ناجي العلي حي بفنه الثوري الذي لم يساوم – رشاد أبوشاور
عندما سدد مأجور مأفون فوهة مسدسه إلى رأس ناجي العلي فنان الشعب والثورة وملايين فقراء الأمة وثورييها التقدميين، كان ينفّذ رغبة أسياده بالقتل..ظنا منهم أن ناجي في حال موته جسديا فإن فنه سينتهي فورا مع طوي آخر كاريكاتور، تماما كحيواتهم الرخيصة التافهة العابرة في حياة الشعوب التي تخوض معارك الحريّة.
وقعت عملية الاغتيال يوم 22 تموز..ولكن ناجي لم يمت، وظل متشبثا بالحياة – رغم الموت ( الإكلنيكي)- حتى يوم 29 آب..ففاضت روحه وحلّقت في سماء فلسطين، ورفرفت فوق بلدة ( الشجرة) مسقط رأسه، وأرض المعركة التي خاضها أستاذه الشاعر الثائر عبد الرحيم محمود واستشهد فيها وهو يقود أبطالاً واجهوا العصابات الصهيوني..
حلّقت روح ناجي في سماء لبنان، وحوّمت فوق صيدا..ومخيم عين الحلوة..مخيم الثورة والبطولة- الذي يعاني من عصابات التكفيريين حاليا- وعانقت وجوه الأمهات والآباء والأطفال الطالعين إلى الحياة متسلحين بالإيمان بحتمية تحرير فلسطين مهما غلت التضحيات.
ناجي العلي مدرسة الفن الثوري المبدع، الفن المُلهم، الفن الذي يفتح العقول والنفوس والبصائر على حقائق أراد أعداء الحياة تغييبه.
ناجي العلي الفن الذي فضح وعرّى وكشف، ولم يساوم أو يهادن للحظة.
ناجي العلي حمل روحه على راحته، وفي ريشته، كما فعل أستاذه الشاعر الثائر عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق
وإمّا ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
في بلاد العرب لا بد أن يحمل الفنان، الكاتب، الشاعر، المفكر..روحه على راحته، إذا ما أراد أن يتصدى للظلم والفساد..فما بالك وهو يرفع راية فلسطين، ويعلن أنه مع الثورة، وخياره المقاومة، ووجهته بحر حيفا ويافا، وفي صدره عبق البرتقال، وصيحات الشهداء، ونخوات المقاومين الذين استشهدوا وهم يتصدون للاحتلال البريطاني، والعصابات الصهيونية، وقوى الرجعية المتآمرة منذ بدأت أول الاشتباكات مع الغزاة الصهاينة المجلوبين من الغرب الاستعماري لتمزيق وحدة بلاد العرب، وغرس خنجر( إسرائيل) في القلب، والقلب فلسطن.
يوم 29 فاضت روح ناجي العلي فتنفس المجرمون القتلة الصعداء وفركوا أيديهم سعداء فمن يؤرقهم ويفضحهم برسوماته، من يطاردهم حنظله الصغير الفقير بشعره الخشن وقدميه الحافيتين، وهو يوليهم ظهره رافضا واقعا يصنعونه بجبنهم وتواطؤهم مع العدو المُحتل، ناظرا في اتجاه آخر ..اتجاه يراه ويريده ويؤمن به.
سيتساءل كثيرون: من قتل ناجي العلي؟ عندما أعددنا فيلما وثائقيا عنه، كانت كلمتي الأخيرة: تأملوا لوحاته فستعرفون كل القتلة..وهم (اتحدوا) في جريمة قتله وتقاطع رصاصهم في رأسه، وما كان التسديد على رأسه صدفة، فهم بهذا استهدفوا كل رأس يتحداهم ويواجههم في بلاد العرب.
ولكنهم خابوا، وكل المتآمرين دائما السائرين بعكس حركة التاريخ نظرهم قصر، وتخطيطهم يرتد عليهم وبالا…
رحل ناجي عام 1987 بدنا، ولكنه حي بألوف رسوماته الملهمة، فهو رسام مفكّر أشار دائما للطريق الصحيح المؤدي لفلسطين، وهو فضح العاجزين المستسلمين، وأدانهم بأفصح الكاريكاتورات الساخرة المُحقّرة لتقاعسهم وضعف أرواحهم وبؤس أفكارهم..ناجي بكاريكاتوراته لم يكن يُسلّي ، بل كان يُحرّض، ويسهم في زرع الوعي في العقول والنفوس، ولذا شكّل خطرا على كل أعداء الأمة.
انظروا جيدا وتأملوا، فماذا ترون؟
ناجي العلي يزداد حضورا وحياة، وهم يغرقون في الفشل، ويتجللون بالعار، وفلسطين تشع بنورها وتلهم السارين إليها، ولأن شمس حقيقتها لن تنطفئ فناجي العلي ومن يقبضون على جمرتها سيبقون أحياء عند ربهم وشعبهم وأمتهم.
استشهد غسان كنفاني يوم 8 تموز..واستشهد الشاعر عبد الرحيم محمود يوم 13 تموز ..واختار القتلة تموز لقتل ناجي..ولكنه قهرهم، وعيّشهم على أعصابهم بتشبثه بالحياة حتى يوم 29 آب.
من خططوا لقتل ناجي العلي ماتوا وإن بقي بعضهم أحياء جثثا متفسخة بفساد العقول والضمائر.
ناجي العلي: ما دامت أمه فلسطين حية، وما دام شعبه ينجب المقاومين، وما دام في أمته شرفاء يرفضون الخنوع ويقاومون، وما بقي فنانون وكتاب ومفكرون ومثقفون يؤمنون بأن الحياة مقاومة، وأنها وقفز عّز.. فهو حي باق..وهذا هو عقابه للقتلة.