جولة أولى مع موازين القوى – منير شفيق
على الرغم من ازدياد الإصابات بكورونا في العالم كله، عدا في الصين، إلاّ أن الانشغال بخطره وعدواه آخذ بالتضاؤل، أو دخل حالة تردد بين التضاؤل والتصاعد. ولكن بالتأكيد لم يعد الشغل الشاغل للعالم كما كان الحال قبل بضعة أشهر.
أما السبب في ذلك فيرجع إلى تغليب العودة إلى دورة الاقتصاد بوجود كورونا، مع التشديد بأخذ الاحتياطات (لبس الكمامة، التباعد الاجتماعي، غسل اليدين وتطهيرهما). وكانت النتيجة حتى الآن هي حالة التردد بين التضاؤل والتصاعد في قراءة خطر كورونا، أو في إقامة التوازن بين الفتح والإغلاق.
وقد أخذت أمريكا تحتل المكان الأول في إصابات كورونا وضحاياها، وفي تغليب العودة إلى الإنتاج والاقتصاد، فضلاً عن اقتراب الانتخابات الرئاسية التي أصبحت لها الأولوية بالنسبة إلى ترامب وإدارته.
هذه المعادلة نقلت العالم من الحرب العالمية على كورونا إلى نصف حرب، أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، حسب كل بلد. ولكنها حالة من الارتباك والفوضى، أخذت تضع بصماتها على المرحلة الراهنة.
وجاءت هذه الجائحة الكورونية لتزيد من إرباك الوضع العالمي، وهو يواجه ما يمكن تسميته انهيار العالم القديم، الذي وُضعت سماته الأساسية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تكرست مع تعديلات بعد الحرب العالمية الثانية. وقد اعتبِر سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته، كما التحولات الداخلية في الصين “تعزيزاً” لقيادة الولايات المتحدة- أوروبا على العالم، عسكرياً وسياسياً وحضارياً وأيديولوجياً.
ولكن لنقل بعد 2010 أخذ العالم يواجه سمات وظواهر ومعادلات قوى جديدة، مما ولد موضوعة تقول إن العالم القديم (عالم الغرب)، عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وعالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة، أخذ بالتراجع لحساب عالم آخر، مختلف عنه نوعياً، بالرغم من بقاء أمريكا وأوروبا في الساحة قطبين أساسيين، ولكن لم تعودا المتحكمين فيه وصاحبتي السيادة.
فالصين أخذت تسابق الولايات المتحدة اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، مع توازن عسكري لا يسمح لأمريكا باللجوء إلى الحرب لتثبيت سيطرتها على العالم. وروسيا أحدثت انقلاباً في قدراتها العسكرية، وخلفت أمريكا وراءها في عدد من المجالات، ولعدة سنوات.
أوروبا لم تعد تتحدث عن سيطرة عالمية، لا عسكرية ولا اقتصادية ولا علمية ولا تقنية. لقد ولّى زمان بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها. وفرنسا ذات القوة الاستعمارية العالمية تراجعت بدورها إلى حد كبير جداً، وألمانيا ذات القوة العسكرية والاقتصاد المتين لم تستطع أن تقود أوروبا، أو تخرج بنفوذها عن حدودها.
هذا العالم الذي فقد السيطرة الأمريكية عليه أصبح موزعاً بين عدة أقطاب عالمية وإقليمية، ودخل في فوضى وتنافس من دون أن يعرف كل طرف حدوده، ومن دون أن تكون ثمة قدرة لأي طرف بأن يفرض سيطرته، أو نظامه وقيادته، عالمياً أو إقليمياً، وأصبح لكل طرف، مع التفاوت، قدرة على تعطيل أية سيطرة، وعدم السماح بفرض سيطرة طرف آخر.
هذه المعادلة أعطت فرصاً لدول إقليمية ضاعفت من أدوارها وقدراتها وتأثيرها، مثل إيران وتركيا في منطقتنا العربية- الإسلامية (“الشرق الأوسط” أو “غرب آسيا”)، وراحت تحجّم الدور الإقليمي الصهيوني، فيما الغائب الدور العربي الرسمي، ولكن من دون أن ينسحب ذلك على دور الشعوب العربية، والمقاومات التي تعاظم تأثيرها، وازدادت أدوارها. وهذا بالطبع، يحتاج إلى تدقيق وتفصيل، ولكن يمكن التوقف الآن لقراءة وضع الكيان الصهيوني المتراجع والمحجم؛ لأن الكثيرين راحوا يبالغون بتعظيم دوره بعد اتفاق محمد بن زايد- نتنياهو. وقد فسّره البعض توسعاً في الدور “الإسرائيلي” عربياً.
كيف يُقرأ تراجع الدور الإقليمي للكيان الصهيوني؟
عند قيام دولة الكيان الصهيوني 1948 اشتهرت بانتصارها على سبع جيوش عربية، وقال البعض إن مليون يهودي انتصروا على 100 مليون عربي. طبعاً هذان الحكمان شكليان وهميان، يخفيان حقيقة الوضع: الأول يخفي أن الجيوش العربية السبع ومن ورائها دولها كانت مجزأة، وتحت الاحتلال المباشر أو المعاهدات الاستعمارية، أي كانت جيوشها أقرب إلى قوى الأمن الحدودي، وبسلاح وتدريب هزيلين، وقيادات مكبلة أو مسيطر عليها. وعندما دخلت فلسطين كان عديد جيش الهاغاناه الصهيوني ثلاثة أضعاف عديدها، وأسلحته متفوقة عشرة أضعاف على أسلحتها، مع دعم الدول الكبرى، بما فيها الاتحاد السوفييتي، للكيان الصهيوني.
أما الثاني، فالمئة مليون عربي كانوا يعيشون في ظل 22 قطراً عربياً، وتحت الاحتلال المباشر، أو في ظل معاهدات استعمارية أشد هيمنة من الاحتلال المباشر. فالمئة مليون عربي كانوا خارج الصراع وفي حالة شلل، ومكبلين بالقيود.
الكيان الصهيوني ولد متفوقاً عسكرياً على الشعب الفلسطيني والجيوش العربية، وولد بحماية الدول الكبرى سياسياً وعسكرياً ودعماً وإسناداً. واستمر على هذه الحال حتى عام 2000 في الأقل. وقد قام ما بين 1950- 2000 بدور الدولة الأقوى القادرة على تهديد أية عاصمة عربية، وعلى اكتساح ما يواجهها من جيوش، كما حدث في العدوان الثلاث 1956، وحروب 1967، و1973 و1982. ولم يتلق إلاّ ضربة في حرب 1973، ولكنه سرعان ما استعاد التوازن العسكري، وبدعم جسر جوي أمريكي، ليعود ويفرض على مصر معاهدة ظالمة عام 1979، ويخرجها من ساحة المواجهة. وكانت حربا 1991 و2003 ضد العراق في خدمة أهدافه.
هذا ولا تسل عما ارتكبه من اعتداءات “تأديبية” محدودة على طول الحدود، أو أعمال تخريبية واغتيالات وإرهاب، مسنوداً بأمريكا وأوروبا المسيطرتين على أغلب العالم. وقد وضعتا كل من خرج على الطاعة تحت الحصار، من الاتحاد السوفيتي إلى الصين.
أما اليوم فهو أضعف كثيراً: فقد فقدَ كلا من إيران وتركيا، الأولى 1979 والثانية 2005. وخسر أربعة حروب: 2006 مع المقاومة في لبنان، و2008/2009 و2012 و2014 مع المقاومة في قطاع غزة، وانسحب من جنوب لبنان 2000، ومن قطاع غزة 2005.
المؤكد اليوم أنه لم يعد قادراً على شن حرب منتصرة وحاسمة كما فعل مثلاً في 1967 و1982، وأصبحت جبهته الخلفية مهددة في أية حرب يخوضها، وانتقل الصراع العسكري بينه وبين إيران وحزب الله وقطاع غزة إلى شبه التوازن الاستراتيجي أو شبه التوازن في الردع. وقد ضعُف كذلك بسبب ما تعاني منه أمريكا وأوروبا من ضعف.
البعد الوحيد الذي يبدو فيه “أقوى” من ذي قبل، هو ما بدا من تهافت تطبيعي معه، من قِبَل بعض الدول العربية الخليجية وموريتانيا والسودان. وهو متغير معنوي وإعلامي، أكثر منه مغيّراً في ميزان القوى، أو مؤثراً في مستقبل الصراع. وبالمناسبة، حتى الدولة المصرية لم تطور علاقات تطبيعية شعبية، كما فعلت تلك الدول المتهافتة على التطبيع، بالرغم من معاهدة 1979، وكذلك الأردن بالرغم من معاهدة 1994.
لكن انهيار النظام العربي كما يتبدى من ناحية الدور والفاعلية، وحتى الوجود في الصراعات المحتدمة، فضلاً عن شتات دوله وتفرقها، أو من ناحية ما أصاب بعض الدول من حرب داخلية، يمكن أن يعتبر في مصلحة الكيان، بصورة غير مباشرة، قياساً بالوضع العربي السابق.
هذان البعدان (ظاهرة تهالك بعض الدول على التطبيع، وظاهرة انهيار النظام العربي) وتراجعه يسمحان، لمن أراد، أن يتخذهما دليلين على قوة الكيان الصهيوني وتقدم وضعه. ولكن هذين الدليلين لا يلغيان ما أشير إليه أعلاه من تراجع، في ميزان القوى العسكري والصراعي، في غير مصلحة الكيان الصهيوني؛ لأنهما دليلان ضعيفان جداً أمام انتقال ميزان القوى العسكري من مرحلة التفوق العسكري الصهيوني الكاسح، إلى مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي، أو شبه توازن الردع. وإنهما لضعيفان جداً أمام ما أصاب أمريكا وأوروبا من ضعف وتراجع، وأمام فقدانه للحليفين الإيراني والتركي.
وبالمناسبة إذا كان اتفاق محمد بن زايد- ترامب- نتنياهو يشكل للكيان الصهيوني “نصراً تاريخياً”، فـ”أبشِر بطول سلامة يا مَرْبَع”. ويا للمهزلة إذا أصبح أهم من عام النكبة 48، أو حرب حزيران 1967، أو الحرب على لبنان 1982. وإنها لمهزلة أشد إذا أصبح هذا “النصر التاريخي” لترامب بموازاة الانتصار الأمريكي في الحرب العالمية الثانية.
ثم كيف يوازن هذا الاتفاق محمد بن زايد- نتنياهو مقابل ما أحدثه من إجماع فلسطيني ضده، أو مقابل قطع العلاقات الأمريكية– مع قيادة م.ت.ف، وسقوط اتفاق أوسلو، ولا سيما إذا امتد ذلك لإطلاق انتفاضة؟ وعندئذ “سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” (الشعراء: 227).