهم من جديدٍ، ومن ينجُ منهم من القتل فإنه يعود إلى السجون والمعتقلات، بتهمةٍ قديمةٍ أو بغيرها جديدةٍ، ويضاف إلى حكمه الجديد أحكامه القديمة التي ظن أنه أفلت منها ونجا من مرها، ذلك هو الحقد اليهودي الذي لا يقوون على إخفائه، ولا يستطيعون إنكاره، وإنها الطبيعة المريضة والجبلة المشوهة والفطرة الشاذة التي فطروا عليها ونشأوا فيها.