الوضع الفلسطيني بعد الخروج من بيروت – د. غازي حسين
مهدت مرحلة ما بعد بيروت في أعقاب اجتياح السفاح شارون جنوب لبنان وصولاً إلى احتلال بيروت الغربية بضوء أخضر وبدعم وتأييد كاملين من الرئيس الأمريكي ريغان ووزير خارجيته الجنرال هيغ وتوقيع ياسر عرفات اتفاقاً مع فيليب حبيب مبعوث الرئيس ريغان لتحويل منظمة التحرير من مقاتلة إلى سياسية، ومقرها في تونس العاصمة وتوزيع المقاتلين الفلسطينيين على تسعة أقطار عربية بعيدة عن خطوط المواجهة مع العدو الصهيوني.
دشنت موافقة ياسر عرفات على الخطة الأمريكية بخروج المقاتلين الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بداية مرحلة جديدة بالمسار العسكري والسياسي والدبلوماسي والإعلامي لـ م.ت.ف وعلاقاتها بالدول العربية والأجنبية. واختار عرفات مغادرة بيروت إلى أثينا بحماية الأسطول الأمريكي السادس.
خططت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لغزو لبنان عام 1982، وكان عرفات على علم بالغزو لتحقيق مايلي:
1-تصفية البنية العسكرية والسياسية والتنظيمية والإعلامية لـ م.ت.ف في بيروت.
2-توجيه ضربة قوية للقوات السورية في بيروت وإنهاء الوجود السوري هناك.
3-إقامة سلطة كتائبية مركزية وتنصيب بشير الجميل رئيساً وتوقيع اتفاقية صلح مع العدو.
4-تعميم فرض كامب ديفيد على لبنان وعلى منظمة التحرير الفلسطينية.
5-إقامة التعاون بين الكتائب والليكود الاسرائيلي وبين حزب العمل حزب بيرس ووليد جنبلاط.
6-إلغاء المقاطعة العربية وفرض التطبيع على لبنان.
دشن خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت واحتلال العدو الصهيوني جنوب لبنان مرحلة جديدة ظهرت ملامحها بما يلي:
-طرح مبادرة ريغان.
-مرابطة القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات في بيروت.
-ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا والتي ذهب ضحيتها ستة آلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين.
-زيارة عرفات لعاصمة كامب ديفيد واتفاقه مع الرئيس المخلوع مبارك لتسوية قضية فلسطين على أساس مشروع ريغان واتفاقية كامب ديفيد الثانية حول الحكم الذاتي الفلسطيني.
وتضمنت مبادرة ريغان في 2/9/1982 سبعة لاءات لأهم مكونات قضية فلسطين وهي:
لا لحق تقرير المصير، لا لحق عودة اللاجئين، لا للدولة الفلسطينية المستقلة، لا لإزالة المستعمرات اليهودية، لا لعودة القدس للسيادة العربية، ولا للانسحاب الاسرائيلي الشامل.
انعقدت قمة فاس الثانية بعد خمسة أيام من إعلان مبادرة ريغان في الفترة الواقعة ما بين 6-9 أيلول 1982 وألقى عرفات فيها كلمة طالب الملوك والرؤساء العرب “بوضع خطة سياسية متكاملة على مختلف الصعد”. واختتم مؤتمر القمة العربي في فاس أعماله بتبني مبادرة الأمير السعودي فهد بإعلان “ميثاق فاس للتسوية في الشرق الأوسط”.
وفي أعقاب أول اجتماع للمجلس المركزي الفلسطيني بتاريخ 19 أيلول 1982 (بعد قمة فاس) أعلنت منظمة الصاعقة والقيادة العامة وجبهة النضال الشعبي والجبهة الشعبية رفضها القاطع للبند السابع في ميثاق فاس للتسوية الذي يعترف ضمناً باسرائيل.
تبلور على الساحة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت نهجان:
الأول: يقوده ياسر عرفات وتخلى عن البندقية المقاتلة والكفاح المسلح والتحرير والحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب العربي الفلسطيني ويعمل على التفاوض مع العدو والاعتراف به والتعايش معه.
والثاني: النهج الوطني المعادي للامبريالية والصهيونية والرجعية، ويعتبر الصراع مع العدو الصهيوني صراع وجود وليس نزاعاً على الحدود ويتمسك بالميثاق الوطني والكفاح المسلح والتحرير وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
كان ياسر عرفات على علم بالغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 ومحاصرة بيروت وقطع الماء والكهرباء عنها قبل وقوعه عن طريق أمريكيين وفرنسيين والمستشار النمساوي كرايسكي، ورأى في الغزو مناسبة لترسيخ انحرافه وانخراطه في التسوية الأمريكية.
وعندما وقع الغزو أصدر على الفور الأوامر لضباطه في جنوب لبنان بالانسحاب، واهتم خلال حصار بيروت بمقابلة الوفود الاسرائيلية وبالتفاوض مع مبعوث ريغان فيليب حبيب، ووقع وثيقة مالكوفسكي الشهيرة.
خرج عرفات تنفيذاً للاتفاقيات التي وقعها مع فيليب حبيب مع الفدائيين إلى المنافي العربية زاعماً أنه حقق انتصاراً رائعاً. وجعله الاعلام العربي والأجنبي رمزاً للصمود والمقاومة. وانتقل إلى تونس وأخذ يقنع أتباعه بأن القتال قد انتهى وليس أمامه إلا التسوية ومشروع ريغان والحكم الذاتي والمفاوضات المباشرة.
وظهر للعيان أن الصمت العربي الرسمي المريب لما جرى في جنوب لبنان وبيروت ومجزرة القرن في صبرا وشاتيلا نتج عن تواطؤ الطاغية المخلوع حسني مبارك والسعودية وبقية محور الاعتدال العربي مع واشنطن واستغل عرفات نتائج الغزو وتأييد الحكام العرب لمشروع ريغان وأخذ يهاجم جبهة الصمود والتصدي وإحداث خلل في علاقات قيادة م.ت.ف مع سورية مما فسح المجال في قمة فاس الثانية للموافقة على مشروع الأمير فهد الذي ودّع الخيار العسكري واعتمد الخيار السياسي والاعتراف الضمني بالعدو الصهيوني.
وأحدث تخلي عرفات عن الكفاح المسلح وتعاطيه مع مبادرة ريغان والخيار السياسي والتسوية الأمريكية خللاً كبيراً في العلاقات داخل حركة فتح والعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية، والفلسطينية العربية.
بدأت الولايات المتحدة تنجح في تحويل انتصار العدو الصهيوني في حرب حزيران عام 1967 إلى انتصارات سياسية لاسرائيل بتوقيع اتفاقيتي الإذعان في كامب ديفيد واتفاق الإذعان في أيار 1983 في لبنان، ومتابعة ترويض عرفات ووضعه على سكة التسوية الأمريكية للصراع العربي-الصهيوني.
استغل عرفات نتائج الغزو الاسرائيلي والدور الأمريكي وتواطؤ مبارك معه وأخذ يقول علناً “لم يعد أمام الثورة الفلسطينية إلا (العمل الدبلوماسي والسياسي)”. واتخذ تونس كمقر لـ م.ت.ف وحركة فتح للولوج أكثر وأكثر في التسوية الأميركية. ورفع شعار “القرار الفلسطيني المستقل” لفصل قضية فلسطين عن بعديها العربي والإسلامي والاستفراد بها كما فعل فيما بعد في دهاليز أوسلو المظلمة والظالمة.
أدت مواقف وممارسات قيادة عرفات وانحرافاتها إلى شل نشاط وعمل منظمة التحرير وسفاراتها ومكاتبها ومؤسساتها في كل مكان حتى يومنا هذا للقضاء عليها. وظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة تكتلات:
الأول: ضم قيادة عرفات (اللجنة المركزية لحركة فتح) وجبهة التحرير العربية.
والثاني: التحالف الوطني وضم منظمة الصاعقة وفتح الانتفاضة والقيادة العامة، والنضال الشعبي والحزب الشيوعي الثوري وخالد الفاهوم رئيس المجلس الوطني وعبد المحسن أبو ميزر الناطق الرسمي بلسان اللجنة التنفيذية للمنظمة.
والثالث: التحالف الديمقراطي وضم الجبهة الديمقراطية والشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية والحزب الشيوعي الفلسطيني.
وصلت قيادة عرفات بعد الخروج من بيروت إلى قناعة بالقبول بالحكم الذاتي الذي طرحه السفاح بيغن عام 1977 وضمته في اتفاقية كامب ديفيد الثانية عام 1978 وبرعاية الامبريالية الأمريكية للتوصل إلى تسوية سياسية مع الكيان الصهيوني.
وجاءت قمة فاس الثانية ومشروع الأمير فهد الذي أصبح يعرف بمشروع السلام العربي، وإسقاط الخيار العسكري واعتراف الملوك والرؤساء العرب الضمني بالعدو الصهيوني، وقيام عرفات بالتخلص من القيادات والكوادر المؤمنة بالكفاح المسلح والتحرير من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى تسريع وتيرة قيادة عرفات للتوجه نحو الامبريالية الأميركية ووضع جميع الأوراق في يدها كي تبدأ الحوار معه كمقدمة لبدء الحوار الفلسطيني- الاسرائيلي.
وأخذت الأوساط الأمريكية والصهيونية تعتقد أن الضربة العسكرية التي وجهتها “اسرائيل” للقوات الفلسطينية على يد شارون في جنوب لبنان وبيروت، وإبعاد عرفات للقوى المؤمنة بالكفاح المسلح والتحرير سيفتح الطريق أمام قيادة عرفات للانخراط في التسوية الأمريكية.
واستجابت قيادة عرفات لبعض المطالب الأمريكية وأخذت تبث في الأوساط الفلسطينية مقولات جديدة تخدم العدو وتحقق بعض المطالب الأمريكية، فأخذت تنادي بضرورة تجاوز “قرارات الإجماع الوطني”، واتخاذ “القرارات الجريئة والشجاعة” و”إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، مستغلة الشعور بالإحباط واليأس، بادئة حملة شعواء وظالمة ضد جبهة الصمود والتصدي، وضد سورية وليبيا لتحقيق الفرز فلسطينياً وعربياً، ولتقديم أوراق حسن السلوك للولايات المتحدة وللصهيونية العالمية. وركزت واشنطن على ما يلي:
1-ترسيخ تحويل قيادة عرفات م.ت.ف من مقاتلة إلى سياسية أي التخلي عن الكفاح المسلح والتوجه فقط للتسوية السياسية بالمفاوضات المباشرة.
2-حمل عرفات على الاستمرار في الفرز التنظيمي والمؤسساتي للتخلص من بقية العناصر والقوى الوطنية التي تعرقل توجهه نحو التسوية الأمريكية.
3-عقد المجلس الوطني في عمان لتكريس الفرز والانشقاق في منظمة التحرير ومؤسساتها. أدت استجابة عرفات للشروط والمطالب الأمريكية والاسرائيلية إلى شق حركة فتح واندلاع الانتفاضة فيها في 9 أيار 1983 وشق منظمة التحرير الفلسطينية في مجلس عمان الانشقاقي عام 1984 ولاقت أهداف ومطالب فتح الانتفاضة تجاوباً كبيراً في أوساط فتح وبقية الأوساط الفلسطينية.
استجاب عرفات أكثر وأكثر للشروط الأمريكية فوقع في 11 شباط 1985 مع الملك حسين اتفاق عمان الذي نص على الكونفدرالية ولم ينص على حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم. ووقع مع الرئيس المخلوع مبارك إعلان القاهرة الذي أعلن فيه وقف العمليات الفدائية داخل “اسرائيل”. ونجح عرفات في ترتيب البيت الفلسطيني بالشكل الذي طلبه منه الرئيس ريغان بواسطة ملك المغرب كمقدمة لقبوله في الانخراط بالتسوية الأمريكية.
دعا عرفات إلى انعقاد المجلس المركزي لمنظمة التحرير في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني عام 1982 لكي يعطي الانطباع بأنه أخذ موافقة المجلس المركزي على نهجه واتصالاته ومواقفه وممارساته، وذلك وسط تصريحات أدلى بها تجاوزت المحرمات والمحظورات الفلسطينية كالاعتراف بالكيان الصهيوني وبالقرار 242 وإسقاط الخيار العسكري، وتغيير تحالفات منظمة التحرير في الساحتين العربية والدولية وإجراء الاتصالات مع الاسرائيليين التقدميين والصهاينة. وأراد أن يعطي الانطباع لدى أوساط أمريكية واسرائيلية وعربية بأن المجلس المركزي اطلع على تحركاته وأخذ علماً بها ووافق عليها.
اتضح من النقاش الذي جرى في المجلس المركزي وجوب التركيز على التمسك بالحقوق الوطنية الثابتة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولم يجر التركيز على القضايا الأخرى التي أعلنها عرفات على الرغم من أنها خروج عن مبادئ ومنطلقات الثورة الفلسطينية والميثاق الوطني.
وقال عرفات في المجلس المركزي أن الهدف من اتصالاته مع النظام المصري هو إخراج مصر من كامب ديفيد، بينما أكدت الغالبية الساحقة من أعضاء المجلس أن النظام المصري الحالي (نظام مبارك) استمرار لنهج السادات ويزداد تمسكاً بكامب ديفيد. ويطالب مبارك من منظمة التحرير والعرب الاعتراف باسرائيل والانضمام إلى كامب ديفيد.
وأعلن العديد من أعضاء المجلس رفضهم للاتصالات مع الاسرائيليين الصهاينة واعتبروها من المحرمات التي تتعارض مع الميثاق وقرارات المجلس الوطني وتخلق البلبلة واليأس في نفوس الفلسطينيين وطالبوا بمحاسبة الذين يجرون الاتصالات وفصلهم من منظمة التحرير. وأجمع الأعضاء على رفض مبادرة ريغان وتضمين الرفض في البيان الختامي. ولكن ما صدر عن المجلس جاء أقل بكثير من رفض المشروع كعادة عرفات في التحريف للوصول إلى المخطط الذي يسير فيه.
لقد أصبح المطلب الرئيسي للولايات المتحدة بعد خروج منظمة التحرير وقواتها من بيروت تحجيم الدور الوطني في الثورة الفلسطينية وتقوية دور قيادة عرفات باعتماد أساليب الترغيب والترهيب، أي دولارات السعودية لشراء المثقفين والصحفيين والسياسيين وبعض قيادات وكوادر منظمات المقاومة وأساليب التصفيات السياسية والجسدية. وأخذ عرفات وجماعته ببث اليأس والإحباط في قلوب الفلسطينيين منها “أين نمارس كفاحنا المسلح”؟ (بعد أن تخلوا عنه) و”أين حرية العمل الفلسطيني”. “نريد أن نقيم دولة على أية رقعة من فلسطين حتى ولو خيمة نرفع عليها العلم الفلسطيني”. “إننا نرفض وصاية العرب والتبعية لهم الذين كانوا يتمسكون بتحرير فلسطين ونريد المحافظة على القرار الفلسطيني المستقل، وتجنيب شعبنا المزيد من التشرد والإبادة”.
هكذا كانوا يقولون، وأصبحت منظمة التحرير الفلسطينية في جيب الرئيس المخلوع حسني مبارك ولجنة جامعة الدول العربية لتصفية قضية فلسطين، كما أصبحت “اسرائيل” اللاعب الأساسي في مجريات قضية فلسطين للتوصل إلى حل لمشاكل “اسرائيل” وليس حلاً عادلا لقضية فلسطين.
عناوين
* أصبح المطلب الرئيسي للولايات المتحدة بعد خروج منظمة التحرير وقواتها من بيروت تحجيم الدور الوطني في الثورة الفلسطينية وتقوية دور قيادة عرفات باعتماد أساليب الترغيب والترهيب والاكاذيب والخداع والتضليل لتمرير التسوية الامريكية* أحدث تخلي عرفات عن الكفاح المسلح وتعاطيه مع مبادرة ريغان والخيار السياسي والتسوية الأمريكية خللاً كبيراً في العلاقات داخل حركة فتح والعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية، والفلسطينية العربية