في يوم مولدك: أنت الجمال، اسماً وشكلاً ومضموناً – عبد الناصر عوني فروانة
في الثالث من آذار/مارس عام١٩٧٠، اقدمت قوات الاحتلال الاسرائيلي على اعتقال أبي، أدام الله عليه الصحة والعافية وأطال عمره، وحينها كانت أمي تحمل في احشائها جنيناً في شهوره الأولى. وفي اول زيارة للسجن، أوصاها الزوج السجين: إذا كان المولود ذكراً فلتسميه “جمال”، تيمناً وعشقاً بالرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر. أما ان كان المولود أنثى أن تختار لها من الأسماء ما تشاء.
وفي يوم الاثنين الموافق العاشر من آب/اغسطس عام 1970، كان موعدها مع الولادة واستقبال المولود الجديد في ظل غياب الأب. فأنجبت مولودها وكان ذكراً، فأسمته “جمال” عملا بوصية الأب السجين. حدث هذا في بيتنا العتيق الذي يقع في حارة بني عامر بحي الدرج شرق مدينة غزة. ذاك الحي الذي نعتز به ونفتخر بمن كانوا جيرانا لنا هناك. فغدى في البيت الصغير “عبد الناصر” و”جمال” وهذا كرم من الله، وفخر لنا بأن نحمل اسم القائد العظيم الخالد فينا جمال عبد الناصر.
لقد أبصر اخي “جمال” نور الحياة فيما كان أبي يُعاني ظلمة السجون. وانا لم اكن قد تجاوزت الثالثة من عمري. فبدأت حكايتنا مبكرا مع الاعتقال، وسرنا معاً خطوات الى الأمام لنتعرف على مواقع السجون الإسرائيلية وطبيعة ظروفها المناخية، وقمنا بزيارتها كثيرا على مدار سنوات طويلة، فحفظنا اسمائها وأماكنها، والتقينا خلال الزيارات برجال كُثر من أبطال الزمن الثوري الجميل كانوا يقبعون خلف جدرانها الشاهقة، وفرض علينا ان نهجي سوياً في طفولتنا حروف السجن ونتعلم معاً منذ الصغر مفردات الاحتلال ونحفظ أبجديات الثورة والمقاومة. فكبرنا وكبرت بداخلنا القضية، وفي العام 1985 تحرر أبانا في إطار صفقة تبادل الأسرى الشهيرة بعد اعتقال استمر لأكثر من 15سنة، لتلتقي الأسرة بكامل أفرادها في رحاب الحرية ويُنتهي فصل طويل من المعاناة، فيما بقي الاحتلال وبقيت سجونه قائمة وظلت أبوابها مفتوحة للأبناء والأجيال المتعاقبة الرافضة للاحتلال والحالمة بالحرية والاستقلال.
وفي العام ١٩٨٦ عُدنا إلى بوابات السجون وعاد السجن يُعذبنا من جديد، حين اقتحمت قوات الاحتلال بيتنا في حي بني عامر العظيم، واعتقلت اخي “جمال” وهو ما يزال في سن الطفولة، حيث كان طالباً في الصف العاشر، واستمر اعتقاله لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى سنتين إضافيتين.
لقد اعتُقلنا سويا خلال تلك الفترة، وفي سجون متباعدة المسافة، واحيانا في اقسام متقاربة المسافة في ذات السجن، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصور مدى معاناتنا، ونحن نعلم أننا متجاورون ومتفرقون، في آن واحد: لا نتمكن من الالتقاء!. وبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد السجين، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) المُحرر لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أخرى. إلى أن تحررنا واجتمعت الأسرة ثانية في رحاب الحرية.
ومرت الايام والشهور، ومضت السنين والعقود، وبقيت ذكريات الماضي بتفاصيلها، الحلوة والمرة، الحزينة والسعيدة، تجمعنا، وحاضرة دائماً بيننا ومحفورة دوما في ذاكرتنا. واليوم ذكرى مولد اخي، يذكرني بتلك الأيام والليالي بحلوها ومرها التي مررت فيها انا واسرتي. لكن وبكل الأحوال كنت محظوظاً جداً، لأني رزقت أخاً عظيماً، اسمه “جمال” وله من الاسم نصيب.
وفي عام ١٩٩٤ خرّج أخي “جمال” من السجن، بعد انتهاء فترة اعتقاله الثاني، ومنذ أن تحرر بقيّ أسيرا للقضية ومهتماً بتفاصيل الحياة وراء القضبان، حاملاً هموم من بقوا ورائه خلف الشمس، فنشط بقوة في الدفاع عنهم وارتبط اسمه في الفعاليات المساندة لحريتهم والأخبار المتعلقة بهم، وعمل في جمعية الاسرى والمحررين منذ تأسيسها، ثم بادر الى تأسيس منظمة انصار الاسرى مع مجموعة من الشباب المتطوع، وما زال متطوعاً في الدفاع عن الأسرى وقضاياهم العادلة، وعضواً ناشطاً وفاعلاً ومؤثراً في العديد من اللجان الوطنية، ودائم الحضور في الاعتصام الأسبوعي بمقر الصليب الأحمر بغزة، ومشاركاً في كل الفعاليات المتعلقة بالأسرى، وما زال صوتاً صادحاً في الدفاع عن عدالة قضيتهم ونقل رسائلهم، ومتألقا عبر وسائل الاعلام المختلفة والمتعددة.
أخي جمال: نحتفل معاً بعيد ميلادك ونرسم سوياً الابتسامة التي تستحقها، فكل عام وأنت بألف خير دائماً. كل عام وأنت سعيد ومرتاح البال أخي العزيز وسندي الحقيقي أبا عوني. وبالمناسبة كلانا كنيته “ابو عوني”. فخرا بالأب واعتزازاً باسمه الكبير.
كل عام وانت المخلص للعائلة، والملتصق بقضية الاسرى والمعتقلين، والوفي للألم الذي ما زال يوجعنا. كل عام وأنت الجمال، اسماً وشكلاً ومضموناً. كل عام وانت والاسرة والعائلة ومن تحب بألف خير وربنا يبارك في عمرك ويحفظك من كل مكروه. وعيد ميلاد سعيد.
في يوم مولدك: أنت الجمال، اسماً وشكلاً ومضموناً
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة