حسين مروّة: في سبيل حركة التحرر العربية – مصطفى شلش
قراءة التراث الديني بشكل مغاير عن القراءات السلفية الحرفية السائدة كانت الهدف الذي وضعه مروّة نصب عينيه عندما بدأ مشروعه الفريد والموسوعي «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» في أواخر ستينيات القرن الماضي، وصرف لأجله سنوات عديدة. قبل البدء بهذا المشروع كان مروّة قد مهد لمشروعه بكتابات عن مناهج فكر كل من ابن سينا وإخوان الصفا والصوفية ودراسة المنهج العلمي لدى جابر بن حيان، محاولًا «اختصار المسافة بين الفكر في التراث الإسلامي، وبين الظروف الاجتماعية لهذا الفكر» بحسب ما قاله في كتابه «تراثنا كيف نعرفه».
لكن يبقى عمل مروة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» العمل الذي يحمل كل صفات منهجه البحثي المميز بالشمول والاتساع والاعتماد على المادية التاريخية في التأويل، وقراءة الظروف الاقتصادية والاجتماعية بدءًا من الجاهلية ، ثم تتبع نمو الفلسفة في العالم الإسلامي وحتى ازدهارها.
أعتقد أن مروة، ومن خلال قراءته المادية التاريخية، حاول أن يقوم بعملية تثوير للفكر الديني، وربطٍ للتراث بالتغيير المجتمعي محاولًا خلق طريق كامل لفهم الدين بشكل عصري ومغاير حتى في آليات تفسيره، ليدخل التراث العربي-الإسلامي في فلك التحولات الحضارية بحيث يستجيب الدين لسنن التطور موفرًا شروط التعايش بين البشر، ومحاولًا أن يبني للإنسان العربي-المسلم دنيا تليق به كبشري دون أن يتنازل عن أي شرط أخلاقي.
شيخ في الطفولة
قبل الحديث عن كتابه الأهم، أرى أنه من المناسب التعريج على حياة مروّة.
ولد حسين مروة في العام 1910 في قرية «حَداثا» في جنوب لبنان لرجل دين مرموق في جبل عامل، لهذا كما يقول مروة: تلبّسني حلم أن أكون شيخ مرموق مثل والدي منذ سن الثامنة، حيث لبست العمة والجُبة قبل أوانها الطبيعي كرمز للحلم، وإلزام لنفسي بتحقيقه».
ولأجل هذا الحلم غادر في العام 1924 إلى مدينة النجف لدراسة المنطق والبلاغة وعلم أصول الفقه، ثم التخصص في الفقه الإسلامي بمعناه الموسوعي، وأتمّ مروة دراسته الدينية في العام 1938.
ان لطريقة التعليم في مدينة النجف أثرٌ كبيرٌ على تكوين عقلية مروّة المنفتحة، وعن هذا يقول، ما معناه: المعلّم يقوم بوضع المتعلم أمام مسؤولياته لتكوين علاقة استيعابية للمعلم من خلال النص المطلوب دراسته، وهذا يتيح للمتعلم أن يتحرر بطريقة تلقائية من أي تبعية فكرية، ويدعم هذا الاستقلال الفكري حرية المناقشة مع المعلم ومع النص بدون أي كوابح.
لهذا تراكمت الأسئلة بداخل مروة -الشيخ- وتعدّدت قراءاته في هذه المرحلة المبكرة، واطلع على مذاهب وأفكار عدة وصفها بأنها يتخللها الاختلاف حد التناقض، فكان يقرأ الأدب الرومانسي والعلوم الفلسفية والاجتماعية وحتى كتب العلوم الخالصة.
كل هذه العوامل أدت به إلى الابتعاد عن التعصب الديني وتلمّس الحقيقة مهما كانت بعيدة عن المنطق الديني وآلياته الفكرية. وهذا أصاب مروة بما يعرف بالقلق المعرفي، والذي يلخّص محمد دكروب أعراضه قائلًا: «الشعور الدائم بالحاجة إلى المعرفة بالاستزادة منها وبالسعي إليها وبالتعب في سبيلها وبالنضال الدائم الدائب مع النفس ومع الظروف لتوسيع أفاق العقل، وتنويع مجالات الاهتمام، وتعميق المعرفة بالأشياء وبالمفاهيم، وترويض الفكر لأن يكون محركًا لا يهدأ، متطورًا لا يراوح، ممارسًا للحوار (..) متمرّسًا للصعوبات واقتحام المجهول».
بين العمامة وكارل ماركس
في نصّه «من النجف دخل حياتي ماركس» يشير مروّة إلى أن كلًا من «إسماعيل مظهر» و «شبلي شيميل» قد لعبا دورًا مهمًا في حياته، فوصفهما بأنهما أصل التحولات الفكرية الأولى نوعيًا وجذريًا، وتعميق تكوينه المنهجي والنظري من خلال قراءته الجادة والمثابرة لهما.
عرف مروة الفكر المادي من خلال كتابات إسماعيل مظهر التي كانت تصدر في مجلة «العصور» المصرية ، وتفهم نظرية التطور الداروينية التي قدمها شيميل للفكر العربي للمرة الأولى . ومن هنا بدأ بناء فكره المادي من خلال استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطور الطبيعة والمجتمع.
وظلّت قراءات مروة لا تعرف الاشتراكية، وإن مرت خلال قراءته، فإن انطباعه الأول عنها كان أنها «طلسم» فكري لا يدرك معناها ولا مدلولها العلمي، ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلًا، ففي العام 1926 التقى مروّة بماركس من خلال رواية «الدين والعلم والمال» لفرح أنطون. وتمرّ السنوات ويتعرف مروة على «حسين الشبيبي»، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي، والذي يهديه نسخة من «البيان الشيوعي» لتكون هذه نقطة فارقة في الطريق المعرفي لحسين مروة وإن كانت سبقتها عدة محاولات فاشلة للتعرف على ماركس من خلال كتابه «رأس المال»1.
أمّا لحظة الفراق بين العمامة ومروة فكانت بعد تعرّفه على «اللينينة» وقراءته كتاب لينين «الدولة والثورة» بعدما عرّفها له الشبيبي بوصفها الماركسية مطبّقة على أرض الواقع تطبيقًا إبداعيًا.
ودّع مروة العمامة في العام 1938 في مقال نشره في جريدة الهاتف بعنوان «أنا وعمامتي»، ونشرت مقتطفات منه في كتاب التراث العربي والعقل المادي، ويصف فيه رحلته الفكرية التي قمت بسردها.
بقي مروة في العراق يدرّس آداب اللغة العربية بزي مدني، ويبني طريقه العملي والعلمي في النضال الماركسي. وتحوّل ليكون أحد أفراد الحركة الشيوعية العراقية خلال ما عُرف بالوثبة الوطنية العراقية عام 1948، وهي انتفاضة ضد «معاهدة بورتسموت» تمت بين الإنجليز وحكومة صالح جبر، إلى أن تم إبعاده من العراق بسبب خلافه الفكري مع نوري السعيد وعاد قسرًا إلى لبنان.
الطريق إلى النزعات المادية في الإسلام
عاد حسين مروة إلى لبنان، وتعمّق في دراسة الماركسية، وبدأت مقالاته تلفت الأنظار إليه من قبل الشيوعيين اللبنانين وأفراد حزب البعث، ونمت العلاقة مع الشيوعيين ونتج عنها إنشاء مجلة «الثقافة الوطنية» في العام 1951، حيث شارك في تحريرها مع محمد دكروب تحت إشراف فرج الله الحلو.
ومن خلال هذه المجلة صار مروة عضوًا في الحزب الشيوعي اللبناني، وصار يعيد كتابة وتأويل التراث الديني بشكل مغاير وآليات جديدة مختلفة عن المتعارف عليها، مما أثرى المناخ الفكري في هذه الفترة، إلى أن طلب منه الحزب أن يقوم بمهمة إنجاز كتاب بعنوان «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية».
اتجه مروّة على أثر هذا التكليف إلى موسكو حيث قام بالدراسة والبحث لمدة قاربت العشر سنوات، فأنهى أطروحته في العام 1978. منتجًا كتابًا في تأويل التراث العربي أثار عواصف من النقاش والجدل والنقد إلى وقتنا الحالي.
وصف لأهم محطات «النزعات المادية في الإسلام»
لو اعتمدنا على الطبعة الأحدث من الكتاب، والصادرة عن دار الفارابي، فسنجد أن «النزعات المادية في الإسلام» قسّم إلى أربعة أجزاء. الجزء الأول يحتوي على مقدمة امتدّت لأكثر من مئتي صفحة يشرح فيها مروة أطروحاته النظرية والمنهجية للبحث في التراث، وآليات قراءته. ثم يبدأ بالحقبة «الجاهلية» معنونًا إياها بما قبل النشوء الفلسفي، وهذه الصفحات شملت دراسة اجتماعية وسياسية واقتصادية للمجتمع الجاهلي والصراع في داخله، والذي مهد لظهور الإسلام عن طريق تفاعلات اجتماعية وثقافية، كما تطرّق للرد على أطروحة طه حسين حول الشعر الجاهلي ولكن بطريقة مادية جدلية.
ثم انتقل إلى شرح التحولات في المجتمع العربي مع ظهور الإسلام وتكوّن علاقات جديدة بين طبقات المجتمع، ثم يصف الخلافات التي بدأت تنشأ في عهد الخلفاء نتيجة لاتساع الرقعة المسيطر عليها وما عكسه هذا من توافر للثروة التي مثّلت بابًا للتنازع والصراع، وينتهي الجزء الأول عند «الخوارج».
في الجزء الثاني يشرح مروة بشكل تفصيلي أيديولوجيا «الخوارج»، والفكر المعتزلي، وهذا في ضوء الصراع المعتزلي-الأشعري.
في الجزء الثالث يقدّم مروة دراسة عن التصوف، وكذلك دراسة عن إخوان الصفا التي اعتبرها مدخلًا لعلوم التطور الطبيعي. حاول مروة في هذا الجزء أن يشيّد ديالكتيكًا بين الفلسفة العربية والعلوم الطبيعية وهذا ما اعتبره ضرورة ملحة لتلبية احتياجات النشاط الاجتماعي العربي.
في الجزء الرابع والأخير بدأ بدراسة الفلاسفة العرب كلًا على حدة، ابن سينا والفارابي والكندي وأبو بكر الرازي.
نظرة على منهج حسين مروة
انطلق مروة من أساس سياسي أيديولوجي لقراءة التراث العربي الإسلامي، وهذا جنّبه رفاهية البحث النظري المبتعد عن أرض الواقع، إذ خاض في التراث من أجل دفع حركة التحرر العربي ومدّها بالظهير الفكري المستنير الذي يخدم أهدافها للتخلص من التبعية لقوى الغرب الأمبريالي والتصدي للرجعية الدينية السلفية، كما يقول في مقدمته. وحاول مروة، كذلك، أن يعمل على إحياء التراث ومنحه القدرة على التحرّك كقيمة فاعلة في بناء أساس معرفي لحضارة العرب الحديثة، محاولًا التخلص من الانكسارات في التاريخ العربي والانقطاعات الفكرية التي سبّبتها سيطرة الرجعية الدينية والاستعمار.
إضافة إلى ما سبق، حاول مروة أن يثبت أن آليات البحث العلمي يمكن وضعها في خدمة التحرر. وهذه النقطة كانت سبب انتقادٍ لفكره من قبل الكثيرين، حيث اعتبرَ «جورج طرابيشي» استخدام آليات المعرفة كأسلحة أيديولوجية من أجل التحرر وتوظيف التراث في العملية النضالية أمرًا يدخل في تعارض مع الوظيفة المعرفية بحد ذاتها2.
وللحقيقة، فإن لرأي طرابيشي الكثير من المؤيدين، من بينهم محمد أركون3، إذ أن التحامل على التراث من أجل خدمة الهدف الأيديولوجي وإن كان نبيلًا ويهدف للتحرر قد يخرج الأحداث الفلسفية والتراثية عن سياقها المجتمعي والتاريخي، وهذه السمات أساسية في التأويل لدى مروة.
سار مروّة في طريق التحليل المادي التاريخي للفلسفة الإسلامية مبينًا الصراع بين التيار المادي والمثالي من خلال أنساقها الاجتماعية والسياسية والطبقية، وبيّن أوجه الصراع من خلال أنماط الإنتاج المختلفة وعلاقاته. كما ردّ على الزعم القائل بأن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة دينية مثالية غيبية من خلال نفي اعتبارها فلسفة توفيقية ذات بعد أحادي معتبرًا إيّاها فلسفة إنسانية عامة تنتمي للتاريخ الفلسفي وتنسجم معه. وبهذا فتح مروة الباب لقراءة جديدة للفلسفة الإسلامية العربية وتراثها بتنوعاته، وأعاد تعريف الفكر الفلسفي العربي والإسلامي كتراثات متعددة وليس تراثًا وحيدًا، عبر القراءة الثورية التي وضعت الفلسفة العربية الإسلامية في علاقة تاريخية موضوعية بالأساس الاجتماعي الذي نتج عنه أشكال متعددة من التراث الفلسفي والأدبي والفني والعلمي.
وتبقى صعوبة عمل مروة وفرادته في قدرته على استجلاء المادية داخل مثالية الفكر الفلسفي العربي-الإسلامي.
ينقد البعض استسهال مروة التعميم في استخدام مصطلحات المادية التاريخية على حقبة تميّزت بالطابع الديني، وخصوصًا أن هذه الحقبة كانت ترتكن إلى التفكير الميتافيزيقي، ومن هؤلاء المنتقدين محمد عابد الجابري، في كتابه نقد العقل العربي، والذي رأى قصورًا في قراءة الماركسية العربية للتراث الإسلامي، وعلّل هذا بتاريخ العرب غير المكتوب، والذي لا يمكن حصره في وعاء المادية للمنهج الماركسي، مشيرًا إلى أن الماركسية تجد قوة خطابها في الطابع الجدلي، ولهذا يخرج الماركسيون التراث عن سياقه لإثبات صحة المنهج الجدلي لا أكثر، واصفًا المنهج المتبع في دراسات مروة وغيره بالسذاجة.
ويدافع مهدي عامل4 عن تطبيق المنهج المادي لقراءة التاريخ، ويرى أن هناك صراعًا بين من يحاول فهم التراث بطريقة مغايرة عبر آليات جديدة للتأويل وبين من يخشون الاقتراب من الفكر الإسلامي ويقدسونه. ويفرّق عامل بين التراث وتقديسه وبين فهمه باعتباره موضوعًا للمعرفة، فالمشكلة لديه ليست في إحياء التراث أو العودة إليه -يعتبرُ كلا الحالتين مستحيلًا- لكن المشكلة تكمن في كيفية إنتاج المعرفة العلمية المستمدة من هذا التراث. ويتساءل هل يجب فهم التراث بالتراث وحده؟ هل لا يَفهم الإسلام إلا الإسلام؟ هل لا يفهم ابن رشد والفارابي غير ابن رشد والفارابي؟ ويجيب عامل أن تطبيق الفكر الماركسي على التراث «يسمح للفكر المعلّق في سماء التصورات الجرداء بأن يعيد اكتشاف جذوره المادية التي انطلق منها». وهنا تكمن فائدة قراءة التراث بطريقة مادية تاريخية.
أخيرًا
قام مشروع حسين مروة بشروحات مادية تاريخية للشيعة والمعتزلة، وللفلاسفة العرب مثل الكندي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا وانتهى البحث عنده باعتباره قمة الفلسفة الإسلامية.
من خلال هذه الدراسة التي تقع في أربعة مجلدات حاول مروة أن يحرّك المياه الراكدة في التراث الفلسفي الإسلامي، وأن يدفع التغيير المجتمعي عبر إيصاله بجذوره في التاريخ محاولًا التأكيد على حقيقتين هما: حقيقة المحتوى الثوري للفكر العربي وانعكاس هذا على حركة التحرر الوطنية والدفع بأفاق تطورها، والحقيقة الثانية هي الترابط بين الموقف الثوري والتراث، فالثورية في فكر مروة «كلّية، لا تتجزأ».
مثّل مروة مشروعًا تحرريًا تقدميًا وطنيًا تتبناه الطبقات الكادحة والثوريون من الإنتلجنسيا، و بعض شرائح البرجوازية الصغيرة، في مواجهة مشروع رجعي استعماري تتبناه الرأسمالية الكبيرة، تتمثل أهم تمظهراته في الدين السياسي وشروحاته الدينية الجامدة.
الهوامش
1) التراث العربي والعقل المادي، موسى برهومة.
2) من الممكن مطالعة النقد في كتاب في حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية.
3) من الممكن مطالعة نقد أركون في كتاب التراث وتحديات العصر في الوطن العربي: الأصالة و المعاصرة.
4) من كتاب حسين مروة: شهادات في فكره ونضاله. دار الفارابي، صفحة 48.
موقع “حبر”