أين أزمة المشروع الوطني الفلسطيني – منير شفيق
كلمة محمود عباس في جلسة قمة مؤتمر التعاون الإسلامي في إسطنبول طويلة جداً، بداية، واستعراضية جداً، ولهذا لا تليق بالمناسبة التي تفترض بكلمة رئيس أن تكون مكثفة مختصرة ومباشرة لما يريد أن يقوله، أو يطالب به.
ولهذا لا يُلام من قد يتبادر إلى ذهنه بأنه تعمد من الإطالة المملة أن يخرب جلسة المؤتمر الأولى كأنه هو المحدث أو “المحاضر” الوحيد. والدليل أن بعضاً ممن شارك في القمة أخذ غفوة بعد أن تعدت الكلمة نصف ساعة. وبدت بعدها أنها في بدايتها.
طبعاً هذه ملحوظة شكلية، في نهاية المطاف. ولم تمس محتوى الكلمة بعد. ذلك المحتوى الذي بدا في أكثر من موضوع تناوله شبيهاً بحرث الجمال. أي راح يحرث ويلبد ما حرث. وهنا ثمة عدة أمثلة جاءت خواتيمها غير ما هيأته مقدماتها.
ولنأخذ مثلين بارزين: الأول تلك المقدمات التي تحدثت عن “دولة الكيان الصهيوني” التي لم تحدد حدودها مما يفقدها شرطاً أساسياً من شروط الدولة حتى يُصار إلى الاعتراف القانوني والديبلوماسي بها. ثم عزّز ذلك بعدم اعترافها بأي قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة ولا سيما قرار قبول عضويتها في الهيئة وجاء مشروطاً بتطبيق قرار التقسيم أي العودة إلى الحدود التي حددها قرار 181، وكذلك تطبيق قرار 194 المتعلق بعودة اللاجئين. الأمر الذي استند إليه محمود عباس بمطالبة الدول التي اعترفت بـ”إسرائيل” أن تعيد النظر بذلك الاعتراف.
وقد أطال محمود عباس في هذه الأطروحة التي دفعت الكثيرين من معارضيه إلى الإعجاب بكلمته، وبما حدث من تطور في موقفه من جهة العودة إلى جذور القضية. ولكنه لم يأخذ قراراً بسحب كل اعتراف فلسطيني سابق بدولة الكيان الصهيوني متقدماً بالقدوة في إعادة النظر في الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني.
وبهذا تكون الكلمة قد راحت تلبد ما حرثته في مقدماتها المتعلقة بشرعية الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني. وزاد الطين بِلة من خلال تأكيده على حل الدولتين الذي يتضمن الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني وما احتلته من أراضٍ فلسطينية (تزيد 24% من أرض فلسطين فوق ما أعطاها إياه قرار التقسيم رقم 181 ظلماً وافتئاتاً على الحق الفلسطيني بكل فلسطين).
والمثل الثاني، إطناب محمود عباس في الحديث عن التاريخ ليثبت أن فلسطين في التاريخ، وقبل النبي إبراهيم نفسه عليه السلام، كانت فلسطينية وللفلسطينيين. ولكن كل هذه المقدمات التي يفترض بها أن تدحض أي حق لوجود الكيان الصهيوني في فلسطين سرعان ما تجاوزها ليلبدها بإعلان تمسكه بالتسوية والبحث عن وسيط بديل. فمن كان يسمع أجزاء من كلمته التي بدت تحولاً في مواقفه الأوسلوية السابقة يجد نفسه مع نهاياتها مقموعاً مخدوعاً نادماً على الانطباع الأول بأن عباس أخذ يُغير في موقفه.
طبعاً ثمة تغيير مضطرب بسبب الصدمة التي تلقاها من ترامب بعد طول رهان عليه، وعلى صفقة القرن. وهذا ما يُفسر ما حملته كلمته الطويلة المملة من تناقضات بين مقدمات لمواضيع شتى ونهايات لا علاقة لها بها.
فقد راح يؤكد بأنه ما زال على مواقفه السابقة من التسوية وحل الدولتين (التصفوي). ولكن من دون ترامب كراعٍ وحيد. وهذه بالنسبة إليه، كما عوّدنا، قابلة لإعادة النظر إذا ما دُوّرت زواياها. فمحمود عباس لم يطلب في نهاية كلمته رداً على قرار ترامب سوى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 67 وعاصمتها القدس.
هنا تكمن الحلقة الرئيسة في الخلل الاستراتيجي والسياسي الفلسطيني، أو إذا شئت في المشروع الوطني الفلسطيني، أو بلغة “اليسار” في برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية. وذلك بجعل الهدف الأول هو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها “القدس الشرقية” من خلال تسوية تفاوضية على أساس “حل الدولتين” والذي يتضمن الاعتراف بالكيان الصهيوني غير الشرعي والتسليم مجاناً بما اغتصب من أرض فلسطين، فضلاً عن التسليم مجاناً بـ”القدس الغربية” عاصمة له.
هذه الإستراتيجية حوّلت “المشروع الوطني الفلسطيني” إلى مسعى سياسي دولي لكسب أوسع اعتراف بالدولة الفلسطينية، بدلاً من المحافظة على السمة الأساسية لهذا المشروع ألا وهي مقاومة الاحتلال الذي وقع في 1967، مع الاحتفاظ بالحق الفلسطيني بكل فلسطين من النهر إلى البحر، وحق عودة كل اللاجئين والنازحين. فمقاومة الاحتلال هي ما يعطي المشروع الفلسطيني سمة حركة تحرر وطني. وهذه هي السمة الأولى التي قامت على أساسها كل حركات التحرر الوطني من الاستعمار المباشر.
والفارق هنا بين المشروعين مشروع الاعتراف بالدولة ومشروع دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط، يمكن أن يلحظ، كمثل سريع عليه في لقاء محمود عباس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس في 22/12/2017.
فبدلاً من أن يطرح على ماكرون دعم النضال الفلسطيني (الانتفاضة الشعبية)، ضد الاحتلال والاستيطان، طالبه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وجاء جواب ماكرون معفياً من أن يأخذ موقفاً من الاحتلال والاستيطان اللذين لا يستطيع أن ينكر عدم شرعيتهما، قائلاً “هل سيكون مجدياً اتخاذ قرار من طرف واحد بالاعتراف بفلسطين (يقصد الدولة الفلسطينية)؟ لا أعتقد. لأنه سيمثل رد فعل على القرار الأمريكي…” وتابع “وسأكون كمن يرد على خطأ بآخر”.
هذا المثل الطازج الذي يكشف الخلل في “المشروع الوطني الفلسطيني” حين يضع أولويته الاعتراف “بالدولة وعاصمتها القدس الشرقية”، في مقابل “المشروع الوطني الفلسطيني” الذي يحمل سمة حركة تحرر وطني ضد احتلال تعترف كل الدول بأنه غير شرعي. وكذلك القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة.
صحيح أن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني الراهن تنبع، موضوعياً، من الاحتلال والاستيطان وما يحميهما من ميزان قوى. ولكن هذه الأزمة تفاقمت ودخلت في النفق المسدود عندما وضعت العربة أمام الحصان.
أي وضعت الدولة أمام تحرير الأرض أولاً. فبدلاً من أن يدور الصراع الداخلي في فلسطين ودولياً على أساس صراع ضد الاحتلال والتخلص منه بلا قيد او شرط. لأن الاحتلال لا يحق له أن يُكافأ أو أن يلحق بالمفاوضات ويأتي بعد الاعتراف بالدولة، أو أن يحظى على “تنسيق أمني”، وإنما عليه أن يرحل بدون قيد أو شرط. أي تحرير الأرض أولاً (تحرير الضفة والقدس)، وبعدئذ لكل حادث حديث من حيث المشروع الوطني اللاحق بعد التحرير أهو إقامة دولة أم تشكل “ترتيبات” أخرى، أم الإعداد للتحرير الكامل.