يوم النكبة المستمرة.. ومسيرة العودة الكبرى – منير شفيق
جاء اختيار مسيرة العودة الكبرى ليكون يوم النكبة في 15 أيار/ مايو الجاري ذروتها في مرحلتها الأولى، وذلك ليضع النقاط على الحروف – كما يقولون – بالنسبة إلى اليوم الفاصل في تاريخ القضية الفلسطينية لعشرات السنين. وهذا اليوم هو عامها السبعون.
ففي 15 أيار/ مايو 1948، وصل المشروع الاستعماري مبتغاه في إقامة الكيان الصهيوني على أنقاض تهجير ثلثي الشعب الفلسطيني من بيوته وأراضيه، ومدنه وقراه، ليُضربوا مجزئين خارج فلسطين ومشتتين شذر مذر.
بالرغم من أن هذا المشروع الاستعماري الذي تزعمته بريطانيا في حينه؛ مخالف للقانون الدولي الذي كانت قد وقعت عليه، والذي يقضي بأن حق تقرير المصير (مصير البلد االمستعمَر) هو حق حصري للشعب الذي كان يسكنه لحظة حلول الاستعمار فيه. ومع ذلك، قررت هيئة الأمم المتحدة، وبمخالفة لميثاقها أيضاً، تقسيم فلسطين بإعطاء اليهود الصهاينة “حق” إقامة دولة لهم على 54 في المئة من فلسطين.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد دُعم بتسليح المستوطنين اليهود بسلاح يكفيهم لفرض تهجير ثلثي الشعب الفلسطيني بالقوة والمذابح، والاستيلاء على 78 في المئة من فلسطين، وهزيمة “الجيوش” العربية التي دخلت إلى فلسطين لتحافظ على 22 في المئة الباقية منها؛ لأن بريطانيا كانت تخشى من ثورات ضدها في إمبراطوريتها إذا سقطت القدس القديمة ولم يبق شيء من فلسطين.
وكانت بريطانيا قد جردت الشعب الفلسطيني من السلاح، ونفذت مع فرنسا تجزئة الدول العربية والهيمنة على جيوشها وحكوماتها. ويكفي أن يكون قائد الجيوش العربية السبعة التي دخلت فلسطين هو “غلوب باشا” البريطاني، لتكتمل نكبة فلسطين التي يشكل 15 أيار/ مايو 1948 عنواناً لها.
أما المخالفة الصارخة الثانية للقانون الدولي، فكان استيطان مئات الألوف من الغزاة اليهود الصهاينة فلسطين ما بين 1918 و1948؛ لأن القانون الدولي لا يسمح بأن تغيّر الدول الاستعمارية جغرافياً وديمغرافياً (سكانياً) في المستعمرة التي تحت سيطرتها، كما يوجب عليها أن تسلمها كما تسلمتها. فالهجرة الصهيونية تعتبر غير شرعية، ومخالفة صارخة للقانون الدولي.
فقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، بالرغم من مخالفته للقانون الدولي ولميثاق هيئة الأمم المتحدة، لم يُقصد منه التطبيق العملي لما نشأ من مشكلة، وإنما استهدف إعطاء “شرعية دولية” لإقامة ما سمي “دولة إسرائيل”؛ لأن إقامة “دولة إسرائيل” على 54 في المئة من فلسطين غير ممكن، وغير مقبول من القيادة الصهيونية، إذ كيف يمكن أن تقوم تلك الدولة ونصف سكانها تقريباً من العرب المسلمين والمسيحيين؟ وكيف يمكن أن تقوم وهؤلاء العرب يملكون أكثر من 92 في المئة من أرضها؟ لهذا لا بد من الحرب يشنها جيش الهاغناه لتهجير الفلسطينيين بالقوة، وبارتكاب المجازر، كما لا بد من التوسع، بداية، ليَشمل الكيان 78 في المئة من أرض فلسطين.
ولهذا أخطأ ويخطئ من قال بالأمس، ويقول اليوم، إن الفلسطينيين والعرب أخطأوا بعدم القبول بقرار التقسيم، أو أن القبول بقرار التقسيم كان سيجنبهم ما حدث من نكبة، ولكانت عندهم دولة فلسطينية على 45 في المئة من فلسطين. فهؤلاء لم يدركوا الغاية من قرار التقسيم. وهي فقط إعطاء نوع من “الشرعية” لإقامة “دولة إسرائيل” المخالفة لكل شرعية. ولم يدركوا أن جيش الهاغناه كان جاهزاً لإثارة حرب تطهير عرقي، بما يمتلكه من تفوّق بالسلاح والدعم الدولي والهيمنة الاستعمارية على البلاد العربية. وذلك أكان بسبب عدم اعتراف الفلسطينيين والعرب بقرار التقسيم، أم كان بسبب اعترافهم. فإقامة “دولة إسرائيل” غير ممكنة إلاّ باقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على بيوته مفروشة وأرضه مزروعة وقراه ومدنه عامرة.
ومن هنا، كان الاعتراف الفلسطيني بقرار التقسيم سيقود حتماً إلى النكبة نفسها، ثم يزيد عليه بلوى (أو جريمة) أخرى؛ هي الاعتراف بشرعية المستوطنين، وبشرعية إقامة دولة لهم على 54 في المئة من فلسطين.
وتتأكد هذه الحقيقة من خلال كل ما وقع من أحداث واتخذ من مواقف وصدر من قرارات دولية، أو قدم من حلول منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا. والدليل كون الكيان الصهيوني لم يعترف بأي قرار دولي من قرار التقسيم حتى قرار 242، وأخيراً وليس آخراً، حتى “حل الدولتين”.. فهو يريد كل القدس وكل فلسطين، ولا يُسلّم بأي جزء من فلسطين مهما صغر، حتى لو كان قطاع غزة (2 في المئة من أرض فلسطين)، بأنه أرض فلسطينية للفلسطينيين؛ لأن اعترافه بأي جزء بأنه فلسطيني، وليس جزءاً من “أرض إسرائيل”، يشكك فوراً بكل ادعائه بأن فلسطين هي “أرض إسرائيل”. فالحق هنا لا يتجزأ؛ فإما كل الأرض له وإما كل الأرض لنا.. إما جاء مستعمراً مستوطِناً غازياً، وإما جاء ليسترد “حقاً” دينياً وتاريخياً سلب منه لآلاف السنين”.
ومن هنا، فنكبة فلسطين تمثلت في اقتلاع شعب صاحب الحق في الأرض، وفي إحلال مستوطنين غزاة غرباء لا يمتلكون أي حق بالاستيطان فيها بالقوة، ولا بإقامة “دولة” أو كيان.
ثم أصبحت نكبة مستمرة ومتعاظمة، وليست حدثاً تاريخياً حدث في الماضي، وأصبح مجرد ذكرى مؤلمة بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب والمسلمين (بل وأحرار العالم). إنها نكبة قائمة حاضرة مستمرة ومتفاقمة، والدليل الراهن السريع مصادرة القدس، واعتبارها “عاصمة دولة إسرائيل”، كما أعلن أمس نتنياهو، مؤكداً على إعلانها كذلك من قِبَل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وأضف ما يجري من تهويد لها وما يجري من استيطان للضفة الغربية، وما يعد لما يسمى “الصفقة التاريخية”.. كل هذا يعني أن النكبة معاشة ومستمرة ومتفاقمة.
أما في المقابل، فإن استمساك الشعب الفلسطيني بحقه في كل فلسطين من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش، واعتباره كل ما فرض عليه من استيطان قديما وراهنا، وكل ما أحدثته النكبة من اقتلاع وإحلال غير شرعي وباطلا، ولا بد من مقاومته، سواء من قِبَل من بقوا فوق أرض فلسطين بعد نكبة 1948، أو بعد حرب العدوان في حزيران 1967، أو من قِبَل من أصبحوا لاجئين ويعيشون في المنافي جيلاً بعد جيل. كل هذا يعني أن مواجهة النكبة هي أيضاً مستمرة وحاضرة ومتعاظمة أبداً، وهو ما يشهد عليه التاريخ منذ مئة عام حتى اليوم، أي منذ وعد بلفور واحتلال فلسطين 1917، كما منذ سبعين عاماً، ابتداء من عام النكبة 1948، حتى لحظتنا هذه.
على أن ما أخذ يختلف، ولنقل منذ عشر سنين، يتسّم بأن رياح موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية أخذت تهب في غير مصلحة المشروع الصهيوني. وذلك عكس ما كانت عليه عندما احتلت الجيوش الاستعمارية الأرض العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وتحكم في فلسطين مئة ألف جندي بريطاني ما بين 1920 و1948، ولا كما كان حالها بعد النكبة، حيث كان جيش الكيان الصهيوني قادراً على التوسع وإنزال الهزائم بالجيوش العربية، كما حدث بين 1948 و1967، بل وصولاً حتى حرب اجتياح لبنان 1982.
أما في السنوات الأخيرة، وبعد هزيمة الاحتلال الصهيوني في جنوبي لبنان عام 2000، ثم هزيمة الجيش الصهيوني في أربع حروب 2006 في لبنان، و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة، وفي ظل ما حدث من تراجع لأمريكا والغرب على المستوى العالمي والإقليمي والعربي خلال العشر سنوات الماضية، فإن رياح موازين القوى أخذت تهب في غير مصلحة المشروع الصهيوني فيفلسطين، ناهيك عن خارج فلسطين.
ويكفي أن نلحظ على المستوى السياسي ما حدث من انسداد، أو انهيار، لمشروع اتفاق أوسلو، والمفاوضات والتسوية، وما واجهه قرار ترامب حول القدس من عزلة دولية وإسلامية وعربية وفلسطينية، وذلك بالرغم من الهرولة والعار والتطبيع المشين. والأهم، يكفي أن نلحظ ما اندلع من انتفاضة شبابية فردية عفوية في القدس والضفة الغربية منذ 1/10/2015 حتى اليوم، ثم ما اندلع من انتفاضة شعبية في القدس ضمت عشرات الألوف، واستطاعت أن تنتصر على مشروع البوابات الالكترونية حول المسجد الأقصى. ثم يكفي أن نلحظ صمود المقاومة الجبارة في غزة، وانتصارها في ثلاث حروب، ثم انتقال قطاع غزة بوحدة وطنية شعبية شاملة لخوض معركة مسيرة العودة الكبرى السلمية المتجهة لينتصر الدم على السيف، ولتصبح الطريق الفلسطيني الموحد مع القدس والضفة الغربية، وفي كل أماكن التواجد الفلسطيني عنواناً للرد الراهن الدائر المستقبلي على النكبة، وذلك بعد سبعين عاماً من استفحالها ونخرها في الجسد الفلسطيني والأرض الفلسطينية.