فرنسا – الأسبوع الرابع لاحتجاجات “السّترات الصّفراء” – الطاهر المعز
الحَدَث:
تزامنت احتجاجات السترات الصفراء مع احتجاجات طلبة الثانويات، احتجاجا على الإرتفاع الكبير لرسوم التسجيل في الجامعات، الذي يُشكل انتقاءً طبقيًّا وإقصاءً لابناء الفُقراء، واعتقلت الشرطة يوم الخميس السابع من كانون الأول 2018 في إحدى ضواحي باريس 206 طالبًا، تقل أعمار معظمهم عن 16 سنة (لم تتجاوز أعمار بعضهم 12 سنة)، وروّج السكان أشرطة فيديو تُظْهر العشرات من الأطفال القاصرين يجثون على الركبتين، وأيديهم على رؤوسهم، وبعضهم مقيد اليدين وراء الظّهْر، تحت حراسة أفراد الشرطة الذين يصوّبون أسلحتهم نحو هؤلاء الأطفال ويأمرونهم بالصمت المطبق وبالإمتناع عن الحركة، مما جعل امرأة مُسِنّة تُعلّق: “هل تحكمنا دكتاتورية عسكرية، كما الحال في تشيلي بعد انقلاب 1973، أم رئيس منتخب؟”، وأطلقت الشرطة سراح 79 منهم، واحتفظت ب110 وأحالت 17 إلى جهاز القضاء المُسْتَعْجل (وهو جهاز استثنائي، يُسْتخدم في الحالات الطارئة)، بتهم “العنف والتّمرّد والتطاول على الشرطة”…
أما يوم السبت 08/12/2018، وهو يوم احتجاج بمشاركة نقابات وجمعيات المحافظة على البيئة، فقد اعلنت وزارة الداخلية تجنيد تسعين ألف شرطي، ونصب مُدرّعات خفيفة ومدافع رشاشة، مع إغلاق خطوط المواصلات في باريس، بين الضواحي والمدينة، وهو تكتيك طبقته الدولة سنة 2005 و2006، بهدف مَنع شباب الضواحي المُفَقَّرِين والعاطلين عن التظاهر، وأغلقت شركة قطار الأنفاق وقطارات الضواحي عدة خطوط وعدة محطات داخل باريس، واقامت الشرطة الحواجز في الساحات، وأغلقت أهم الجسور التي تصل بين ضفّتَيْ نهر “السّاين”، كما أغلقت عددًا من المعالم السياحية والمكتبات والمتاحف، وغيرها، واعتقلت الشرطة عشرات الأشخاص من محلات سكنهم في الصباح الباكر، وبلغ عدد المعتقلين عند انطلاق المظاهرة في باريس لوحدها (وضواحيها) 737 معتقلاً أحيل 551 منهم إلى القضاء الإستثنائي، وجرحت الشرطة 55 متظاهرًا، وفاق عدد المعتقلين في أهم المدن الفرنسية ألف معتقل، احتفظت الشرطة ب720 منهم، وأُحيل المئات إلى جهاز القضاء الإستثنائي، بحسب ما ورد في برقية وشريط لوكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) على الساعة الخامسة مساءً…
التّعليق:
تدّعي فرنسا إنها “بلد حقوق الإنسان” (وليس واحدة من البلدان التي تحترم حقوق الإنسان) وتتجَرّأ حكوماتها على نقد حكومات دول أخرى، بتهمة “انتهاك حقوق الإنسان”، ويساهم الجيش الفرنسي في احتلال دول عديدة وفي العدوان على الشعوب، من أفغانستان إلى غرب إفريقيا، مرورًا بسوريا والعراق واليمن ومساهمة البحرية الفرنسية في حصار غزة، وغير ذلك…
لِفرنسا ماضي وحاضر استعماري، وما يرافق الإستعمار من تقتيل وتهجير للسكان وسطو على الأراضي، وغير ذلك، من جنوب شرق آسيا إلى غرب إفريقيا، وما بينهما، بالإضافة إلى مستعمرات بحر الكاريبي والمحيط الهندي وعشرات الجُزُر ذات الموقع الإستراتيجي، والتي تستخدمها فرنسا لإجراء التجارب الخطيرة على المحيط وعلى صحة الإنسان…
طور الجيش الفرنسي، خلال احتلال الجزائر، وبداية من 1956، أثناء حكم “الإشتراكيين” المُزيّفين (بقيادة “غي موللّيه”)، نظرية “العدو الداخلي” وكيفية التعامل معه، بالقوة المُفْرِطَة، لتخويف السكان، وبالإندساس، لتقويض أُسُس التضامن بين أفراد الشعب الواقع تحت الإستعمار، واشتهر بعض غلاة التطرف مثل “لاكوست” والجنرال “ماسّو” بتطوير نظريات وممارسة القمع “الضّرُورِي للمحافظة على السّلطة”، وتعاونت هذه الحكومة بشكل غير مسبوق مع الكيان الصهيوني واشتركت معه ومع بريطانيا في العدوان الثلاثي ضد مصر (1956)، وصَدّرَت فرنسا مدرستها القمعية نحو دكتوتوريات أمريكا الجنوبية، حيث تواجد “فَنِّيُّون” وخُبراء فرنسيون في مجال القمع إلى جانب الإنقلابيين في أمريكا الوسطى والجنوبية…
أثناء انتفاضة شباب الضواحي الفقيرة في تشرين الأول/اكتوبر 2005، استعانت حكومة فرنسا بالخُبراء الصهاينة في فنون قمع العرب، وقمع الإنتفاضات والإحتجاجات، واستمر التعاون بين جهازَيْ القمع، بل تَعَزّز على مر السنين، بقطع النظر عن لون الحكومة السياسي، وكانت وزيرة الداخلية الفرنسية “آليو ماري” قد أعلنت استعدادها لإرسال خُبراء قمع وزارة الداخلية الفرنسية إلى تونس، أثناء انتفاضة 2010 -2011، دفاعًا عن مصالح الوزيرة وأسرتها في منطقة تونس العاصمة وفي منطقة “طبرقة”…
أوردْنا هذه الخَلْفِيّة الإستعمارية والقَمْعِية لجهاز الدولة في فرنسا (الحاكم باسم الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية) لإبراز تاريخ فرنسا العريق في القمع، وقلة احترام الطبقات الحاكمة لحقوق الإنسان ولحقوق المواطن في التعبير والتظاهر والإحتجاج، ولإبراز عُمْق الهوة بين فئات الشعب الكادح والبرجوازية الحاكمة، ولإظهار خلفيات استخدام العنف الفظ والخَشِن ضد الفُقراء، عندما لا تتمكن الدولة من تمرير مشاريعها أو قراراتها عبر “العنف اللين”، والمتمثل في الكذب والخداع، عبر القنوات الرّسمية وعبر وسائل الإعلام المملوكة جميعها (أو معظمها) للبرجوازية…
فنون تَشْوِيه الحركات الإحتجاجية:
انطلق احتجاج “السترات الصفراء” إثر رفع الحكومة الضرائب غير المباشرة وأسعار النفط، في ظل ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وتعميق الفجوة الطبقية، وتلخصت المطالب في المساواة والعدالة الإجتماعية، خصوصًا في المدن الصغيرة وفي الأرياف، حيث غاب القطاع العام وخدمات النقل والصحة، ولم يبق من الدولة سوى الجانب القَمْعِي والتّعسُّفِي، لذ يمكن اعتبار هذا الحراك عَفْوِيًّا، يَضُمُّ مجموعات من الغاضبين، يجمعها الشعور بالحَيْف والرغبة في المساواة والعدالة، ولذلك فإن يَصْعُب التّحكم في هذه الإحتجاجات، والسّيْطرة عليها، فهي تتجاوز المجموعات المُنَظّمة، رغم محاولة الأحزاب والتيارات استغلالها، ويحاول اليمين المتطرف كما كافة الأحزاب والتيارات استخدام الإحتجاجات كمطِيّة، للحصول على مراكز أو مواقع، سواء خلال انتخابات البرلمان الأوروبي (أيار 2019) أو المناسبات الإنتخابية الداخلية الأخرى، واستغلت بعض القوى، من كافة الإتجاهات، مُطالبَة المحتجين باستقالة الرئيس وبتنظيم انتخابات نيابية قبل أوانها (انتخابات مُبَكِّرة)، في محاولة لدعم مواقعها جغرافيا (في مناطق مُفَقَّرة من البلاد) وبشريا، لدى فئات من المزارعين أو من الشباب الباحث عن عمل، أو غير المُهتمّين بالتغيير عبر الإنتخابات…
لهذه الأسباب، وغيرها، لا يمكن وصْم الإحتجاجات ونسبها إلى تيار سياسي مُعَيّن، فهي تَجْمَعُ أطْيافًا غير متجانسة سياسيًّا وإيديولوجِيًّا، ويمثل هذا التّنَوع نقطة قوة، من حيث إبداع أشكال جديدة من الإحتجاج، وخلق روابط في مناطق كانت معزولة، كما تمثل نقطة ضُعْف لأنها اقترحت إلغاء بعض القرارات، دون تقديم بديل لها، ودون استغلال هذه القوة البشرية الهائلة لفرض بدائل تقدّمية وشعبية، تخدم مصالح الفُقراء والعُمال وصغار المزارعين، على حساب الأثرياء والبرجوازية التي يُمثّلها نظام الحُكم…
تكمن قوة هذا الحراك الإجتماعي أيضًا في ضمه أجيالاً مختلفة، من الشّبّان إلى المتقاعدين، الذين كان حُضُورهم لافِتًا في كافة المدن والمناطق، كما كان حضور النساء كبيرًا أيضًا، وعبّر جميعهم عن معارضتهم لسياسة الحكومة التي تخدم الأثرياء، ومن جهة أخرى، استغل اليمين المتطرف هذه الإحتجاجات لبث التفرقة بين الكادحين والفُقراء، ومحاولة إعادة توجيه بوصلة المحتجين نحو البرنامج الطبقي والعُنصري لليمين المتطرف، عبر إبراز بعض مظاهر العنصرية المعادية للمهاجرين، ومعاداة الفكر التقدمي، وحتى الإنساني المُتَنَوّر…
خاتمة:
يمكن تلخيص جوهر هذا الإحتجاج الجماهيري الذي يتواصل للأسبوع الرابع (عند تحرير هذه الورقة يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2018) في المطالبة بالعدالة الجبائية وبتوزيع عادل للأعباء وللثروات، وكذلك بقطاع عام ومرافق وخدمات تجعلهم يشعرون إن الضرائب التي يُسَدِّدُها المواطن، تُستخدم لتمويل المرافق العامة، في كافة مناطق البلاد، ولكن وسائل الإعلام التي تملكها مجموعات احتكارية كُبْرى (وخاصة محطات “بي إف إم” و”إل سي آي”) تُرَكِّزُ على بعض المظاهر الهامشية مثل عمليات “العنف” من جانب المتظاهرين، الذين يردّون عادة على عنف أجهزة الدّولة، وعناصرها المدججة بالسّلاح، ويعبر معظم عناصر نقابات الشرطة عن أفكارهم اليمينية المتطرفة، خلال تصريحاتهم الصحفية…
من جهة أخرى عبرت هذه الإحتجاجات عن تناقض رئيسي بين طبقة الأثرياء التي تمثلها الحكومة (والبرلمان) وأجهزة الدولة، بما فيها القضاء، من جهة والمُسْتَبْعَدين من العمل ومن الثروة ومن سلطة القرار، ولذلك رُفِعت شعارات تطرح المسألة الديمقراطية، في عدة مناطق من البلاد، ومنها المناداة بإجراء استفتاء حول برامج وسياسات الحكومة الحالية، وإعادة النّظر في شكل الديمقراطية كما حَدّدها دستور الجمهورية الخامسة (دستور 1958)، ليصبح الناس متساوين في الحقوق وفي الممارسة، وليحل نظام التكافل الإجتماعي بديلا عن تمجيد الفرد وتمجيد الثروة، دون الإهتمام بمصدرها…
تكمن المشكلة في تحويل الإحتجاجات العفوية إلى برنامج حكم (سلطة) في خدمة الأغلبية، من الكادحين والمُنْتِجِين والفُقراء، والعاملين بعقود هشة وبدوام جُزْئِي والعاطلين عن العمل، وكافة الفئات التي دهسَتْها طبقة الأثرياء الحاكمة…
تحركت شعوب كثيرة ولم تتمتع بثمرة تضحياتها، سواء في تونس أو مصر أو اليونان أو تشيلي وغيرها، لأن لا تغيير بدون استهداف السّلطة، ولا يمكن استهداف السلطة بدون وجود قوة منظمة، تُحَوّل الحراك العفوي إلى حراك هادف ومنظم، ذي أهداف تخدم الكادحين والفُقراء…
تُظْهِر الوقائع غياب القوة المنظمة القادرة على تغيير موازين القوى لصالح الفقراء في فرنسا، والإطاحة بالنظام (وليس بالحكومة فقط) لاستبداله بنظام شعبي… قد تتراجع الحكومة، وهي بدأت بالتراجع، لكنه تراجُعٌ تكْتِيكي، في انتظار اللحظة المناسبة لتطبيق الإجراءات المرفوضة حاليا، مع محاولة تغليفها برداء لَمّاع، وتطبيقها بالتجْزئة، وليس دُفْعَةً واحدة…
الرجاء مراجعة مقال سابق بعنوان “فرنسا – بين الإنتفاضة العفوية ومناورات الحكومة”
الطاهر المعز
04/12/2018
كنعان