اميركا غير المنحازة! – عبد اللطيف مهنا
فُقئت فقاعة “صفقة القرن” الترامبوية وإن استمرت ايهامات نفخها. الأميركان تكفَّلوا بذلك عندما اعتبروا الالتزام بإخدوعة “حل الدولتين”، التي لازال التسوويون الفلسطينيون والعرب يتمسكون بوهمها، هو بمثابة “انحياز” لا يجوز لوسيط “نزيه” مثلهم ارتكابه! كان هذا قبل يوم واحد من لقاء مبعوثهم كوشنر بالجانب الفلسطيني في رام الله، إذ استبقت الناطقة باسم خارجيتهم هذا اللقاء لتتلو براءتهم من مثل هذه الخطيئة. قالت: نحن ” لن نحدد ما يجب أن تكون عليه النتيجة” للمفاوضات المفترض بها أن تقود إلى هذه “الصفقة” الموعودة، وأردفت، إنه “كي لا يتم انحياز إلى طرف فضلاً عن الآخر… نترك الأمور لهم”، وتعني الحلفاء المحتلين والفلسطينيين المستفرد بهم!
حتى لا نذهب بعيداً في استقراء تلكم النتيجة التي لا يريد رعاة الصفقة تحديد ما يجب أن تكون عليه تاركين أمر ذلك لطرفي التفاوض عليها، حسبنا أن نشير إلى ما قاله نتنياهو، وبعد يوم واحد من لقاء كوشنر بالفلسطينيين، وفي احتفالية تهويدية لمستعمري الضفة بمناسبة مرور خمسين عاماً على بدء تهويدها، قال: إنه ” في أرض اسرائيل لن تقتلع أي مستوطنات، فنحن نعتني ونحرس هذا المكان وهو يحرسنا كممتلكات استراتيجية”.
نتنياهو هنا يشير إلى ما نركِّز دوماً عليه، وهو كون التهويد لبَّ الاستراتيجية الصهيونية وعليها قام وبلاها لا يستمر كيانهم الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، أو الأمر الغير قابل للبحث أو المراجعة لديهم، كما ويشير ضمناً للنتيجة التي ستفضي إليها مطلق مفاوضات ثنائية قد يوافق نتنياهو، ولا نظنه سيوافق، على العودة إليها، لاسيما وهو بانتظار مأثوره “الحل الإقليمي”، الذي أشَّرت عليه صفقة ترامب، والذي لا يختلف عن “حله الاقتصادي”. كما ولمقولته بعداً آخر ذا وشيجة ما بتصريحات الأمين العام للهيئة الدولية التي شرعنت اغتصاب فلسطين واعترفت بالكيان الغاصب واصبغت شرعيتها عليه، واعقبتها بيوم. قال غوتيرس في حضرة نتنياهو: إن ” اعلان حق دولة إسرائيل في الوجود أمر غير موجود، أو الرغبة في تدمير دولة إسرائيل، هو شكل من معاداة السامية الحديثة”!
كل ما تقدَّم يمكن تلخيصه في أن الأميركان قد طرحوا شعاراً جديداً ناسخاً وبديلاً لشعار سبق ورددته اداراتهم السابقة كان يدعى “حل الدولتين”. جديدهم هو الحل “الذي يتوافق عليه الطرفان”، والذي، ووفق ما تسمح به موازين القوى، وتتيحه رداءة الواقعين الفلسطيني والعربي، سيعهد به لآخر هو “الحل الإقليمي”، أي ما سينجم عنه ضغط عربي لإعادة فلسطينيي التسوية لطاولة المفاوضات، وصولا لذاك “الحل الأخير” وفق منطق “صفقة القرن”، المفصَّل وفق المقاييس الاحتلالية، والمتفق مع ما قاله نتنياهو لمستعمريه في الضفة، والمؤدي إلا إلى تصفية القضية الفلسطينية، وحيث من يقاومه سيتهم بما وصمه به غوتيرس، أي “معاداة السامية الحديثة”!
ليس هذا فحسب، سيترتب عليه كل ما من شأنه أن يجر إليه، ومنه، وجوب اعتراف الفلسطينيين ب”يهودية الدولة”، والتي يمهِّد الاعتراف بها للترانسفير، وشرطه نسيانهم وهم “حل الدولتين”، والتخلي عن حق العودة، وصولاً لتنكُّرهم لروايتهم للصراع والقبول برواية غازيهم المغتصب، وبالتالي قد يكونون، بل سوف يكونون، تحت طائلة مطالبتهم بالاعتذار له على مقاومتهم لعدوانه عليهم واغتصابه لوطنهم، وربما حتى بتعويضه على كلفة احتلاله لوطنهم!!!
الطريف المفارق هو أنه وبعد لقاء كوشنر بالجانب الفلسطيني في رام الله مباشرةً يخرج نبيل أبو ردينة ناطقاً باسم السلطة فيقول، لقد “تم الاتفاق على استمرار الحوار الهادف إلى التوصُّل إلى صفقة سلام شاملة وتاريخية”! في حين تسرِّب صحيفة “إسرائيل اليوم”، المقرَّبة من نتنياهو، ما مفاده أن كوشنر قد طالب الفلسطينيين بعدم التحرُّك دولياً لمدة أربعة اشهر بانتظار أن تعرض الولايات المتحدة مبادرة “لتحريك العملية السلمية” باتجاه “العودة للمفاوضات”، وإن هذا التحريك لمجرَّد هذه العودة، أو هذه “المبادرة”، مشروط، كما قالت الصحيفة، بأن يحافظ الفلسطينيون على ما دعته “الهدوء”، وألا يقوموا بتحرُّكات على الساحة الدولية، وتضيف، بأن رئيس السلطة قد أبدى موافقته المبدئية، لكنه طالب في المقابل بالتزام ترامب بتقديم هذه المبادرة.
حتى الآن لا تصعب على متابع معرفة أن ترامب لم يحدث وأن الزم نفسه بسوى ما دعاه “الالتزام بسلام دائم”، أو لم يخرج، وسوف لن يخرج، على ذات الالتزام الغربي المراوغ والفضفاض وغير الملزم بغير ما يرده كيان الاحتلال، أو ذاك المعلن دائماً من قِبل كافة إدارات كل الغرب الاستعماري وبلا استثناء، ومنذ أن بدأ الصراع وعلى اختلاف عهود هذه الإدارات ومسمَّياتها…وكله تحت ذات اليافطة التليدة والمستهلكة “العملية السلمية”، هذه التي لم تك أكثر من اللعب في الوقت الضائع، ولم تك بالنسبة لصنيعتهم المدللة بأكثر من تعلة لكسب الوقت لإنجاز استراتيجية تهويد كامل فلسطين وتصفية القضية الفلسطينية، وصولا لتكريس الوجود الاستعماري الاستيطاني الغاصب، وتثبيته بما ينسجم مع منطق غوتيرس، أي اعتبار مقاومته، التي هي حق تكفله للفلسطينيين كافة الشرائع السماوية والأرضية، بما فيها القانون الدولي وشرعة الهيئة الأممية التي هو أمينها العام، “شكلاً من أشكال معاداة السامية الحديثة”!!!