الإعدامات السياسية – محمد سيف الدولة
هذا ليس حديثا عن الحق والباطل ولا حديثا عن السياسة والثورات والانقلابات والثورات المضادة، ولا عن الدستور والقانون والحقوق والحريات، ولا عن الديمقراطية والصناديق والانتخابات، ولا عن المدنيين والعسكريين والاسلاميين، ولا عن الاستبداد والمستبدين أو الظلم والمظلومين، ولا عن القضاء واستقلاله والاحكام القضائية المسيسة، ولا عن حق المتهم فى محكمة عادلة امام قاضيه الطبيعى..الخ
***
وانما هو حديث عن نقطة واحدة فقط هى “الاعدام السياسى” التى أود أن نناقشها معا فى النقاط التالية:
اولا ـ خريطة القوى والصراعات:
تعيش مصر منذ يناير ٢٠١١ حالة صراع سياسى حاد وشرس، بين عدة أطراف:
1) الدولة المصرية العميقة والنظام الحاكم وفى القلب منه القوات المسلحة والاجهزة الامنية وكل مؤسسات الدولة وكل شبكات المصالح الطبقية والبيروقراطية المرتبطة بهم.
2) المعارضة السياسية المصرية التى فجرت ثورة يناير بجماهيرها ومدنييها واسلامييها.
3) الولايات المتحدة والغرب ومجتمعهما الدولى ومؤسساتهم المالية، وقوى الرأسمالية العالمية ممثلة فى شركات متعددة القومية.
4) (اسرائيل).
5) الأطراف الاقليمية الأخرى مثل السعودية وإمارات الخليج على اختلافاتهم بالإضافة الى تركيا وإيران.
***
ثانيا ـ المنتصرون:
كل من هؤلاء له مصالح وعلاقات وارتباطات فى مصر، وله تصور لما يجب ان يكون عليه الحال ونظام الحكم فيها، وكل منهم تدخل واشتبك مع ما يجرى بما لديه من امكانيات وادوات وأموال واجهزة لتحقيق مصالحه.
ولقد أسفرت المحصلة النهائية لكل موازين القوى المذكورة وتفاعلاتها وصراعاتها مع ثورة يناير بكل قواها وتياراتها وإيجابياتها وسلبياتها وأخطائها وخطاياها وسذاجتها وأحيانا غباء بعض اطرافها، ان انتصرت حتى تاريخنا هذا، الدولة العميقة والنظام الحاكم القديم وحلفائها الدوليين والاقليميين، مع تغيير فقط فى الرموز والوجوه والقيادات، وانهزمت كل قوى الثورة من اسلاميين ومدنيين.
***
ثالثا ـ غنائم المنتصر ومغارم المهزوم:
وفى مثل هذه الحالات، يقوم المنتصر بحصد كل شئ ويقوم المهزوم بدفع أثمان فادحة لخسارته، على رأسها ان يتم الزج بكل من شارك فى الثورة وكل من لا يزال يمثل خطرا على المنتصرين، فى السجون الى ان يزول خطرهم او يتمكن النظام من تثبيت نفسه وفرض قبضته الحديدية على الجميع.
كما يتم حظر العمل السياسى على كل المعارضين، وعادة ما تدخل البلاد بعد فشل وانكسار اى ثورة فى سنوات طويلة من القمع والاستبداد.
***
رابعا ـ مخاطر الاعدامات السياسية وكارثيتها:
كل هذا مفهوم ومعلوم، وان كان غير مقبول، ولكنه حكم القوى على الضعيف أو حكم المنتصر على المهزوم.
- · اما غير المفهوم وغير المقبول هو اعدام المعارضين الذين قاموا بالثورة أو شاركوا فيها، لأننا فى البداية والنهاية بصدد صراعا سياسيا، قد تتبدل فيه المواقف والمراكز والظروف والقيادات فى اى لحظة.
- · كما انه يحسب لكل من شارك فى ثورة يناير من كل التيارات، انهم لم يقوموا بإعدام اى من قيادات النظام القديم او محاكمتهم امام أى محاكم استثنائية. فلماذا لا نطبق عليهم قاعدة المعاملة بالمثل على أضعف الايمان؟!
- · كما انه وهو الأهم، كان هناك عقدا واتفاقا ضمنيا بين قوى الثورة وتياراتها المختلفة، وبين الدولة ونظامها ومجلسها العسكرى، وهو إطلاق حق التظاهر والاعتصام بلا حدود وعدم التعرض بالضرر او الايذاء لاى متظاهر، فلا اعتقال او محاكمة او سجن أو قتل او اعدام، ومن كان يُقتل من المتظاهرين، كان يُقتل خارج القانون والشرعية على أيدى ما يسمى “بالطرف الثالث”.
- · وعلى هذا الأساس قامت كل القوى والتيارات بعمل حساباتها وادارة معاركها السياسية ووضع خططها واستراتيجياتها واتخاذ مواقفها وقراراتها.
- · وإذا بطرف واحد فقط من المتعاقدين والفرقاء، يقرر منفردا، تمزيق العقد وتغيير قواعد اللعبة وقواعد الصراع، وهو ما يتنافى مع أصول الاتفاقات والعقود وقواعدها حين بين الخصوم والفرقاء.
- · فقامت الدولة باتخاذ قرارها بفض الاعتصامات بالقوة وتصفية وقتل من يتصدى لها من المعتصمين، والقبض ومحاكمة وادانة من نجا منهم.
- · وهو ما لم يكن يخطر على بال منظمى الاعتصام، لأنهم كانوا يشاهدون ويراقبون آلاف المتظاهرين الذين يحاصرون قصر الرئاسة بدون ان تتعرض لهم اجهزة الامن او تطالبهم بالانصراف أو تأمرهم بفض تجمعاتهم. ولقد سمعت بنفسى أحد قيادات الاخوان المسلمين وقتها، وهو يستبعد تماما احتمال لجوء الدولة الى القوة لأنها تعلم وفقا لتصوره “بانهم لو أسقطوا لنا رئيسنا بهذه الطريقة اليوم، فسنسقط لهم رئيسهم بنفس الطريقة غدا، وبذلك لن يعمر فى مصر رئيس.”
- · فلم يكن أى منهم ليتصور فى أسوأ كوابيسه أن القواعد ستتغير، وانه لن يسمح لهم بعد اليوم لا بالتظاهر وحده، بل بالمشاركة فى الحياة السياسية من أصله. ولو كانوا قد علموا، فربما كانوا سيتخذون قرارات مختلفة، على غرار ما كانوا يفعلون فى سنوات ما قبل الثورة من تفاهمات مع السلطة واجهزتها الامنية، مثل التفاهم على انتخابات برلمان 2005، بان نسبة النزاهة فيها لن تتخطى الـ 20 % باى حال من الاحوال، مما يسمح بدخول عدد لا يزيد عن 100 عضو من الاخوان الى البرلمان.
- · فكيف نأتى اليوم لنحاسبهم على افعال كانت مباحة وفقا للتعاقد والاتفاق الأصلى والقديم، وندينهم بموجب قواعد جديدة لم يعلموا عنها شيئا، تحظر تظاهراتهم واعتصاماتهم؟ الا يستحقون مثل اى متهم تطبيق ذات الفلسفة والمنطق والروح التى تقضى “بعدم رجعية القانون” او قاعدة “القانون الاصلح للمتهم.”
- · وحتى لو فعلنا وقررنا ان ندينهم وان نضعهم فى السجون الى ما شاء الله، فلا يجب على وجه اليقين أن نقوم باعدامهم، فكل شيئٍ قابل للتغيير والإصلاح والتفاوض والتراجع، الا القتل والإعدام.
- · وأرجو فى النهاية الا يحدثنى احد على انهم جماعة ارهابية، لان قانون تصنيفهم كإرهابيين صدر بعد رابعة واخواتها، وفض الاعتصامات بالقوة. كما ان الارهابيين فى تصورى لا يتظاهرون او يعتصمون ولا يرفعون اللافتات والشعارات، وانما البنادق والمفرقعات. ولا يؤسسون احزابا او جبهات ولا يشاركون فى الانتخابات ولا يصدرون الصحف ولا يظهرون فى المنابر الاعلامية وليس لهم حسابات حقيقية على وسائل التواصل الاجتماعى ولا يمارسون اى انشطة علانية ولا يخطبون على الملأ فى الميكروفونات كما انهم لا يستسلمون للسلطات حين تذهب لاعتقالهم.
- · والأهم من كل هذا فى النهاية ومن منظور المصالح العليا للبلاد، هى المخاطر والعواقب الوخيمة التى يمكن ان تترتب على تنفيذ سياسة الاعدامات بالجملة، وما يمكن ان تسفر عنه من صناعة قاعدة بشرية واسعة من آلاف الاسر والاهالى والانصار، تكون حاضنة شعبية لنمو جيل جديد من الارهاب والارهابيين أكثر شراسة واوسع انتشارا وتغلغلا مئات المرات مما هو قائم اليوم فى سيناء.
- · فافعلوا ما بدا لكم، فهذه ضريبة كل الثورات المهزومة، ولكن اياكم والاعدامات السياسية.
*****
القاهرة فى 9 سبتمبر 2018
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com