منارة إبداعية لا تغيب – محمد أحمد السويدي
-
كلما ألمت بالكاتب فاجعة، على مستوى الفرد أو الوطن والأمة، تراه يقف ذاهلاً أمام سر الحياة وحكمة الم…وت في مشيئة الخلق الربانية، ولا سيما أن ما يحيط بالإنسان من معالم وإنجازات تبقى بعده ماثلة على مر الأجيال، ولعل في ذلك بعض السكينة والعزاء. لكن الذاكرة سرعان ما تهرب من قسوة الحدث الفاجع وتلجأ إلى أحضان الشعر، وربما أطل المتنبي في شرفة الذاكرة بلا دعوة ولا استئذان، قائلاً:
-
نبكي على الدنيا وما من معشر – جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
-
لكن رحيل الفنان المبدع يجعلنا نستعيد محطات ولمحات عدة من إنجازاته الإبداعية، لا سيما إذا كان متعدد المواهب، كتابة وتمثيلاً وغناء، وأعني هنا تحديداً نجم المسرح والتلفزيون العربي الكبير عبد الحسين عبد الرضا، فضلاً عن مكانته الكويتية والخليجية المشهودة على امتداد ما يزيد على نصف قرن من الجهد والعطاء المتميز في الدراما العربية، والكويتية انطلاقاً، لتشع بآثارها المنيرة على الخليج والعالم العربي كله.
-
لم يكن هذا الفنان الكبير رجل مسرح وحسب، كتابة وتمثيلاً وتجسيداً حياً على الخشبة وأمام عدسات التلفزة، وبكل وأسمى ما تعنيه عبارة «رجل المسرح» في المفهوم الأكاديمي، لكنه كان منارة إبداعية وهاجة، وشخصية مرموقة متعددة المواهب والأداء، تستأنس الأجيال بحضورها الفني الجميل، وتقتبس من ثمرات فكره وأدواره المسرحية والتلفزيونية دروساً وقيماً وإضاءات لا تخبو ولا يخفت ضياؤها، خصوصاً تلك المواقف الكوميدية الساخرة من أخطاء البشر وعيوبهم، على المستوى الخاص والعام. وهنا لن أتحدث عن أعماله الكتابية، لأنها شأن الدراسين، لكني سأتوقف قليلاً لدى موهبة الممثل، والكوميدي على وجه الخصوص. إننا نتذكر مئات من نجوم الدراما في المسرح والسينما، وفي أكثر من جيل عبر العالم، فضلاً عن المحيط العربي، لكن نجوم الكوميديا على امتداد تاريخ الفن العالمي لا يزيدون عدداً على أصابع اليدين. وهذا يعني أن الكوميديا فن صعب عسير التجسيد والأداء، وموهبته تلامس حدود الإعجاز. في وسع أي فنان أو حكواتي أن يثير حزن المشاهد وحسرته على شخصية منكوبة أو مشهد مؤثر، لكن من القلة القليلة جداً وربما النادرة من نجوم التمثيل من يستطيع إضحاك المشاهدين بصدق، وقد يشعر بعضهم بالخجل أمام نفسه، إذا كان النجم الكوميدي يسخر من عادة متحكمة بأحد من أولئك المشاهدين، وإن كانت عادة خفية عن أنظار الآخرين.
-
تجربة الفنان عبد الرضا ومسيرته الإبداعية الطويلة لا يمكن أن تنسى، منذ ظهوره الأول في مسرحية «صقر قريش» مع المخرج الرائد زكي طليمات، حتى آخر ساعة من حياته الحافلة بوفرة العطاء وجمال الحضور وعذوبة الصوت وتألق الذاكرة وطلاوة الحديث. إن هذه الشخصية الإنسانية المحبوبة والمنارة الفنية المتألقة ستظل تنشر ملامح رائعة من آثارها المتنوعة ومآثرها المضيئة وذكرياتها العزيزة بين أفراد عائلته الصغيرة والكبيرة في الكويت، وعائلته الكبرى في حواضر الخليج والبلدان العربية. وهذه نعمة الإبداع وعظمة الجهد الإنساني الكبير، وقد واجه الفقيد صعوبات صحية مضنية وتحمل أعباء ومهام ومسؤوليات جلى، لكنه لم يستسلم ولم يتردد أمام التحديات المؤلمة ولم ينكس راية الإبداع، بل واصل العمل والإنجاز وترك الراية مرفوعة شامخة خفاقة في سماء الكويت والخليج وعلى امتداد العواصم العربية ومهرجاناتها المسرحية.
-
وإذا كانت الجائزة تشير إلى أهمية المبدع وتحيط اسمه بهالة مضيئة من الاهتمام والتكريم، فإننا نرى أن أعمال عبد الحسين عبد الرضا، كتابة وتمثيلاً وأداء، تقف باعتزاز في محافل تكريمه إلى جانب الجوائز التقديرية التي نالها بكل جدارة وإنصاف. وفي اختتام هذه الهمسة الشجية في وداع إنسان عربي عزيز ومبدع درامي كبير، أتقدم بخالص المواساة وصادق العزاء إلى أهله وأبناء عائلته الكويتية وكافة محبيه في بلاد العروبة الواسعة، مبتهلاً إلى الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ولطف رضوانه ويسكنه نعيم جنته.