عبد المحسن القطان: رؤية ثاقبة بعينيْ صقر
ظاهرة عربية
د. فيحاء قاسم عبد الهادي
يوم 04 كانون الأول 2017؛ خسرت فلسطين وخسر العرب ابناً من خيرة أبنائهم؛ المثقف التربوي، والاقتصادي المتميز، والسياسي المحنّك: عبد المحسن القطان، الذي ربط بين الاقتصاد والسياسة والثقافة بشكل عميق، وآمن منذ ريعان شبابه بالعلاقة العضوية بين تحرير الوطن وتحرير الإنسان.
*****
لحظة رحيله أطلَّت المؤسَّسة التي تحمل اسمه، والمؤسسات التي ساهم في إنشائها لتؤكِّد رسوخ أعماله في الوطن الفلسطيني والعربي، ولتذكِّر بالقيم والمبادئ التي اعتنقها، واسترشد بها في عمله، وعمل على نشرها، عبر مسيرة كفاحه الممتدة.
اعتبر “أبو هاني” أن الاستثمار بالإنسان هوالذي يمكن أن يؤتي أكله، ولذا وضع جلّ اهتمامه واستثماراته بمشاريع تربوية وثقافية، استهدفت الشباب والأطفال الفلسطينيين، فأنشأ “مؤسسة عبد المحسن القطان”، في رام الله، و”مركز القطان للطفل”، في غزة.
كما كان أحد مؤسِّسي “مؤسسة التعاون”، و”مركز مسارات”، وأحد الداعمين لعدد من الجامعات العربية والفلسطينية: “الجامعة الأمريكية”، في بيروت، و”جامعة بيرزيت”، في فلسطين، ولعدد من مراكز الدراسات الفلسطينية والعربية: “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، و”مركز دراسات الوحدة العربية”، في لبنان، و”مؤسسة أحمد بهاء الدين”، في مصر.
*****
عشق العلم والمعرفة منذ الطفولة. التحق بالمدرسة الأيوبية في يافا، ثم درس في الكلية العربية بالقدس، وتتلمذ على مبادئ التربوي المتميز خليل السكاكيني، ودرس السياسة والاقتصاد، وبدأ
في دراسة العلوم السياسية والاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت، قبل عام 1948؛
لكنه وقد أصبح معيلاً لعائلته بعد التهجير؛ آثر أن يغيِّر من اختصاصه العلمي ليدرس إدارة الأعمال.
ومن بيروت إلى عمان إلى الكويت؛ ليعمل في التدريس؛ لكن طموحه المستند إلى الدراسة العلمية دفعته لتأسيس “شركة الهاني للإنشاءات والتجارة”، برأس مال متواضع. الشركة التي ما لبثت أن أضحت من الشركات الكبيرة للمقاولات في الكويت.
أما عمله السياسي المباشر؛ فقد بدأ في الكويت، واستمرّ في بيروت، في منظمة التحرير الفلسطينية، حتى أنه انتخب رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة عام 1969. أما عمله السياسي غير المباشر فقد بدأ إثر استقالته من منصبه بعد فترة وجيزة، رغم أنه استقال من المجلس الوطني عام 1990، إثر خلاف سياسي مع قيادة المنظمة.
وعبر مؤسسة التعاون؛ ساهم في تعزيز صمود الفلسطينيين، في فلسطين وفي الشتات، من خلال دعم مشاريع تنموية، تطوِّر قدراتهم، وتحفزهم على الإنتاج، وتساهم في الحفاظ على تراثهم وهويتهم وثقافتهم، مع إيلاء أهمية خاصة لتطوير البنية التحتية لمدينة القدس، والحفاظ على الهوية العربية لأراضي ال 1948.
وللمزيد من العمل المتخصص في مجالي التربية والثقافة والإبداع؛ أنشأ مؤسسة تنموية، تعمل على نشر ثقافة تنويرية إنسانية، هي “مؤسسة عبد المحسن القطان”، التي تنفِّذ برنامجاً للبحث والتطوير التربوي، وبرنامجاً للطفولة في غزة (مركز القطان لأطفال غزة)، وبرنامجاً للثقافة والفنون؛ وصولاً إلى “مجتمع معرفي يتسم بالعدل والحرية والتسامح، ويتبنى الحوار، ويقدِّر العلم والفن والأدب”.
*****
عرفته عن قرب في الاجتماع التأسيسي الأول للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات – مسارات، الذي كان الداعم الرئيس له، لإيمانه بضرورة وجود مركز للتفكير الاستراتيجي، والأبحاث المعمَّقة، مستقل ومتخصص ومهني، وقادر على إنتاج أبحاث استراتيجية، وأوراق موقف، يستطيع صانعو القرار، رسمياً وشعبياً، الاستفادة منها. توقعت أن يرحِّب بانتخابه رئيساً لمجلس الأمناء؛ لكني فوجئت برفضه استلام أي موقع إداري، وتأكيده الاستمرار في تقديم كل دعم ممكن كي يتمكن المركز من أداء رسالته.
ازداد احترامي وتقديري لأبي هاني عاماً بعد عام، وخاصة حين رأيته في العام الأخير، ورغم مرضه، يحرص على تتبع أخبار المركز، باستمرار، وقراءة إصداراته، والتشاور مع مجلس الأمناء، ومجلس الإدارة، ويحرص على حضور المؤتمر السنوي لمسارات، واجتماعات مجلس الأمناء، ومناقشة التقارير الإدارية والمالية للمركز، بتركيز عال، واقتدار وتمكن استثنائيين.
*****
الرجل النموذج؛ رجل البناء المؤسسي والإنتاج المعرفي؛ عبد المحسن القطان،
أيّة رؤية ثاقبة امتلكتَها! تلك التي جمعت بين السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة، هل كنت ترى بعينيْ صقر؟
رأيتَ مستقبلاً مشرقاً ينتظر الفلسطينيين، حين يتعاملون مع السياسة بمنظور استراتيجي، وحين تتخلل الثقافة الديمقراطية مناحي حياتهم كلها؟ وفي اللحظة التي يستنهضون فيها طاقاتهم، ويوحِّدون صفوفهم؛ لانتزاع حرية شعبهم واستقلاله، وحرياتهم الشخصية، ويبنون دولة المؤسسات ودولة القانون؛ “فلنزرع ليحصدون”.