توقعات ما بعد سليماني – عبد الستار قاسم
الإيرانيون لا يتعجلون أمرهم، ليس لأنهم يتخوفون ولكن لأنهم يزنون كل خياراتهم بعناية ودقة، وبعد مناقشان هادئة مستندة إلى منطق وتفكير علمي لكي يجنوا أفضل النتائج ويخرجوا بأقل الخسائر. ولهذا ليس من المتوقع أن يسارع الإيرانيون بردهم ارتجاليا وبطريقة انفعالية، وإنما سيظهرون هدوءا وبرود أعصاب تاركين الانفعالية والتعبيرات الغضبية لقيادة الولايات المتحدة. هم بالتأكيد غاضبون ويشعرون بإهانة كبيرة ويقدرون تماما الخسارة التي منوا بها إثر اغتيال سليماني، لكنهم ليسوا من الصنف الذي يستشيط ويطلق العنان للرنين من الكلام والخطاب المشتعل نارا.
قناعتي أن سليماني كان ضحية عدم الرد على الاعتداءات التي دأبت أمريكا والكيان الصهيوني القيام بها ضد الإيرانيين والعرب. اعتاد الصهاينة والأمريكيون القيام باعتداءات بأشكال متنوعة، واعتادوا على العرب والإيرانيين الشجب والاستنكار وإطلاق العنان لتصريحات نارية لا يترجمونها على الأرض. لو كان الأمريكيون على غير هذا الاعتياد لما أقدموا على الاغتيال. لقد رسخ في ذهنهم عجز الآخرين وخوفهم من الرد، فلم تغادر النفس الأمريكية ما اعتادت عليه من ردود فعل.
لكن الأمريكيين تمادوا هذه المرة بحجم الضربة وتأثيرها على هيبة الجمهورية الإسلامية. لم يحسبها الأمريكيون جيدا إلا إذا كانوا معنيين بحرب مدمرة يخفونها تحت تصريحات سياسية بأنهم لا يفضلون الحرب. لقد حشرت أمريكا إيران في زاوية لا يمكن الخروج منها إلا برد متوازن، على الأقل، مع حجم اغتيال سليماني. وبما أن حجم سليماني كبير سياسيا وعسكريا وأمنيا، فإن الرد لن يكون شكليا أو خفيفا إلى درجة يمكن تجاهله من قبل الولايات المتحدة. ولهذا مهما صغر الرد لن يكون بإمكان أمريكا أن تتجاهله بدون التضحية بهيبتها.
إيران لن تتجاهل الحدث الضخم لأنها ستجازف بقدرتها الردعية أمام السعودية والكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وبصدقيتها أمام شعبها والشعوب العربية والإسلامية، وستجازف بمكانة محور المقاومة في النفوس، وبقدرات المقاومة على الدفاع عن الذات وصد الهجوم بهجوم. أي أن الخسائر المعنوية والردعية المترتبة على عدم الردع كبيرة جدا، وستجد إيران نفسها متقلصة أمام شعوب الأرض التي تتطلع إليها كدولة تتحدى الاستعمار الأمريكي.
تتمنى أمريكا ألا ترد إيران، وتفضل أن يكون الرد ليّنا لطيفا لا يؤدي إلى قتل أمريكيين يحرج قتلهم الإدارة الأمريكية ويضعها على كرسي الانتقادات اللاذعة في الداخل الأمريكي. وتقديري أن وزراء الخارجية الذين يزورون طهران الآن أو يتصلون بوزير الخارجية الإيراني يعملون على ثني إيران عن الرد، ويطلبون منها أن تكون يدها خفيفة إن هي قررت الرد. وهم بالتأكيد\ يحملون رسائل التهديد الأمريكي بأن الرد الأمريكي سيكون مدمرا إن هي عرضت حياة أمريكيين للخطر وقتلت عددا منهم.
إيران تحسب جيدا عواقب الرد، وهي لا بد تحصي المواقع التي سيهاجمها الأمريكيون إن هم قرروا الرد على الرد المحتمل. إنهم يحصون المواقع الصناعية التي سيستهدفها الأمريكيون، والمنشآت النفطية التي يمكن أن يصيبها دمار، والمؤسسات المدنية مثل محطات توليد الكهرباء والخدمات الخاصة بالاتصالات والإنتاج الغذائي، الخ. إيران ستضع أمامها خريطة التدمير الأمريكي المحتمل، وبناء عليها ستقيم الخسائر مقابل الفوائد التي ستجنيها من الرد. سيقدر الإيرانيون مدى قدرتهم على امتصاص الأضرار التي يمكن أن تصيبهم، ومدى قدرتهم على إصابة عدوهم بأضرار يصعب عليه امتصاصها.
الإيرانيون هم الأدرى والأعلم بقدراتهم العسكرية. كناظرين من الخارج، نرى أن قدرات أمريكا العسكرية أكبر بكثير من القدرات الإيرانية، وأمريكا أقدر على إحداث التدمير الهائل في المنشآت الإيرانية والمراكز الصناعية وبعض المنشآت النووية الثانوية. لكن هذا أمر حسي مستند إلى جمع معلومات متناثرة من هنا وهناك. في الغالب، تقدير القوة الأمريكية ممكن لأن أمريكا تعلن عادة عن الأسلحة التي يتم تطويرها، وقدرة هذا الأسلحة التدميرية، لكن إيران تتكتم على أسلحتها، وهي تعلن فقط عن جزء يسير مما تملك من طاقات حربية.
هناك أسئلة مطروحة حول القدرات الإيرانية أذكر منها ما يلي: هل تملك إيران صواريخ ضد الصواريخ، وهل بإمكانها إسقاط صواريخ توما هوك الأمريكية؟
هل تملك إيران منظومات دفاع جوي كافية لإسقاط الطائرات الأمريكية؟ وهل تملك إيران قدرات طوربيدية وصاروخية كافية للتغلب على قدرات السفن الحربية الأمريكية وبخاصة حاملات الطائرات والغواصات؟ وهل تملك ما يكفي من قدرات إليكترونية لتضليل الطائرات والصواريخ الموجهة نحو الأراضي الإيرانية؟
هل تتمكن إيران من مواجهة حلفاء أمريكا عسكريا إن قرروا تقديم المساندة لحليفهم الأمريكي؟ وهل حلفاء إيران جاهزون لمساندة حليفهم؟ وهل بإمكان إيران إصابة أهداف استراتيجية في الكيان الصهيوني والسعودية إن توسعت رقعة الحرب؟
هذه أسئلة مهمة في تقدير قدرات إيران على امتصاص الضربات والرد بكفاءة عالية في هجوم معاكس. وهذه أسئلة قد لا تملك الولايات المتحدة إجابات عنها.
أمريكا لا تعلم بالضبط نوعيات الأسلحة التي طورتها إيران، وهذه نقطة مهمة في اتخاذ القرار الأمريكي. لو كانت أمريكا والكيان الصهيوني والسعودية يعرفون بالضبط عما طورت إيران من أسلحة لطوروا أسلحة مضادة، ولضربوا إيران منذ زمن. ولهذا أجد أن عامل التكتم على الأسلحة الإيرانية يشكل أكبر رادع للولايات المتحدة في اتخاذ قرار حرب.
وسيزداد تردد أمريكا والصهاينة في توسيع دائرة المواجهة مع إيران إن وجهت إيران ضربات قوية ضد قواعد أمريكية ومنشآت وسفن ومراكز مراقبة وتحكم وسيطرة وعلى مساحة جغرافية واسعة، لأن أمريكا ستدرك عندها أنه لولا أن إيران تسند ظهرها إلى قدرات عسكرية مخفية لما قامت بضربات تثير أعصاب أعدائها. قوة الضربة في هذه الحالة ستكون لصالح إيران وليس ضدها، والإيرانيون هم الذين يعلمون تماما ما لديهم، ويدركون طاقاتهم.
سمعنا تهديدا إيرانيا قويا من قبل عدد من المطلعين على قدرات إيران العسكرية، لكننا لا نستطيع أن نخلص إلى نتيجة بناء على هذه التصريحات لأنها قد تكون من قبيل الحرب النفسية، والعالم كله الآن لا يستطيع أن يقطع بالأمر إلا إذا وقعت الواقعة.
ونأخذ بالاعتبار أيضا قدرات إيران التكتيكية. قد يكون العدو متفوقا عسكريا، لكنه محاصر تكتيكيا. وهذا ما خبرناه في حرب الصهاينة على جنوب لبنان عام 2006، وفي حروبهم على غزة أعوام 2008/2009 و 2012، و 2014. تغلبت المقاومة وصدت الجيش الصهيوني بفعل التكتيكات الحربية وليس فقط بفعل ما تمتلكه من صواريخ. وكان للإيرانيين اليد الطولى في تطوير تكتيكات المقاومة. وإذا كانوا قادرين على تحييد القدرات العسكرية المدمرة التي يمتلكها الصهاينة، فألا يكونون قادرين على تطوير تكتيكات خاصة بهم لتفادي التأثيرات المدمرة للأسلحة الأمريكية الفتاكة؟
إيران سترد لا محالة، ولكن كيف وأين؟ الأهداف الأمريكية حول إيران كثيرة، وفي هذا ما يعبر عن خطأ استراتيجي ارتكبه الأمريكيون بحق أنفسهم. لقد أقاموا أسورة من التهديد الأمني لإيران لكنهم في نفس الوقت لم يحسبوا أنهم قدموا أنفسهم أهدافا سهلة لإيران. لقد وضعوا أنفسهم أهدافا في مرمى الصواريخ الإيرانية، ولم يكلفوا إيران تطوير صواريخ بمدى يصل إلى أهداف على الأراضي الأمريكية. لقد أراحوا المخطط العسكري الإيراني من الكثير من الهموم العسكرية والأمنية، وجعلوا مهمته أكثر سهولة مما لو أبقوا أنفسهم في شمال أوروبا أو في شرق آسيا.
إجمالا، إيران ليست معنية بحرب يمكن أن ترفع من ضائقة يعاني منها الشعب الإيراني، لكنها بالتأكيد قادرة على الدفاع عن نفسها وإلحاق خسائر كبيرة في الجانب الأمريكي. وإذا كان الجانب الأمريكي على جانب كبير من الغباء والخطأ في الحسابات، فإن الإيرانيين أكثر هدوءا وأقدر تخطيطا، وأكثر صبرا ولا يتعجلون نتائج إعلامية على حساب الأبعاد الاستراتيجية في تعاملهم مع الأمريكيين فيما يخص المنطقة العربية الإسلامية.