الامبريالية الامريكية شر مطلق في هذا العالم: من كوبا الى فلسطين – نورالدين عواد
ربما لا يخلو صراع داخل مجتمع او بين دول في اي بقعة من العالم، دون ان يكون للامبريالية الامريكية ضلع فيه! فهي في تعبير محرر امريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني سيمون بوليفر، كما لو ان المشيئة الالهية ارادت منها ان تملأ القارة الامريكية اللاتينية بالبؤس تحت اسم الحرية! ويمكننا ان نُحدِّث هذا المفهوم بالقول ان امريكا تتوخى، عن عمد وسبق اصرار وترصد، نشر البؤس والظلم والعذاب في العالم، تحت أضاليل الحرية والديموقرطية والرؤى الدينية والاساطير الغيبية وحقوق المراة والاقليات والمثليين وجهاد النكاح…الخ. نعم انها شرّ الشرور!
الامبريالية الامريكية واظبت على علاقة جهنمية مع كوبا التي تدرّجت سياسيا من مستعمرة اسبانية الى محمية امريكية الى دولة مستقلة سيادية ذات ثورة اشتراكية راهنا.
فالاستعمار الاسباني نصب محاكم التفتيش في اوروبا؛ وفي القارة الامريكية اللاتينية والكاريبي و من ضمنه كوبا، أباد السكان الاصليين وجلب اليها مستوطنين وعبيد وفرض عليها اللغة الاسبانية والدين الكاثوليكي (تماما على النقيض مما لم يفعله العرب المسلمون في شبه الجزيرة الايبرية / اسبانيا والبرتغال/ على امتداد ثمانية قرون من الزمان! فلم يبيدوا اهل البلاد ولم يفرضوا عليهم اللغة العربية ولا الدين الاسلامي).
وقاتل شعب الجزيرة ضد الاستعمار بكل ما أوتيَ “من قوة ورباط الخيل” في ظل ظروف دولية ومحلية مجافية، على وقع اول نشيد وطني (لا زال ساري المفعول حتى الان):
كلمات والحان: الوطني الكوبي بيدرو فيغيريدو(بيروشو)
التاريخ : 1867- 1868
المكان : جالسا على صهوة حصانه في معمعان المعركة ضد الاستعمارالاسباني
النص كاملا
هيا إلى القتال يا أهل بَيّامُو* ؛ فالوطن ينظر إليكم فخورا؛ لا تخافوا الموت المجيدا؛ فالموت في سبيل الوطن خلودُ؛ الحياة بالقيود ، ملؤها الهوان والعارُ؛ فمن النفير ، صوته، اسمعوا: إلى السلاح ،شجعانا، اهرعوا.
(بَيّاموُ: مدينة شرقي كوبا و عاصمة محافظة غرانمّا حاليا).
في حرب التحرير الوطني الاولى (1868 ـ 1878)، لم تنتصر الثورة على الرغم من التضحيات الجسيمة، واستطاعت الامبراطورية الاسبانية احداث شرخ في قيادتها، وانتقل فريق منها الى خندق المُستَعمِر ضد وطنه وشعبه، فيما يعرف باسم “اتفاق الزانخون” (الاخدودالكبير) وما ترتب عليه من فِرَق امن وقائي وتنسيق امني وأول معسكر اعتقال فاشي جماعي في التاريخ المعاصر، راح ضحيته 300 الف كوبي! (تماما كاتفاق اوسلو في فلسطين).
الميجر إغناسيو اغرامونتي، احد قادة الثورة الملتزمين، في معرض ردّه على بعض الذين ندموا على انخراطهم في الثورة الاستقلالية عن الاستعمار الاسباني (طابور سادس استدخل الهزيمة واستسلم او تساقط)، قال حازما ” الكرامة تُنتَزعُ فقط بحدّ السيف”! وردّ على الذين لطموا وردحوا يا وحدنا ويا ضيق حالنا، قائلا: ” لنيل استقلال كوبا يكفينا حياء وشهامة الكوبيين”!
توقفت الثورة عدة سنوات، وعاودت الكرة في بداية الثمانينات (الحرب الصغيرة) ولم تنجح، وانطلقت مجددا في منتصف التسعينات من القرن التاسع عشر. عمليا كان الثوار قد انتصروا على قوات الاستعمار الاسباني وقاب قوسين او ادنى من الاستقلال والسيادة والحرية، فتدخلت القوات الامبريالية الامريكية عام 1898 واحتلت كوبا!
جدير بالذكر ان رؤساء الولايات المتحدة الامريكية حاولوا شراء كوبا خمس مرات من الاستعمار الإسباني: “صفقة قرن”! أجهضوا الاستقلال الوطني بتدخلهم واحتلالهم العسكري لها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فرضوا عليها دستورا مهينا، ونصَّبوا عليها ازلامهم، على امتداد ما يزيد على نصف قرن من الزمان. ولما انتصرت الثورة (يناير 1959 ) وجاء الخلاص النهائي، ناصبوها العداء والبغضاء، وفرضوا عليها الحصار والقيود، وشنوا عليها ما استطاعوا من الحروب( حرب سياسية ـ دبلوماسية،غزو مرتزقة، حرب بيولوجية ضد الانسان والحيوان والنبات منذ بداية الستينات من القرن الماضي، والله ينجّينا من الآت من كورونافيروس! ، حرب اقتصادية مالية تجارية، حرب إعلامية ونفسية، أزمة صواريخ نووية، حرب إرهابية…الخ). كل هذا السلوك الهمجي فقط من اجل الاطاحة بالثورة وبعملية بناء الاشتراكية.
61 عاما من الصمود والتصدي والتحدي، أمام اكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، والموبقة التي اقترفتها كوبا؟ القيام بثورة وطنية شعبية ولاحقا اشتراكية، حققت الاستقلال وتقرير المصير والسيادة والكرامة الادمية لشعبها. الصراع الامبريالي الامريكي ضد الثورة الكوبية صراع وجودي سافر، فاما راس الامبريالية واما راس الثورة ولا مجال للتوفيق بينهما تاريخيا. لم يبق أمام الإمبراطورية سلاح إلا وجربته في اعتداءاتها على كوبا، فقط بقي خيار الغزو المباشر بقوات إمبراطورية أو العودة الى جادة الصواب والاعتراف الكامل والشامل بها، وبحقها في الوجود في امان وسلام.
في فلسطين التاريخية (27 الف كم مربع) تقوم الامبرياليةالصهيونية باستنساخ نفس مخططها الدموي الفاشي الذي طبقه الاوروبيون خلال استيطانهم القاتل في امريكا الشمالية: غزو مسلح باسم الاله؛ احلال الواسب (الناس البيض الانجلوساكسون البروتستانت) والمُستَعبَدين مكان السكان الاصليين؛ التوسع من اقصى الشرق الى اقصى الغرب، مما ترتب عليه الابادة الجماعية لاهل البلاد! النتيجة: احتلال الاقليم كاملا (اسمه الان الولايات المتحدة الامريكية)؛ تصفية 112 مليون انسان؛ تدمير تراثهم الحضاري؛ فرض العزلة والتمييز على الذين لا زالوا على قيد الحياة، حوالي 225 الف “هندي احمر”! الامبريالية الصهيونية غزت المكسيك وسلبت منها اكثر من نصف اراضيها عام 1848 وحتى الان! وتحاول بشتى السبل الاستيلاء على ما تبقى منها!
هذا هو بالضبط ما انفكوا ينفِّذونه في فلسطين التاريخية منذ ما يربو على قرن من الزمان.
يقول التاريخ ان اليهودي الامريكي مردخاي مانويل نوح، الذي وُلد في فيلادلفيا عام 1785، وعمل في الشرطة والجيش والصحافة والكتابة للمسرح والدبلوماسية، وكان قنصلا في تونس، كان أول من حاول عمليا إقامة دولة يتمتع فيها اليهود بالحكم الذاتي في أمريكا، وقبل قيام إسرائيل بنحو 123 عاما، واطلق عليها اسم “دولة أرارات” في بافالو في ولاية نيويورك عام 1825.
ففي عام 1820، بدأ نوح في التفكير في إقامة مدينة تكون بمثابة ملاذ آمن لليهود من كل أنحاء العالم في الأراضي الأمريكية، فعمل على شراء أراضٍ قرب شلالات نياغرا، كما وجه الدعوة للهنود الحمر للانتقال إلى مدينته هذه، حيث كان يعتقد أنهم من نسل قبائل بني إسرائيل المفقودة!! وأرسل نوح حاخامات ومندوبين إلى أوروبا للترويج لفكرته ودعوة اليهود للهجرة إلى مدينته، غير أن دعوته لم تلق اهتماما وفشلت الفكرة.
في عام 1850 بنت امريكا على يد قنصلها في القدس، اول مستوطنة بروتستانتية امريكية على ارض فلسطين… لم ينجح المشروع حينها….وفي عام 1948، اقامت مستعمرتها الكبيرة “دولة اسرائيل” على اكثر من نصف فلسطين وتشتيت وابادة شعبها! وللعلم، سِرُّ قوة الكيان الصهيوني يكمن في انه جزء عضوي وحيوي من النظام السياسي الامريكي (المجتمع المدني والمجتمع السياسي) ولا مجال للتفريق بين اللاعبيْن: الاب والابن الشرعي!
انه صراع تاريخي مفتوح بين امتنا واعدائها على مر السنين! والغلبة للحق المتسلح بقوة الرصاص! الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتطبيع معه، واتفاق اوسلو، وملحقاته الخيانية دون مواربة، وتداعياتها فلسطينيا، اخطر على القضية والحقوق الوطنية والقومية والتاريخية من كل الصفقات المعادية: من فكرة فينش البريطاني 1621 وصولا الى صفقة ترمب الامريكي 2020. للمقاومة والقتال والصمود القول الفصل في التحرير والوجود والكرامة.
ان الرهان على اي تغيير رئاسي في الادارات الامريكية المتعاقبة، هو ضرب من الاوهام وخداع الذات! لقد صدق وزير الخارجية الامريكية عام 1968 عندما قال لنظيره المصري وهو يودعه على سلم الطائرة: لا تصدقوا ان الادارة الحالية او القادمة او اي ادارة امريكية في المستقبل ستقف مع الحقوق العربية في وجه “اسرائيل”! اي رئيس امريكي يحيد قيد انملة عن فكر ومصالح الدولة العميقة يتعرض مباشرة اما للطعن بشرعيته من خلال فضيحة ما او للقتل!
الدولة العميقة الامريكية صهيونية حتى النخاع، فكرا ومصالحا على نطاق كوني (معولم). كل الدول الامبريالية ولدت صهيونية، وهذه الاخيرة ايديولوجية وفلسفة وسلوك راس المال (وتتبنى الخرافة التلمودية باقامة مملكة او دولة يهودية في فلسطين وغيرها من قبل ومن بعد)، منذ خيانتها عيسى بن مريم والتامرعليه صلبا وقتلا مقابل المال، ولانه لم يولد ولم ينشا يهوديا (كما ادعى الانتهازي البروتستانتي مارتن لوثر) ولغاية يومنا هذا، في كل لحظة يصطاد الصهاينة طفلا في فلسطين او في امريكا. على هذا الاساس يجب النظر اليهم والتعامل معهم، ولا مجال للتوفيق بيننا او التصالح او التعايش، فالصراع وجودي والمعركة صفرية شئنا ام ابينا.
تسعى الامبريالية الصهيونية في سبيل إفناء امم باسرها، بينما تسعى كوبا الاشتراكية في سبيل شفاء العالم من شرورها! وشتان ما بين الثرى والثريا!
ان تاريخ القضية الكوبية يكاد يطابق تاريخ القضية الفلسطينية، والاهم راهنا هو انهما تتعرضان للعدوان الامبريالي الصهيوني متعدد الاشكال والالوان، مما يحتِّم موضوعيا تعانق شعبي واحرار البلدين، في نضالهما المشترك ضد العدو المشترك. ولمن لا يعلم، الكيان الصهيوني “دولة اسرائيل” يناصب الثورة الكوبية ودولتها عداء مستحكما، لدرجة ان العضو الوحيد الذي يصوت دائما مع امريكا ضد كوبا، في الجمعية العامة للامم المتحدة، هو دولة الكيان. ومن المثير للسخرية ان امريكا صوتت قبل عدة سنوات، في حادثة فريدة من نوعها، امتناع، فوقف الكيان وحيدا ! ضد كوبا!
من هنا ليس غريبا ان نسمع ونرى القادة والمسؤولين الكوبيين يؤكدون على تضامنهم ودعمهم اللامشروط للقضية الفلسطينية. قبل اسبوعين اثناء تفاعل في الشبكة العنكبوتية مع سفيرة كوبية، قالت لي “القضية الفلسطينية قضيتنا”! فتذكرت موقفا “دبلوماسيا” كوبيا اخرا جاء ليشهد على ما قالت.
خلال شهر فبراير 2020، واثناء جلسة لليونيسكو، طالب مندوب الكيان الصهيوني بدقيقة صمت على ضحايا المحرقة! فاعترضت السفيرة الكوبية الشابة على كلامه، وقدمت مداخلة موجزة حول المحرقة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، ولم تتمالك نفسها وبكت علنا وبشكل مسموع! واوقفت المشروع الصهيوني.
عندما شاهدت فيديو الواقعة، تذكرت ايضا حدثا تاريخيا كوبيا : في تشييع ضحايا العمل التخريبي الارهابي: تفجير طائرة مدنية كوبية فوق باربادوس (6 اكتوبر 1976)، تحت اشراف وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، قال القائد التاريخي للثورة الكوبية فيديل كاسترو: ” عندما يبكي شعب حازم ورجولي، ترتعد فرائص الظلم”!
ولان المحبة تقابل بالمحبة كتبت اليها علنا: ” ان دموعك ايتها الرفيقة الكوبية قد دقت فؤاد كل وطني فلسطيني، وتشكل حافزا لنا لمواصلة النضال التحرري حتى كنس الظلم والظالمين: اي الامبرياليين الصهاينة ومطاياهم. عاشت كوبا حرة مستقلة سيادية ثورية واشتراكية!
الامبريالية الامريكية شر مطلق في هذا العالم: من كوبا الى فلسطين
نورالدين عواد
هافانا، كوبا