ماكرون يعظكم، فاصغوا إليه: المُستعمر يحرِّركم – أسعد أبو خليل
كان لدينا في لبنان في قديم الزمان «مبادرة سوريّة»، من يذكرها؟ وهي بدأت عبر الثلاثي، حكمت الشهابي وناجي جميل وعبد الحليم خدّام، واستمرّت (عبر خدّام) حتى عام 1982. وتوقّفت في عهد أمين الجميّل، ثم عادت في عام 1987، واستمرّت حتى عام 2005 (حتى اليوم، لا أدري كيف أنّ ناجي جميل كان من أقرب المقرّبين إلى حافظ الأسد، ثم أُبعد، وكان من ضمن الثلاثي الذي زار لبنان باستمرار في بداية الأزمة، وكانوا يقيمون أحياناً في القصر الجمهوري، قبل أن يصطدموا مع فرنجيّة، والناس ينسون أنّ العلاقات لم تكن ثابتة في البداية بين فرنجيّة والنظام السوري، ولم تثبت إلا بعد انسحاب فرنجيّة من الجبهة اللبنانيّة، ولأسباب لا علاقة لها بالعروبة أو بالصراع مع “إسرائيل”).
لقد شكّل كامل الأسعد، في بداية الأزمة اللبنانية، «لجنة المبادرة النيابية»، التي لم تكن إلا حلقة تذكّر بوجود كامل الأسعد، الذي أنهكه صعود اليسار في جبل عامل. وكان لفرنسا (عبر كوف دي مورفيل) مبادرتها في حرب السنتيْن، كما كان لمبعوث الرئيس الأميركي جيرالد فورد، المبعوث دين براون مبادرة أخرى (لا يزال لبنانيّون يردّدون أقصوصة سليمان فرنجيّة عن أنّ براون عرض عليه سفُناً لترحيل المسيحيّين عن لبنان، وكان براون ينتفض في سنوات تقاعده عندما تسأله عن تلك القصّة). والطريف أنّ بعض زعماء لبنان عاشوا وصعدوا وتزعّموا وأثّروا في زمن تلك المبادرات ومن بينهم نبيه بري ووليد جنبلاط. أي أنّ الاثنيْن خبيران مخضرمان في المبادرات العربية والإقليمية والعالمية. وكان بشير الجميّل يعتبر أنّ غزو “إسرائيل” للبنان، هو «مبادرة» أيضاً، وكان يسوّقها للشعب اللبناني، عام 1982، تحت اسم «القرار»، وكان الجميع يعلم عمّا يتحدّث، إلّا أنّ ياسر عرفات وقادة الحركة الوطنية لم يتحضّروا جيّداً (أو أبداً) للتصدّي لتلك المبادرة المشؤومة، التي ما زلنا نعاني من ويلاتها حتى الساعة.
الآن، بات لدى لبنان مبادرة فرنسية، والفراغ السياسي البادر عن الدول الغربية ودول الخليج هو مقصود، وسياسة صارمة (متى نكفّ عن مصطلح «المجتمع الدولي» في إشارة إلى الحكومة الأميركية؟ أوَتعلمون وتعلمنَ أنّ هذا المصطلح ليس إلا ابتكاراً أميركيّاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من أجل اكتساء السياسة الأميركية غطاء الشرعية الدولية، نتيجة سيطرتها على الأمم المتحدة في عهد بوريس يلتسن وفلاديمير بوتين، حتى عام 2011؟).
التحالف الأميركي ـــــــ السعودي ـــــــ “الإسرائيلي”، لم يفتعل أزمة الاقتصاد في لبنان، لكنّه فاقمَها وفجّرها، لأنّ كلّ السياسات التي انتهجتها “إسرائيل” لاستهداف القوّة اللبنانية التي تردعها باءت بالفشل. وهذه القوة، ليست بالتأكيد «القوّة الضاربة» لـ«فرع المعلومات»، وليست فرقة صبّابي الشاي في قوى الأمن الداخلي، وهي ليست أيضاً فوج قرع الطناجر. كانت سياسة “إسرائيل”، في زمن «منظمة التحرير» واضحة: كلّما شعر العدو بانزعاج من المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية كان يجتاح لبنان، أو يقصفه من شماله إلى جنوبه. “إسرائيل” عاجزة ومرتبكة، ولا يعبّر عن انزعاجها وارتباكها أكثر من انزعاج حلفاء النظام السعودي في لبنان. “إسرائيل” تريد أن تجتاح لبنان وأن تقصفه لكنّها تخاف. لا تريد تكرار الهزيمة ـــــــ المذلّة التي أصابتها في عام 2006. وحلفاء النظام السعودي في لبنان، مثل الجبهة اللبنانية من قبل، يتعاملون مع القوّة العسكرية “الإسرائيلية” على أنها سندٌ لهم، لكنّها باتت للمرّة الأولى في التاريخ اللبناني من دون إمكانية للتصريف أو الاستثمار. حتى الأعمال التخريبية للعدو “الإسرائيلي” (من تفجير سيارات وشاحنات وحتى حمير مفخّخة، وباسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، التي أظهرت وثائق “إسرائيلية” مسؤولية العدو عنها) لم تعد متاحة كما في الماضي، لأنّها تخاف من قوّة ردع مقاومة “إسرائيل”. لهذا، لا يجب نفي إمكانية ضلوع “إسرائيل” في تفجير المرفأ: والذي قبل في الحكم بمشاركة حلفاء “إسرائيل” في الغرب في التحقيق، كان كمن يدعو العدو إلى محو آثار جريمته قبل انفضاح أمرها.
لم تكن مصادفة أنّ ماكرون زار لبنان، في ذكرى مئة سنة على استعماره من قبل فرنسا. ليس هناك من وثيقة لبنانية رسمية واحدة تتحدّث عن «استعمار لبنان». المصطلحات الرسمية تنحصر في كلمة «انتداب» (والتي انتقتها دول الغرب المُستعمِرة العنصرية، والتي صنّفت شعوب العالم الثالث إلى طبقات وكنّا نحن من حصّة «الانتداب»، وليس «الاستعمار»… وا فرحتاه) أو كلمة «الجلاء»، في إشارة إلى رحيل القوات الفرنسية (الهوينا) عن لبنان بعد ثلاث سنوات من الاستقلال الاسمي: أي أنّ لبنان تحرّر من الاستعمار الفرنسي، لكنّه ترك للمستعمر حريّة اختيار مكان وزمان… الرحيل. والاحتفال بذكرى مئة سنة على نشوة الاستعمار، (والتي كانَ العهد العوني ينوي الاحتفاء بها بتعظيم) تعطّلَ بسبب الانهيار الاقتصادي وتفجير المرفأ، وقد يكون ذلك التعطيل الحسنة الوحيدة في هذه السنة الصعبة. كم كانت المشاهد ستكون بشعة، عندما ترى دولة يُفترض أن تكون مستقلّة وهي تستعيد ذكرى استعمارها، وترى شباباً لبنانيّين يلوّحون بأعلام المُستعمِر. ذلك الرجل اللبناني، الذي خاطب ماكرون بعبارة «أبوس إجرك، انتدبنا» لم يكن يخاطب ماكرون بالنيابة عن نفسه فقط. عرفَ ويعرف ماكرون، أنّ هناك بيئة للاستعمار في لبنان، وأنّ ثقافة طغاة الخليج باتت (حتى من خلال المسلسلات والأفلام، وهي كلّها تحت سيطرة تلك الدول) تنعش مخيّلات الحنين للاستعمار. ومن مصلحة طغاة الخليج إعادة إنتاج وتسويق مرحلة الاستعمار، لأنّنا نتحدّث عن ملوك وسلاطين حكموا بطرق مماثلة لحكم سلالات النفط والغاز. لكنّ لبنان لا يحتاج إلى ثقافة إنعاش الحنين إلى الاستعمار، لأنّ ثقافته «الوطنية» (القومية اللبنانية) مبنيّة على الترابط مع مرحلة الاستعمار وعلى نسج أساطير وخزعبلات عن نضالات للشعب اللبناني ضد الحكم العثماني (ساهم فيلم «سفر برلك» للأخوين رحباني في اختلاق أكاذيب عن حرب عصابات ضدّ الحكم العثماني، تماماً كما أنّ مسرحيّة «فخر الدين» للأخوين ساهمت، أيضاً، في اختلاق أساطير وطنية عن لبنان).
لم تكن قائمة العقوبات ضدّ علي حسن خليل ويوسف فنيانوس من أجل التعطيل على مبادرة ماكرون، كما ورد في بعض إعلام لبنان، بل كانت جزءاً منها
تعاملت الطبقة الحاكمة برمّتها مع ماكرون، على أنه المُنقذ وعلى أنّه المخلّص. وافترض حزب الله (على طريقة روحاني ـــــــ ظريف) أنّه من الممكن التلاعب على تناقضات (غير موجودة) بين أميركا وفرنسا لنيل مكاسب سياسيّة. لم يخفت بعد أمل روحاني ـــــــ ظريف في إيجاد بديل أوروبي عن منافع الاتفاق النووي الذي خرقته أميركا. وفي لبنان، لم تكن هناك سياسة فرنسية مستقلّة عن أميركا، منذ موقف ديغول من حرب عام 1967. كانت الاختلافات طفيفة بين الحكم الفرنسي والأميركي، ورضخت فرنسا وبريطانيا للأولويات الأميركيّة (والإسرائيلية) في لبنان. الحكومة الفرنسية، كما الأميركية، تشاركتا في تلزيم لبنان للنظام السوري، وفي رعاية الحريرية الفاسدة في لبنان. أمّا دور جاك شيراك البارز نحو لبنان، فلم تكن أبداً له علاقة بسياسات دولة أوروبية، بقدر ما أنّ شيراك رجل فاسد (على الطريقة اللبنانية)، ويضعف أمام أثرياء العرب (لو لم يكن شيراك يعاني في سنواته الأخيرة من الزهايمر لكان تعرّض لمحاكمة، ولكان تكشّف فيها مستوى من تلقّي أموال العرب أكبر من مستوى فساد الملك خوان كارلوس في إسبانيا).
لبنان لم يعِش فترة في تاريخه المعاصر من دون رعاية خارجية، ويحدّثونك في الدستور عن لبنان كوطن نهائي (والمصطلح مستقى من أدبيّات الجبهة الانعزالية). لبنان لن يستقيم له شأن كوطن، وعلى القوى التي لا تؤمن بنهائيّة الكيان اللبناني (وهي باتت خجولة في مجاهرة المعارضة: الحزب السوري القومي الاجتماعي لم يعد يتحدّث عن توحيد كيانات سوريا الكبرى، والحزب الشيوعي الأممي يقبل بكيانيّة لبنان، لا بل مزج في طريقة فاقعة بين علم سعد المنلا وصائب سلام والمُستعمر الفرنسي وبين المنجل والمطرقة، الرمزَين الغاليَين)، أن تتحدّث عن إقامة كيان واسع يضمّ شعوب منطقتنا، بعد تحرير فلسطين وسقوط الطغاة. فرنسا تملأ فراغاً في إدارة دونالد ترامب: هناك حالة ارتباك في وزارة الخارجية الأميركية، لسبب بسيط (وهذا يرد واضحاً في كتاب «غضب» الجديد لبوب ودوورد): أنّ مكتب جاريد كوشنر في البيت الأبيض يدير السياسة الخارجية نحو الشرق الأوسط، والأولوية عنده هي مصلحة دولة الاحتلال والعلاقة النفعيّة مع طغاة العرب (وينسب ودوورد إلى وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون قوله إنّه كان يشعر بالغثيان عندما كان يشاهد كوشنر، وهو يتحدّث مع بنيامين نتنياهو من فرط خضوعه له). ولهذا، يخاف مكتب الشرق الأوسط في وزارة الخارجية من المبادرة، خصوصاً في ما له علاقة بملف يهتم به كوشنر. كما أنّ نائب وزير الخارجية، ديفيد هيل، شخصية ضعيفة، ولم يقع الاختيار عليه إلّا لأنّ معظم خبراء السياسة الخارجية من الجمهوريين تعهّدوا بعدم الخدمة في إدارة ترمب. وكان الوزير تيلرسون، يريد إليوت أبرامز للمنصب، لكنّ ترمب وضع فيتو عليه لأنّه انتقده أثناء حملته الانتخابية في عام 2016.
لا تمانع أميركا من أن تبادر فرنسا في لبنان، أو أن يبادر غيرها، على أن تبقى المبادرة تحت سقف أجندة التحالف الأميركي ـــــــ السعودي ـــــــ “الإسرائيلي” ـــــــ الإماراتي (سيزيد التطبيع الإماراتي ــــــ “الإسرائيلي” من التدخّل الإماراتي في لبنان، وفي غيره، لأنّ النظام بات يتمتّع بفائض من الثقة بالنفس، وكم هي لافتة سلسلة إعلانات عن وظائف لجريدة «ذا ناشينوال» الإماراتيّة، والتي لم تكن تكترث لمتابعة الوضع اللبناني من بيروت). التحرّك الفرنسي، كان لإنقاذ المصالح الغربية في لبنان، ومنعه من الاتجاه شرقاً. يسخر الشباب اللبناني الظريف على مواقع التواصل الاجتماعي، من الاتجاه شرقاً لأنّ الصين ــــــ التي باتت على بعد سنوات (تقيسها واشنطن بالمسطرة) من تخطّي أميركا في حجم اقتصادها بنسبة الاقتصاد العالمي ـــــــ بنظر هؤلاء، ليست إلّا دولة نامية فقيرة لم تتطوّر عن زمن الستينيّات. وهناك «مزاد علني» مطروح لموجودات الدولة اللبنانية، بيما تسعى فرنسا، كما غيرها، لشراء ما تبقّى من الموجودات بأبخس الأسعار.
خطّة ماكرون التي نالت موافقة حزب الله (لسببٍ من الأسباب)، لم تكن بعيدة عن النيّات الأميركية، وخطابه التقريعي ضد زعماء لبنان (إن لم يكن ضد كلّ لبنان، لِما حوَته لهجته الاستعلائيّة من عنجهيّة ألِفناها من المُستعمِر) فضح الأهداف الفرنسية: أنّ حزب الله هو الهدف، وهو لم ينفِ ذلك عند إطلاق مبادرته، بل وعد بأنّ التصدّي له سيلي في مرحلة لاحقة. وثوق حزب الله بالمبادرة الفرنسية، يذكّر بوثوق ياسر عرفات ببيل كلينتون في قمّة كامب ديفيد في عام 2000، إذ إنّ كلينتون تجاوب مع مبادرة “إسرائيليّة” لنيل المزيد من التنازلات الفلسطينية، ثم دعا ياسر عرفات إلى القمّة. لكنّ عرفات أوضح أنّ شروط النجاح معدومة، وأن ليس من بوادر تدلّ على أنّ حكومة إيهود باراك ستقدِّم جديداً، لكنّ كلينتون أصرّ، ثم وعد عرفات بأنّه لو حضَرَ، فإنّه لن يلقي اللوم على أيّ طرف بسبب فشل المباحثات، ولو كان الطرف هو الفلسطيني. ماذا حدث؟ لم يقدِّم باراك تنازلات، ورفض عرفات (وتنصّل طغاة واشنطن العرب من المسؤولية، خوفاً من إلصاق أسمائهم بتنازلات تتعلّق بالسيادة على الأقصى) ما عُرض عليه، فما كان من كلينتون إلّا أن واجه الصحافة وصبَّ جام غضبه على ياسر عرفات وحده، وحمّله المسؤولية الكاملة عن تعثّر المفاوضات. شيء مشابه حدث في الخطاب الأخير لماكرون، عندما صبَّ جام غضبه على حزب الله، وفي معرض كلامه عن فساد الطبقة الحاكمة، لم يسمِّ زعماء الفساد المرضي عنهم غربياً. فرنسا، بالنيابة عن أميركا، تتعهّد بحماية فاسدي أميركا في لبنان (نرجو من «الأخبار» التوقّف عن كتابة أخبار عن أنّ أميركا ستضحّي برياض سلامة).
على طريقة حسني البورزان في مستهلّ مقالته الشهيرة في «صح النوم»، أقول: إذا أردتَ أن تفهم مبادرة ماكرون، عليك أن تشاهد شهادة ديفيد هيل الأخيرة في الكونغرس الأميركي. هناك تفهم أكثر مقاصد الخطّة الغربيّة ضدّ لبنان. ديفيد هيل أوضح كيفية التعامل الغربي مع ما يُسمَّى بقوى «المجتمع المدني». ماكرون في أوّل زيارة اجتمع مع وفدٍ منهم، لكنّهم لم يُفصحوا عن الاجتماع ولم تصرِّح أيّ من المجموعات التي تمثّلت بما دار في اللقاء. وهذا ما هو طريف في ما يُسمَّى بقوى «المجتمع المدني» اللبناني: هي تهتف للإصلاح، وهي تريد أن تقوِّض «السلطة» (باتت «السلطة»، لا النظام، هي الكلمة المفتاح، وهي مُفضَّلة لأنّها لا تحمل مضامين طبقيّة يمكن أن تخيف الرعاة الغربيّين) لكنّها أبعد ما تكون عن الشفافية أو المحاسبة. هي تريد من الدولة أن تلتزم الشفافية في المحاسبة المالية، فيما هي لا تذكر مصادر التمويل (وإن ذكرت، فلا تذكر إلّا أنّ المنظّمة الغربيّة الفلانيّة أو المركز الغربي الفلاني يموِّل، لكن بكم؟ هذا سرّ من الأسرار. وهي تلتقي مع المبعوثين الغربيّين، لكنّها لا تخبرنا عن تلك الاجتماعات. ولقاء شينكر (أو أحد لقاءاته) مع ناشطين، تسرّبَ إلى الإعلام، فقط لأنّ شينكر (لأغراض غير معروفة) هو الذي سرّبها، ربّما في محاولة لرفع شأن مجموعات لم يسمع بها أحد (وواحدة منها حزب «قيد التأسيس»، لكن شينكر علمَ به قبل أن يتأسّس ـــــــ متابع دقيق للوضع اللبناني هذا الشينكر). ديفيد هيل تحدّث عن ناشطي المجتمع المدني، في شهادته قبل أيّام أمام أعضاء الكونغرس، ربما بقصد طلب تمويل إضافي، وقال إنّ حكومته تولّت تدريب عدد من كوادر الحركات الاحتجاجيّة. وهو دلّل عليها، في حديثه عن زعماء الفساد، موحياً بأنّ حكومات الغرب تستخدم مجموعات الحراك، كأداة ضغط لتحقيق المزيد من التنازلات والاستسلام من زعماء لبنان. هم يقولون لهم: إن لم تنفّذوا الأوامر بحذافيرها، فلدينا بدائل جاهزة عنكم، كأنّ هؤلاء يمكن أن يصعدوا زعماء في طوائفهم في بلد لا حظَّ فيه بعد لقادة من خارج الطوائف.
لم يرُدّ أي من زعماء الطوائف على إهانات ماكرون لهم. هؤلاء متمرّسون في تلقّي الإهانات. لعلَّ جنبلاط، وهو جالس مُصغياً لأوامر ماكرون، تذكّر السنوات الخوالي، عندما كان يجلس مُصغياً متلقياً أوامر غازي كنعان، ثم رستم غزالي من بعده. وعَظَهم ماكرون، وأَمرهم وقدّم لهم ورقة لتنفيذها وغضب أنّ حزب الله وافق على 90% منها (فقط)، لكنّ المُستعمر لا يقبل بأقل من الطاعة الكلية. وسكت زعماء لبنان عن الإهانات التي تلقّوها من ماكرون. وحده حسن نصرالله ردَّ عليها ورفضها. لماذا؟ لأنّه وحده لا يخشى أن تفضح حكومات الغرب فضائح فساد تتعلّق به أو بعائلته. ولأنّه لا يخشى من تجميد أرصدة له في مصارف الغرب، وليس لديه منزل باريسي ولا يريد أن يرسل أولاده للاستجمام أو الدراسة في أوروبا أو أميركا. هذا يجعل من نصرالله أكثر حريّة من كلّ الزعماء الباقين (ويدحض ذلك نظريّة شربل نحّاس عن الزعماء الستّة).
تكمن المبادرة الفرنسية في الإذعان لما يقرّره صندوق النقد، ولِما تقرّره وزارة الخزانة الأميركية. ولم تكن قائمة العقوبات ضدّ علي حسن خليل، ويوسف فنيانوس، من أجل التعطيل على مبادرة ماكرون، كما ورد في بعض إعلام لبنان، بل كانت جزءاً منها. كانت تهدف إلى زيادة الضغط على فريقَي أمل وحزب الله، من أجل كسب المزيد من التنازلات (من حزب الله في القبول بشروط نادي السنيورة لرؤساء الحكومات السابقين، ومن أمل من أجل الرضوخ للشروط الأميركية، في المفاوضات المباشرة بين وفد لبناني و”إسرائيلي” في الناقورة، حول الحدود البحرية والبرية ــــــ لا ينزع عن المفاوضات صفة المباشَرة لو أنّ صحن مكسّرات فصل بين الوفد اللبناني و”الإسرائيلي”). لكنّ إعلان العقوبات أدّى إلى نتيجة عكسيّة، إذ زاد من تلاحم الثنائي وصلّب رفضه. إلّا أنّ الثنائي (عندما كان يُعلَن بصفته الطائفية، حتى خطاب نصرالله الأخير الذي نأى عن الصفات والمطالب الطائفية والمذهبية) أفسد مهمّة التعطيل ــــــ وتعطيل مبادرة ماكرون بات ضرورة وطنية وسيادية ـــــــ لأنّه رفع شعاراً طائفيّاً لا يمكن أن يُقبلَ به من خارج نطاق البنية الطائفية للحزب والحركة. لو أنّ الثنائي التزم بصيغة ولغة خطاب نصرالله الأخير، لكان أعطى رفض المبادرة، أو على الأقل معاندتها، معنى وطنيّاً وسياديّاً. لكنّ مطلب حصر وزارة بطائفة يجب أن يُنظَر إليه على أنه من مخلّفات قرنٍ مضى.
توضّحت الأمور كثيراً في الفترة الماضية. تبيّن أنّ فصائل «الثاو الثاو» (أصحاب المطالبة بتعليق المشانق)، لم يكونوا يريدون إلّا رأس نصرالله وباسيل (أو أم باسيل). هؤلاء أقاموا الدنيا وأقعدوها، عندما عُيِّن حسّان دياب رئيساً للحكومة من دون أن يعرفوا أيّ شيء عنه. محطّات «الثاو الثاو» الثلاث (أصبحت هذه المحطات متشابهة كالرمال، و«الجديد» التي كانت في ما مضى ذات توجُّهٍ يساري وتقدُّمي، لم تعد تختلف عن محطة «إم.تي.في»، وتبُثّ خطباً لديفيد هيل من دون توقّف أو تعليق: هطل المال على المحطات الثلاث، على ما يبدو للمشاهد، كما أنّ جريدة «النهار» التي كانت على وشك الإقفال افتتحت قسماً جديداً عربيّاً). تعيين مصطفى أديب (مرشح السنيورة) لم ينل أي اعتراض، لا بل إنّ اعتذاره أدى إلى نزول «الثاو الثاو» إلى الشارع، للمطالبة بعودته. والسنيورة اعترف، أخيراً، بأنّ طرح اسم نواف سلام كان فكرته من البداية. أي أنّ السنيورة (أو من ينتدبه عنه) بات مرشّح «الثاو الثاو» المفضّل. بدأت ثورة تهدّد بقلب النظام واعترض بعض ناشطيها على مجرّد إسباغ وصف «حراك» عليها، وإذ بالقوى الصادحة تنتهي في جيب فؤاد السنيورة. وموقع «ميغافون» الثاو الثاوي، اعتبر أنّ ماكرون أحرص على سيادة لبنان من اللبنانيّين. هذا كان رأي إميل إده (المؤيّد للصهيونية) عن الاستعمار الفرنسي: إنه خيرٌ للبنان وأفضل من استقلاله. لكن لا داعي للقلق: فإنّ الصراعات بين قوى الانتفاضة، والصراع بين زعماء الفساد، تكفل أن تفشل مبادرة ماكرون. لكن: من الضروري تمديدها، حتى عام 2025 على أقل تقدير. نحتاج إلى مزيد من الوقت للتكيّف مع أوامر ماكرون، ويحتاج ماكرون إلى رمية أخرى على صدره من فنان أو فنانة لبنانية.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
الأخبار اللبنانية