هرتسيليا وصلاح الدين! – عبد اللطيف مهنا
كل عام، ومنذ بدء هذه الألفية، بات ساسة الاحتلال في فلسطين المحتلة، سلطة ومعارضة، وأمنيوه واستراتيجيوه، ونفر من عتاة صهاينة العالم ومتصهينية، على موعد دوري مع منتدى رسا على مسمى “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية”. وهرتسيليا، أو هاته المستعمرة المدينة على الساحل الفلسطيني شمالاً، اكتسبت اسمها تخليداً لتيودور هيرتسل اليهودي المجري المولد النمساوي الجنسية المؤسس الأبرز للحركة الصهيونية وأهم دعاتها، أما “المناعة القومية”، التي تجيَّش لها جهود المؤتمرين، أبحاثاً ودراسات وتنظيراً واجتهادات، مع ما يبعثه السياسيون من رسائل لمن يهمهم ايصالها إليهم عبر خطاباتهم التي يتيحها منبره، فمفهومها اجمالاً يعكس أمراً واحداً يكمن خلفه هاجس أوحد.
الأول، هم تثبيت الكيان الاستعماري الإحلالي الغاصب لفلسطين وتوسل سبل استمراريته وضمانتها، وفي مقدمتها كيفية ترسيخ عملية فرض الوقائع التهويدية وتخليدها، أو ما يقتضي بالضرورة نفي الوجود الوطني الفلسطيني معنوياً ومادياً ما أمكن، وإمداد الكيان الثكنة، وهي المدججة دوماً حتى الأسنان، بآخر وأحدث ما توصَّلت له آلة الموت الغربية من مبتكرات الفتك الجهنمية والأكثر تطوراً، بمعنى، إبقاء ضمان أمن هذا الكيان وتفوُّقه على كل من هم حوله، نعني عرباً بالمجمل ومعهم جوارهم الإسلامي، سؤالاً مطروحاً…ولإ تكتمل إجابته، وقد بيَّناها ضمناً، بلا وجهها الآخر، وهو العمل الدؤوب على اختراق الجدران العربية المتهتكة لتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ في الجسد العربي المثخن ببلايا فتن راهنه الانحداري المشين.
الثاني، أو الهاجس الكامن وراء كل ما تقدَّم، هو مزمن ذات الفوبيا الوجودية المستحكمة، ومردُّها احساس الجسم الغريب المفتعل، الذي يرفضه التاريخ وتلفظه الجغرافيا، بهشاشته مهما امتلك من وسائل القوة، ما دام نقيضه موجوداً، وسيظل هذا هو حاله ما دام هناك فلسطينياً أو عربياً واحداً…نتوقف هنا أمام أطروحات لإثنين من غلاة صهاينة الاحتلال، واحدتهما خلال المؤتمر الأخير والثانية بالتزامن مع انعقاده، واللتين تلخِّصان كل ما سبق:
الأول سياسي، وهو وزير الحرب افيغدور ليبرمان، الغني عن التعريف، وهو يدلي أمام المؤتمر باعتراف اشبه بصرخة، مفسراً عدم قدرة كيانه فرض تصفية القضية الفلسطينية، او “السلام” وفق المنظور الصهيوني، بقوله إن “إحدى المشكلات هي أنه منذ حرب 1967 لم ننتصر في أي معركة”، وإذا ما لاحظنا أن كل معاركهم الخاسرة تلك كانت مع المقاومة في جنوب لبنان أو المقاومة في غزة، ندرك مدى إحساسة بالمعضلة التي يواجهها كيانه الهش على قوته، لاسيما وإن ازدهرت ثقافة المقاومة وفي تصوري أنها بحكم مصيرية راهننا حتام أنها سوف تكون إلى ازدهار…اعتراف بأن زمن الانتصارات قد ولَّى وحدود القوة بلغت منتهاها والقدرة على التوسُّع قد انتهت، ذلك كان منذ انكفائهم هروباً من جنوب لبنان أمام ضربات المقاومة عام الألفين، وفشل حربهم عليه عام 2006 ، وحروبهم الثلاث التي أفشلها صمود المقاومة في غزة المحاصرة.
ولم يتوقف ليبرمان فأدلى باعتراف آخر هو إن “كل من ربط مصيره بنا خسر”. ويعني من سالمهم أو تعاون معهم من العرب على امتداد الصراع، وصولاً إلى “السادات، وبشير الجميِّل، وجيش لبنان الجنوبي”، ليخلص إلى تكرار اطروحته القائلة بفشل أوسلو لأنها قامت على معادلة “الأرض مقابل السلام”، وبديلها عنده “تبادل الأراضي”، أي التخلُّص من جزء من فلسطينيي المحتل من فلسطين عام 1948، أي الإحالة إلى مخططات “الترانسفير”، أو الهدف الأخير لاستراتيجيتهم. أما جديده فالمتمثل بتبديل أولويات المسارات التصفوية المرادة للقضية الفلسطينية، ب”وضع ملف التسوية الإقليمية مع الدول العربية ككل قبل المسألة الفلسطينية”، وهو هنا يلتقي مع نفتالي بينت الذي قال في المؤتمر بمثله أيضاً، وكليهما يتفقان فيما قالاه مع ما بات بنيامين نتنياهو لا ينفك يردده ويعيده ويزيده في هذه الأيام.
الثاني، اكاديمي ترانسفيري عتيد وأستاذ للجغرافيا في جامعة حيفا هو ارنون سوفير، والذي وضع كتيِّبا تبنته وزارة الأمن عنوانه “قضايا الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط”، ينتهي فيه إلى التحذير بأن كيانه الغاصب هو دولة “ستواجه خلال ال15عاماً المقبلة مخاطر انهيار داخلي مريع يتهددها أكثر من القنبلة الذرية الإيرانية”…ما هو؟!
إنه الديموغرافيا الفلسطينية، التي تعمل لصالح الفلسطينيين، فاليهود في كل فلسطين التاريخية هم الآن 49,2 ، ويتوقَّع تراجع نسبتهم إلى 41’8 عام 2025. ويذهب أبعد فيقول، “إذا استمرت هذه الحالة ستطبِّق إسرائيل بيديها قرار التقسيم في العام 1947، وستختزل وجودها في شريظ ساحلي يمتد من حيفا إلى عسقلان”!
المناعة عند سوفير بكل وضوح هي في الترانسفير دون أن يقول ذلك مباشرة، فمصادر الهجرة اليهودية نضبت والفلسطينيون يتكاثرون، وعند ليبرمان مثل ما عنده ويضيف عليه ما يتفق مع بينت ونتنياهو عليه، وهو عبر تبديل أولويات بركات الانهزامية العربية التصفوية، أي البدء بجني مردود الإقليمية منها قبل الفلسطينية!
وعليه، نجده قد عبَّر عن سعادته الغامرة لسماعه تصريحات واحد من أمثال الكاتب يوسف زيدان، فكتب على حسابه في “الفيس بوك” إنه “سعيد للغاية بتصريحات المؤرخين المصريين التي تنزع القدسية عن أكبر إرهابي في التاريخ الإسلامي صلاح الدين، وعن اسطورة المسجد الأقصى المصطنعة” !!!