انتصارات الفلسطينيين المقدسيين – نير حسون
من كل الجماعات، 320 ألف فلسطيني مقدسي يضعون أمام( إسرائيل) التحدي الذي لا جواب له. من جهة، في السنوات الأخيرة تقوم بلدية القدس، وزارة التعليم ووزارات أخرى بمحاولة “عناق” سكان شرقي القدس، وتمرير سياقات أسرلة عليهم، مثل إخوانهم من المثلث والشمال. من جهة أخرى، وزارة الداخلية، بلا شك بتعليمات من فوق، تحرص على ألا تسمح للفلسطينيين في القدس بالتجنس، والحصول على حق التصويت في الكنيست ليصبحوا حقاً جزءاً من المجتمع ( الإسرائيلي).
–
“إمبلا” هي كلمة عربية ليس لها موازٍ دقيق بالعبرية. ومعناها نعم بالذات أو رغم كل شيء. مجموعة نشطاء يساريون مقدسيون يعتزمون إقامة مركز ثقافي ونشاط جديد في مدينة تحت اسم “إمبلا”. المؤسسون طلبوا مني أن أحاضر بروح المكان الجديد. بعد التفكير اخترت أن أتحدث عن انتصارات الفلسطينيين على الاحتلال في القدس. ظاهراً، هذا تعبير متضارب على نحو واضح، إذ لا خلاف بأن الفلسطينيين بشكل عام والفلسطينيين في القدس بشكل خاص مهزومون ومحتلون منذ 50 سنة. مصيرهم ليس في أيديهم، هم عديمو الحقوق، يعانون من ظلم منهجي، من عنف سلطوي، من فقر عميق ومن غياب القيادة. ورغم كل شيء، فإن بودي أن أدعي – بالذات معاً. بالذات الفلسطينيون في القدس، من كل باقي الجماعات الفلسطينية، أظهروا قوة صمود وتصميم في مواجهة الاحتلال. وبالذات هم الذين لديهم القوة للتأثير على مستقبل الشعبين.
الانتصار الأول للفلسطينيين في القدس هو الديمغرافيا. إذا كان هناك عامل واحد ثابت في الخمسين سنة التي مرت منذ 1967، فهو الصمود الفلسطيني في القدس. لا يهم ما يحدث، الفلسطينيون لا يغادرون المدينة. حتى لو كان المعنى هو “العيش في ظروف صعبة في أحياء مكتظة. هكذا، رغم المساعي الجبارة من جانب حكومات إسرائيل للحفاظ على الأغلبية اليهودية – الجهود التي تضمنت مصادرة واسعة للأراضي وإقامة أحياء كبرى لليهود على تلك الأراضي – فإن الأغلبية اليهودية في القدس تقلصت من 75% في 1976 إلى 60% اليوم. وحتى مشروع الاستيطان المزدهر، الذي تقوده جمعيات “العاد” و”عطيرت كوهانيم” في داخل الأحياء الفلسطينية في المدينة يتخذ صورة مختلفة قليلاً عند النظر إليه في عيون ديمغرافية. المستوطنات في سلوان، البلدة القديمة وفي أماكن أخرى وإن كانت تتسع بلا انقطاع على حساب العائلات الفلسطينية، الاتساع الذي يلحق معاناة للسكان، إلا أن عدد المستوطنين في الأحياء الفلسطينية طفيف. بعد 30 سنة من الجهود المركزة، استثمار مئات ملايين الشواكل والتعاون الوثيق مع الحكومة، يبلغ معدل المستوطنين بين عموم السكان في تلك الأحياء 1%. كما لم ينجح المستوطنون في تغيير المجال العام بشكل ذي مغزى. بفضلهم أضيفت أعلام إسرائيل، شرطة حرس الحدود وكاميرات حراسة، ولكن “تهويد” أحياء شرقي القدس ليس قريباً اليوم مما كان قبل بداية المشروع. في 1990 كان يعيش في سلوان 8.700 فلسطيني وصفر مستوطن. اليوم يعيش في الحي نحو 500 مستوطن وأكثر من 20 ألف فلسطيني. وهذا يعتبر النجاح الأكبر للمستوطنين. من الصعب إذن الادعاء بأن المستوطنين يوشكون على تغيير طبيعة سلوان أو كل حي فلسطيني آخر.
ولكن الديمغرافيا ليست الانتصار الفلسطيني الوحيد في المدينة. فالفلسطينيون في القدس أثبتوا أيضاً المرة تلو الأخرى بأنهم لا يقبلون الإملاءات الإسرائيلية. هكذا كان في جهاز التعليم، حين فشلت إسرائيل في ادخال المنهاج التعليمي الإسرائيلي. وهكذا أيضاً في المقاطعة التامة للانتخابات البلدية. مع أن هذه المقاطعة تمس بالخدمات التي تتلقاها الأحياء الفلسطينية، ولكنها تشدد كون شرقي القدس مدينة محتلة. وحتى في موضوع التخطيط والبناء، أدى ظلم الفلسطينيين إلى بناء واسع بلا تراخيص، رغم هدم البيوت اضطر كل رؤساء البلدية إلى استيعاب حقيقة أنه لا يمكن هدم عشرات آلاف المباني. وفي نهاية المطاف ستكون حاجة لمنح أغلبيتها الساحقة تراخيص بناء.
لقد أثبت الفلسطينيون في المدينة لإسرائيل بأن ليس لها يد حرة في الحرم ومحيطه. في كل مرة حاولت فيها إسرائيل إجراء تغييرات في الوضع الراهن في الحرم اصطدمت بمقاومة شعبية، تدهورت أحياناً إلى عنف الشارع المقدسي. وترافقت هذه المقاومة مع احتجاجات من جانب الأردن ودول أخرى، وفي نهاية المطاف مع تراجع إسرائيلي. هكذا حصل أيضاً في الصيف الأخير في مسألة البوابات الالكترونية على مداخل الحرم. فالمقدسيون أي الفلسطينيون في القدس أثبتوا أنهم يؤدون بإخلاص دورهم كحراس الأقصى، وبعد الاحتجاج، غير العنيف في معظمه، والذي استمر أسبوع، تراجعت إسرائيل وفككت البوابات الالكترونية. ومنح الانتصار إحساساً بالقوة والوطنية المحلية في أوساط الفلسطينيين في المدينة.
ولكن القوة الحقيقية للفلسطينيين في القدس تكمن في حقيقة أن إسرائيل لا تعرف ما تفعله بهم. لقد نجحت إسرائيل في عدة خطوات لامعة في تقسيم وتفكيك الشعب الفلسطيني إلى عدة جماعات – لاجئين في الشتات، عرب إسرائيل ( فلسطينيو 48)، سكان الضفة (الذين هم ينقسمون بين مناطق أ و ب و ج)، سكان غزة والقدس. لكل جماعة “حيكت” بدلة تستهدف ضمان السيطرة الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني. في الضفة الغربية تستخدم إسرائيل السلطة الفلسطينية كي تضعف المقاومة للاحتلال، قطاع غزة مغلق جيداً من خلف أسيجة عالية، في الوقت الذي تبذل فيه تجاه عرب إسرائيل جهود لدمجهم في المجتمع الإسرائيلي وتوسيع الفوارق بينهم وبين باقي الفلسطينيين. يبدو أن إسرائيل طورت لدرجة الفن سياسة فرق تسد. ولكل جماعة فلسطينية يوجد في قوتها ما تعرضه من سلة واسعة من الجزر والعصي. لغزة يمكن أن تعرض بضع ساعات أخرى من الكهرباء، لعرب الضفة بضع تصاريح عمل أخرى ولعرب إسرائيل بضع كليات أو ميزانيات لشق الطرق. أما عن العصي فلا حاجة للتوسع.
ولكن من كل الجماعات، 320 ألف فلسطيني مقدسي يضعون أمام إسرائيل التحدي الذي لا جواب له. من جهة، في السنوات الأخيرة تقوم بلدية القدس، وزارة التعليم ووزارات أخرى بمحاولة “عناق” سكان شرقي القدس، وتمرير سياقات أسرلة عليهم، مثل إخوانهم من المثلث والشمال. من جهة أخرى، وزارة الداخلية، بلا شك بتعليمات من فوق، تحرص على ألا تسمح للفلسطينيين في القدس بالتجنس، والحصول على حق التصويت في الكنيست ليصبحوا حقاً جزءاً من المجتمع الإسرائيلي. فمثل هذا التجنس الجماعي هو من ناحية أصحاب القرار في إسرائيل، سيناريو رعب – مئات آلاف أخرى من الفلسطينيين ذوي حق التصويت هم أخبار سيئة لكتلة اليمين، والأسوأ من ذلك، هذا يعني أنه حقاً قضي الأمر على حل سياسي ما وإسرائيل تسير نحو مستقبل دولة واحدة ثنائية القومية، ولا يتبقى الآن سوى اختيار نوع نظام الحكم الذي يكون فيها – ابرتهايد ذي نزعة قوة يحافظ على الطابع الصهيوني للدولة أم ديمقراطية تفكك إسرائيل من مزاياها الصهيونية.
من هنا، فإنه من بين كل الجماعات الفلسطينية، فإن الوحيدين الذين يمسكون بمفاتيح ما لمستقبلهم ومستقبلنا هم الفلسطينيون المقدسيون. هم يسمعون اليـأس من المسيرة السياسية الذي في أقوال محمود عباس، ويفهمون بأن حلم الدولة الفلسطينية التي عاصمتها القدس آخذ في الأفول. ولكن بخلاف الجماعات الأخرى بوسعهم أن ينتقلوا على الفور من كفاح على السيادة إلى كفاح على المساواة والمطالبة بالجنسية. عملياً، هذا الكفاح يحصل منذ الآن في الميدان. وأكثر من قسامات حماس أو الحجارة التي ترشق في قرى الضفة يمكن لهذه أن تكون ساحة الكفاح التي تصمم مستقبل إسرائيل وفلسطين.
المصدر : هآرتس