المنظمات غير الحکومية إديولوجية “دعاة نهاية الإديولوجية” – منال الحبّاشي
المنظمات غير الحکومية إديولوجية “دعاة نهاية الإديولوجية”
منال الحبّاشي
تونس
دأب العالم الغربي على التعامل مع العالم غير الأوروبي والأمريكي بوصفه يمثل مرحلة مبكرة أو طفولة العالم المتطور ويجب الأخذ بيده نحو بلوغ النضج إي استنساخ عملية التطور الغربيّة علي بقية “الشعوب المتخلفة” عنها .
علي هذا الأساس سعت دول المركز لإنشاء أداة للعب هذه المهمة. فبلورت في مرحلة مبكرة حركات التبشير بشكل واسع ، وقد ميز المؤرخون بين مفهومين: التبشير والتنصير. يكون الأول بين الوثنيين والثاني بين المسلمين ، وقد بررت هذه الحركات دوافعها بدوافع دينية و إنسانية. و تتمثل الدوافع الدينية أساسا في تفوق الديانة المسيحية علي الديانات الأخري و أن النظرة المسيحية للعالم متفوقة علي كل النظرات الأخري، وبالتالي صبغ أهل هذه الدول بلون الحضارة ، و” إنسانية” كنشر التعليم و إنشاء المدارس. وكانت مهمة الأساتذة تعبيد الطريق ليتقبل المواطن الأصلي ثقافة غريبة عنه بتصوير الحضارة الأصلية بأنها متخلفة والعلوم والآداب المستوردة متفوقة عليها وبالتالي خلق نوع من الشعور بالنقص الذي يؤديإلي الخضوع للحضارة الأرقى. إن الأساتذة أو لنقل المبشرين الأكثر إنسانية اعتبروا المواطنين دونهم مكانة كما كانت نظرة المستعمرين إليهم وإن مهمة إخراجهم من الظلمات إلي النور مهمة إنسانية ، كما تم بناء المستشفيات لعلاج المواطنين الأصليين من أمراض منتشرة وكان بعض الأطباء جزءا عضويا من هذهالحركات ذاتالإديولوجية الاستعمارية فمشاعرهالإنسانية يفقدها و يظل المريض” ٱخر ” بالكامل .
اجتماعيا، استفاد من هذه المؤسسات التربوية و المستشفيات وما إلى ذلك أبناء العائلات البارزة الميسورة وقد أدى هذا إلى نشوء تقسيم فئوي جديد النخبة /الجمهور. و لم تكن كل هذه الوسائل إلا أدوات للاستعمار الثقافي الذي تنهض فيه ثقافة المستعمِر طامسة ثقافة المستعمَر .
أما الدوافع غير المعلن عنها فكانت سياسية واقتصادية واستطلاعية. فعندما قادت أوروبا الدوافع الاستعمارية، عملت هذه الجمعيات جنبا إلي جنب مع القوة العسكرية لمعرفتهاالواسعة بالمجال الجغرافي و امتلاك التفاصيل عن السكان الأصليين ̖كما اعتمدت حكومات الدول الاستعمارية علي الطبقة المتخرجة من تلك المؤسسات التعليمية لدعم الاستعمار الأجنبي ضد شعوبهم.
لقد شهد الجنوب التّونسي مثلا قبل وبعد احتلال فرنسا لتونس تدفّق الجغرافيّين والعلماء والعسكريّين واختفى بعضهم تحت غطاء الرحالة. ونتج عن هذا التّدفّق نشر عديد من المؤلفات حول الجنوب وقبائله وعاداتها . فمن مجموع مائة عنوان كتبت حول الجنوب نشر الثّلث قبل 1914. وأنجزت العديد من الدّراسات والمذكّرات التي اهتمّت بالتّاريخ وعلم الاجتماع والهيدروغرافيا والاقتصاد ساعدت القيادة العسكرية الفرنسية أثناء غزو الجنوب التونسي.
ثم برزت المؤسسات الخيرية التي أسسها الرأسماليون في المناطق الصناعية و المناجم بهدف السيطرة علي العمال و الفقراء. فبعد الحرب العالمية الثانية، شكل الشيوعيون الخطر الأول علي الحكومات في أمريكا والعالم الغربي فنشأت الحاجة إلي نوع جديد من المؤسسات لمواجهة هذا الخطر. وقد تسترت هذه الحكومات بالعمل حسب زعمهم علي نشر الخير للجميع و نشر حقوق الإنسان لكن هدفهم كان درء خطر الشيوعية. وقد ساندت المنظمات غير الحكومية مثلا “تشارسكي ” في بولندا كما مولت هذه المنظمات خليفة الحركات التبشيرية صانعي الأفلام ،الفنانين ،الكتاب وقدمت المنح بسخاء للطلبة ومولت الثورات المضادة التي صبغوها بألوان من الأزرق إلي البرتقالي . و نجحت هذه الثورات المضادة في عديد دول أوروبا الشرقية لكنها فشلت في كوبا وبوليفيا.
لقد تزامنت هذه المرحلة مع حركات التحرر الوطني في الوطن العربي و حصول بعض الأقطار علي استقلالها فسارعت دول المركز لتركيز مثل هذه المنظمات وكانت تونس أول بلد عربي يستقبل ” فرق السلام “الأمريكية سنة 1962 التي أسسها جون كينيدي عام 1961 . و قد تواصل عملها طيلة 34 سنة قدم خلالها 2382 أمريكيا لتونس وعادت لنشاطها سنة 2012 بموافقة رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي بعد زيارة رسمية من مديرها أرون وليامس. و تتحرك “فرق السلام”تحت غطاء أنشطة مثل تعليم اللغة الأنڨليزية في المعاهد و الجامعات ، وتنمية مهارات الشباب لتعزيز سوق الشغل الرأسمالي بالتأكيد .
كانت بداية تاريخ إحلال المنظمات غير الحكومية محل الجمعيات التبشيرية في أوائل القرن العشرين إذ برزت عشرات الآلاف من المنظمات غير الحكومية العاملة في كل أنحاء العالم في كامل مجالات الحياة تبشر بالديمقراطية و المساواة و الحوكمة الرشيدة .
ولتفادي كل خلط علينا أن نميّز بين المنظمات غير الحكومية من جهة و المنظمات الجماهيرية كالأحزاب و النقابات و اتحادات المرأة والجمعيات من جهة أخرى حيث أنالأولي أتت بمثابة أداة جديدة للعولمة التي هي أعلى مراحل الرأسمالية وسيطرتها علي العالم الثالث وترافقت مع أزمة المديونية ، يكون تمويلها بالأساس أجنبي وبارتباطات أجنبية، أما الثانية فقد نشأت من رحم المجتمع لها تنظيم محلي و أقيمت على أساس طوعي و تمول نفسها عن طريق الاشتراكات و أهدافها نضالية وطنية وقومية لا علاقة لها بالتمويلات الأجنبية حين تكون لها قيادات وطنية.
هذه المنظمات بدأت تظهر بشكلها الحديث زمن ريغان- تاتشر وصعود الإديولوجية النيوليبرالية. فتحولت الأموال التي كانت موجهة لمجابهة الشيوعيةللسيطرة علي الغضب الشعبي حيث ولجت هذه المؤسسات إلى نسيج المجتمعات التي اكتوت بلهيب الرأسمالية المتوحشة لتخفي ذالك الوجه القبيح للمركز. وزاد تكاثر هذه المنظمات الممولة من الحكومة الأمريكيةو كانت امتداد لها ولسياستها في الدول النامية/ أوروبا الشرقية.
وكان دورها غرس ثقافة التبعية وترسيخ الرأسمالية و بالتالي الهيمنة وطمس الأضرار التي لحقت بطبقات الشعبية اثر النيولبرالية والخصخصة والإصلاحات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والتنظير لبناء أسس جديدة كبديل للحكومات المحلية المستبدة.
واصطبغت بسعي متواصل لتجنب التطرق إلي الامبريالية والاحتلال والاستغلال وإفراغ كل حراك من محتواه الطبقي و تجريم العنف الثوري. فهذه المنظمات معارضة وفق قوانينها الداخلية لآي عنف في السياسة حتى ولو كان عنف يمارس ضد الاحتلال.
لقد تمّ ربط السكان المحليين بمنظومة الاستغلال والحلول دون انخراطهم في الأحزاب والنقابات بحجة أن زمن الأحزاب والإديولوجيات قد ولى مع الحيلولة لإلغاء مفاهيم مثل إعادة توزيع الثروة .
وتشجع دول المركز و تمول المنظمات غير الحكومية في البلدان الفقيرة لعرقلة أي تطور للعمل النقابي والحزبي الذي يدافع عن الطبقات العاملة والفقيرة فما المنظمات غير الحكومية إلا أدوات لخدمة مصالح الامبريالية و الدليل على ذلكأن دول المركز و صندوق النقد الدولي تعاملها بسخاء كبير فهي منظمات لا تهدد مصالحها نظرا لطبيعتها المشتتة و المبعثرة في العالم وعدد المنتمين إلي كل منظمة محدود بالمقارنة مع الأحزاب والنقابات ذات الأعداد الهائلة من المنخرطين والتجمعات العمالية. فهم ليسوا حزبا ولا طبقة ولا نقابة أماالحزب فهو قوة تنظيم اجتماعية وسياسية يمثل طبقة معينة أو مجموعة طبقات يتبني ويعلن برنامجه الذي يعبر عن مصلحة هذه الطبقات ومصالح الشعب بأسره. وتسعى هذه المنظمات لطمس كل عمل حزبي أو نقابي خاصة في الأوساط الشبابية فهي بالضرورة تتمتع بطاقات ثورية كبيرة مناهضة و معادية للاستعمار و الامبريالية ومعقل لانتشار الأفكار الثورية اليسارية. و تنشط هذه الجمعيات غير الحكومية لإحلال إديولجيتها و مبادئها مثل الفردانية و السعي للخلاص الفردي دون إبداءأي اهتمام لبقية الشعب والتنكر للطبقة التي انحدروا منها و بالتالي الأمة. وتروج هذه المنظمات لأفكار مثل نهاية الإديولوجية و نهاية دور الحزب والنقابة لأنها قوى تتمتع بزخم شعبي وتاريخيا وقفت أمام الامبريالية وهددت مصالحها مقابل تشجيع العمل الجمعياتي و الحقوقي علي حساب النضال السياسي و الطبقي.
وتتعامل هذه المنظمات مع” فئة ” تتكون من باحثين و مناضلين سابقين ونقابيين تمت رشوتهم عن طريق الندوات و السفرات و المنح سعت الامبريالية إلي تحويلهم إلي نشطاء بأجر وتحويل المناضل إلى ناشط. كما ورثت هذه الفئة امتيازات المبشرين من حيث الامتيازات الشخصية كالارتقاء في السلم الاجتماعي مهمتهم الأولى غرس الثقافة الليبرالية والديمقراطية السياسية ونشر التطبيع مع الكيان الصهيوني والتنظيرلنمط مجتمعي معين يتماهى مع الرأسمالية.
تنشط في تونس حاليا 23599 جمعية في جميعم جالات الحياة ̖.وتعاظم نشاط الجمعيات الألمانية بعد 2011 تحت عنوان مثل “دعم الديمقراطية الفتية في تونس ” وإصلاح السياسات التشريعات تنمية القدرات، التحول الديمقراطي وخلق المناخ السياسي والثقافي الداعم للديمقراطية وحقوقالإنسان. ومولت الحكومة الألمانية مشاريع تقترحها وتنفذها جمعيات تونسية وذلك في إطار صناديق الدعم المباشر التي تضعها السفارة لفائدة المجتمع المدني التونسي وهي صناديق “التنمية للجميع” و”الثقافة للجميع” و”الديمقراطية للجميع” حيث مولت أكثرمن 74 مشروعًا و74 جمعية تمتعت بحوالي 950 ألف يورو بين عامي 2016 و 2019 كجزء من تمويل التصندوق يالثقافة للجميع والديمقراطية للجميع وشملت المشاريع المنفذة 22 ولاية و132 بلدية .
كما تضطلع هذه الفئة بدور ٱخر يتمثل في تخزين المعلومات والمعطيات حول شعوبها “المخبرالمحلي” لتزود بها دول المركز. فلم تعد الامبريالية بحاجة لإرسال مبشرين ليلعبوا هذا الدور التجسسي. و يكون عمل هذه الجمعيات تحت غطاء إنساني لتتمكن من الولوج إلي أماكن تخضع للحروب و المجاعات يستعصى الوصول إليها في شكل “منظمات طبية”و”منظمات إغاثة” تتكون أساسامن سكان الدولة المستهدفة المحليين .. فتحت هذا الغطاء الإنساني تقتحم دول تحت الاحتلال ” فلسطين ، العراق ، لبنان ، السودان، نيجيريا باختصار في كل مكان محتل أو تدور فيه حروب بالوكالة .
بقي أن نشير إلي أن هذه المنظمات لا تمتلك استقلالية القرار. فهي تأتمر بأوامر المركز الامبريالي و أمام الانبهار الناتج عن كل ما يأتينا من المركز و الحوافز المادية تستقطب تلك المنظمات الشباب خاصّة للعمل ضد مصالح مجتمعاتهم أو طبقتهم التي انحدروا منها . ولا يشارك الناشطون صلب هذه المنظمات ولا الدول المستقبلة في البرامج المقترحة ولا طريقة الإنجاز بل تقتصر مهمتهم أساسا على تنفيذ المشاريع المعدة سلفا مستغلة قدراتهم و مهاراتهم .
إن الممولين لهذه للمنظمات امتداد للأنظمة الاستعمارية التي نهبت ثرواتنا ونصبوا وكلائهم حكاما مؤسسين بذلك لاستعمار جديد.
إنّ المندفعين للنشاط صلب هذه المنظمات لم يتسرب إلي أذهانهم التساؤل التالي ولو مرة واحدة: هل من مصلحة الامبريالية تركيز هذه القيم في مجتمعاتنا ؟ و ما هو سبب سخاء هؤلاء “الطيبين” الذين يتوافدون علي مجتمعاتنا لمساعدتنا علي تحمل الفقر والاحتلال؟
كنعان