الاحتلال والاستثمار في المصالحة! -عبد اللطيف مهنا
لم تك “المصالحة” الفلسطينية لتصل لحدها الأدنى الحالي، أو البداية المتشكك في استمراريتها لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين، لولا أبجديات خارجية ثلاث، لها رابعها الذاتي لدى طرفي “الانقسام”. إنهن، إضاءة أميريكية خضراء، بعد ايمائة موافقة مسبقة من المحتلين، واستعداد عربي رسمي غير مسبوق للتخلُّص من وجع راس القضية التي كانت مركزية، وفق المعلن حينها، بالنسبة لما كان يدعى، وأيضاً في حينه، بالنظام العربي الرسمي، قبل أن يصبح في راهننا من الماضي.
أما رابعهما، وكنا قد اشرنا إليه أكثر من مرة في معالجات سابقة، فهو مأزق طرفي هذه “المصالحة”، لجهة انسداد النهج التنازلي لدى الطرف الأوسلوي، زد عليه التلويح له ضغطاً بورقة دحلان، ومقابله لدى الآخر، مأزق الوضع الإنساني الكارثي في غزة المحاصرة من العدو والشقيق معاً…أما ما سرَّع في إيصال هذه “المصالحة” لحدها المتواضع القلق في راهنها، فضغط الراعي المصري، والذي له باعثان، الحاجة الأمنية المصرية المتفاقمة في سيناء، ومتطلبات الدور المصري المفترض في سانحة قد تأتي بها المدعوَّة “صفقة القرن”، أو “الحل الإقليمي”، المحرِّك لما تقدم.
…وما تقدم لم نتعرَّض له هنا إلا كهمزة وصل للولوج إلى المحاولات الاحتلالية الجاهزة دوماً لاقتناص أية فرصة أو سانحة والإفادة منها تصفوياً…وهنا محاولة توظيف هذه “المصالحة” المتعثرة لحصد جملة من الاستهدافات المرادة، التي من شأنها أن تحوُّلها إلى استثمار في سياق تصفوي يأملون هم والأميركان وعربهم أن تكون آخر محطاته تلك الصفقةً، التي يفضل الصهاينة مسماهم لها، “الحل الإقليمي”…تصفوياً، للمقاومة بدايةً، وللقضية الفلسطينية نهايةً.
هم بدايةً مع مصالحة رادعةً للمقاومة، إن عزَّ، مرحلياً، نزع بندقيتها المقاتلة، ومحافظة على هذا الردع بتغيير ينسجم معها لقواعد الاشتباك، أي مضبوط اوسلوياً. بمعنى مصالحة تضمن أمن الاحتلال، أو كما هو الحال في الضفة الغربية، وإلا ظلت تحت طائلة تخريبها من قبله، ووقتما يشاء، إذا هي لم تفي بهذا المطلوب، والذريعة لا يعوزه اختلاقها.
في هذا السياق نفَّذ المحتلون مجزرة النفق في غزة. التي فيها، لناحية كونها المبيَّتة والمعدُّ لها مسبقاً، والمدروسة هدفاً وتوقيتاً، ما يؤكد على هذا بجلاء. هم بدايةً يريدون بارتكابها الدخول في سيناريوهات المصالحة واشتراطاتها، ومنها يدلفون إلى ساحة مفاوضات “صفقة القرن”، طارحين نزع سلاح المقاومة شرطاً لولوجهم ساحتها.
أما التخطيط والإعداد المسبق للجريمة، فيكشف عنه نشرهم لمنظومة “القبة الحديدية” حول مدينة اسدود شمالي غزة قبل أسبوع من المجزرة تحسباً لرد المقاومة، وكذا استدعاء الاحتياط بذريعة اجراء تدريبات عسكرية واسعةً، وتحت شعار الاستعداد لحالات الطوارئ، كما وليس بصدفة أن وقِّت لها أن تنتهي يوم العدوان تحديداً.
بقي القول بأن اختيار الهدف، والذي هو نفق قيد الإنشاء، ولتنظيم حركة الجهاد الإسلامي، يرمي إلى محاولة دق اسفين بين فصائل المقاومة في مثل هذه المرحلة القلقة، التي تشهد فيها ساحتها جدلاً أثارته مصالحة فاجأت سرعتها أطرافها، لاسيما وأن الاستهداف تعمَّد تجنُّب مواقع تابعة لحركة حماس باعتبارها أحد طرفي هذه المصالحة، واختار هدفاً تابعاً لحركة الجهاد الإسلامي التي هي ليست طرفاً فيها، فاستحضار فزَّاعة العامل الإيراني وتضخيمها اعلامياً لتوظيف وقعها المعروف في الأذن الأميركية، من حيث التركيز على صلة الحركة بإيران وتلقيها الدعم منها.
كما أن المسارعة لطلب المحتلين من القاهرة التوسُّط للتهدئة عقب المجزرة، والاعلان بأنه لم يكن مقصوداً استهداف قيادات، وإنكار استخدام غازات محرَّمة ثابت استخدامها، والقول بأن الهدف المقصوف يقع في المحتل عام 1948، أو يقع في أرض هي “ضمن السيادة الإسرائيلية”، وكأنما هي ليست محتلةً، وليست فلسطينية! كله يأتي ضمن ذات السياق السابق المشار إليه.
وأيضاً، لا تفوتنا الإشارة إلى أن التركيز الصهيوني على ترويج اتهام السلفيين وحدهم بارتكاب محاولة اغتيال القيادي في حماس، والأسير المحرر، اللواء توفيق أبو نُعًيْم، والذي هو مسؤول أمنها في غزة، ما هو إلا لإبعاد التهمة عنهم، ومحاولة منهم لتأجيج الخلافات القائمة أصلاً بينها والسلفيين…وهكذا فقد أثبت الصهاينة أنهم سادة في اقتناص الفرص والإفادة منها في ضرب عدة عصافير بحجر واحد، ومن بينها هذه المصالحة المتعثِّرة.
مؤشرات تباطؤ المصالحة، وإصرار رام الله على تبني شروط نتنياهو التصالحية لجهة نزع سلاح المقاومة، وعدوان مجزرة النفق، وضغط رعاة المصالحة للتهدئة بعدم رد المقاومة المفترض على مرتكبيها، كلها إشارات ممهدة لما يقال أنه اقتراب طرح ترامب لحل نتنياهو الإقليمي، ويزيد من هذا ويرجِّحه ما نقله جنرال الاحتياط في جيش الاحتلال عميرام متسناع عن رئيس سلطة الحكم الذاتي المحدود تحت الاحتلال، الذي استقبله يرأس وفداً من اثنى عشر عضو كنيست سابق في رام الله. ومما نقله نصاً، إنني “لن أقوم بتعيين أي وزير في الحكومة الحالية أو القادمة، إذا لم يعترف بإسرائيل”، مشدداً على وجوب أن يكون اعتراف حماس بعدوها “واضحاً وعلنياً وليس سراً”…ومكرراً رفضه لما دعاه عشية المصالحة “معادلة حزب الله في غزة” بقوله، إنه “لن يسمح لأن يكون للفلسطينيين سلاحين وسلطتين”!!!