أبو الفداء فارس غلوب – نضال حمد
في مدرسة الكادر الجبهوي ببلدة شملان الجبلية اللبنانية تعرفت عن قرب على الراحل فارس غلوب – أبو الفداء – حيث كنت مع أصدقاء ورفاق آخرين منضويين في دورة تثقيفية لاعداد الكادر الشاب في تلك الحقبة من التجربة الفلسطينية بحلوها وبمرها. في تلك الدورة كان أبو الفداء فارس غلوب من المحاضرين في الندوة. كان كذلك من الأشخاص المثقفين والذين يعملون بصمت ودونما إدعاء أو ضجيج. ارتحت له وأحببت الاستماع لحديثه الشيّق عن أمور كثيرة منوعة ومتعددة، فقد كان إنساناً على ثقافة عالية ودراية بالسياسة والاعلام والأمن والأدب والثقافة والحياة بشكل عام. لم يحدث أنني في يوم من الأيام سألته أين ولد. لكنني عرفت فيما بعد من الأصدقاء أنه ولد في مدينة القدس عاصمة فلسطين الأبدية. فهو ابن الجنرال البريطاني غلوب باشا. نعم غلوب باشا الانجليزي ما غيره، القائد العام للجيش الملكي الاردني. غلوب باشا الذي ساهم في دمارنا وخراب بيوتنا وتسليم أرضنا ووطننا للصهاينة المجرمين. فهو ممثل بريطانيا عسكرياً. وكان ينفذ مخططاتها بأمانة أي عسكري كان في ذلك الوقت يخدم سياسات التاج البريطاني اللعين. لكن الكثير من الضباط والجنود الأردنيين قاتلوا قتال الأبطال دفاعاً عن فلسطين. بعكس ما كان يريد تاج بلد غلوب باشا.
ولد أبو الفداء – فارس غلوب سنة 1939 في القدس العربية الفلسطينية وحرص دائماً على أن يعرف نفسه بأنه فلسطيني. كان ينزعج من الرفاق والأشخاص الذين يسألونه عن والده غلوب باشا، ويطلب منهم عدم سؤاله عن ذلك وعن والده بالذات. ربما لما للأخير من تاريخ سيء ومساهمة فعالة في خدمة التاج البريطاني، وضياع واحتلال فلسطين من قبل الصهاينة، المدعومين بريطانياً. يقال أنه رفض المشاركة في جنازة والده لأن الأخير مات وهو يرفض الاعتذار للشعب الفلسطيني عن جرائم بريطانيا في فلسطين المحتلة ودورها في تسليم فلسطين للحركة الصهيونية.
بحسب ما سمعت فأن فارس كلوب اعتنق الاسلام مبكراً.ودرس في سويسرا وبريطانيا وتظاهر تضامناً مع الجزائر وضد الاستعمار. لقد كان فارس غلوب مشبعاً بالانتماء لفلسطين، كان فلسطينياً بقوة فألتزم بالقضية الفلسطينية وقرر النضال من أجل تحرير الوطن المحتل، لذا التحق فيما بعد بجبهة التحرير الفلسطينية بقيادة الامين العام طلعت يعقوب. إلتزم فارس غلوب بالجبهة ونادى مثلها بالعمل الثوري وبمعاداة كافة الانظمة الرجعية العربية والامبريالية العالمية والحركة الصهيونية. مارس الكفاح المسلح ورفع شعارات حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد وتحرير الأرض والانسان. كما عمل بجد من أجل تحقيق ذلك. مارس مهاماً عديدة داخل وخارج الوطن العربي. وساهم في مهمات خاصة منها بناء الوحدة الجوية الخاصة لجبهة التحرير الفلسطينية، وحدة المناطيد والطيران الشراعي. فكانت أول وحدة جوية شراعية – منطادية فلسطينية نفذت أولى العمليات الجوية الفلسطينية في الجليل الفلسطيني المحتل انطلاقاً من جنوب لبنان في سنتي 1980 و1981.
كان أبا الفداء غلوب وهذا اسمه الحركي، يلقي المحاضرات في دورات الكادر الجبهاوي. محاضرات عن الأمن الثوري. ذات مرة توجهت الى غرفته في المدرسة للحديث معه وسؤاله عن أشياء وردت في محاضرته. فوجدته منشغلاً بتسخين المياه في حوض الحمام –البانيو- لفت انتباهي أنه وضع قطعة معدنية موصولة بشريط كهربائي في الجدار، داخل حوض المياه أي البانيو. يومها لأول مرة في حياتي كنت أرى مثل تلك القطعة المعدنية التي تقوم بتسخين المياه. فيما بعد عرفتها عن قرب واستخدمتها لغلي المياه وتسخينها خلال إقامتي في أوروبا الشرقية.
أذكر أنني سألته يومها عن تلك القطعة المعدنية الغريبة فقال لي إنها مصنوعة خصيصاً لتسخين المياه.. وكعادته أسهب وهو يشرح لي عنها مثل قوله نستخدمها لتسخين المياه للاستحمام، لصنع الشاي والقهوة وللطبيخ وكذلك لغسيل اليدين والوجه وتنظيف الأسنان والحلاقة والخ.
عندما أخذت أسأله عن الأشياء التي وردت في محاضرته، قام بإدارة أسطوانة موسيقية بصوت هادئ غير مزعج وتابع الحديث. سألته لماذا إدارة الموسيقى ما دمنا نتحدث. فأجابني إنه نوع من الوقاية الأمنية، كي لا يستمع لحديثنا أحد ما يمكن أنه يتنصت علينا. هذا كان درس أمني إضافي تعلمته من الرفيق فارس غلوب، أنا الشاب الصغير، ابن ال 18 عاماً فقط لا غير.
بعد تجربة شملان التقيت مرات عديدة في بيروت الغربية بالرفيق فارس غلوب – أبو الفداء- وأتذكره اثناء حصار بيروت حيث كان يعمل في اعلام الجبهة وفي جريدة القاعدة اليومية ومجلة الأفق الأسبوعية. بالاضافة لعمله في مجلات فلسطينية اخرى في قبرص ومنها الأفق. كما أنه اشتهر باستخدام “موتورسيكل” دراجة نارية في تحركاته. كانت وسيلة ممتازة للتحرك في بيروت بحرية أكبر من التحرك بالسيارة. خاصة في عجقة السير البيروتية الخانقة قبل الحصار وفي خضم القصف المتواصل وتحليق الطائرات في السماء البيروتية طوال أيام الحصار. أذكر أنه كان يقود دراجته النارية وعلى رأسه خوذة وقاية خاصة بسائقي الدراجات النارية. كان يذهب الى مقرات الاعلام ومراكز تجمع الاعلاميين والصحافيين العرب والأجانب لإحضار الصحافيين الأجانب بالذات لمقابلة الرفيق طلعت يعقوب. ذات مرة حضر تحت القصف العنيف على دراجته ومعه صحفي ياباني، قام الأخير باجراء مقابلة مع الرفيق الأمين العام أبو يعقوب.
في اثناء الحصار سأله الرفيق والصديق عبد القادر السيد عما إذا كان فعلاً أنه ابن غلوب باشا. فكان رده مهذباً على عبد القادر وقال له رفيق عبد القادر: لا تسألني أبداً عن ذلك. أنا ولدت في القدس وأنا فلسطيني. وفي يوم من أيام حصار بيروت سألته إحدى الصحافيات:
“أنت بريطاني، فلما تحمل السلاح وتقاتل دفاعاً عن بيروت وعن الفلسطينيين؟
جاء رده حاسماً: أنا فلسطيني ومن مواليد مدينة القدس، عاصمة فلسطين.. كما أن جذوري تعود الى إيرلندا ولكن دمي ولحمي فلسطيني”. وهكذا كان بالفعل والقول.
لم ألتق بأبي الفداء غلوب منذ النصف الثاني من سنوات الثمانينيات من القرن الفائت. أعتقد أنني إلتقيت به للمرة الأخيرة في تونس سنة 1984 أو 1985. كنا يومها في زيارة المجموعة التي للأسف إنشقت عن الجبهة وقائدها التاريخي الأمين العام طلعت يعقوب (1944-1988) وتبعت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية. علمت في وقت لاحق من بعض المعارف المشتركين، أنه تم تعيينه موظفاً ديبلوماسياً في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بروكسل ببلجيكا. لست متأكداً من هذه المعلومة. كما عرفت أنه عمل مستشاراً لوكالة الأنباء الكويتية كونا. حيث كانت النهاية إذ توفي في حادث سير أثناء خروجه من مكتب وكالة كونا في الكويت ودفن في مقبرة سحاب في عمان. له مؤلفات عديدة أذكر منها “نجمة داوود والصليب المعقوف”. سمعت عن هذا الكتاب لكنني لغاية اليوم لم أره ولم أطالعه. كذلك “نجوم في سماء فلسطين “1978 و”الصيهونية هل هي عنصرية “1975 و”القضية الفلسطينية والقانون الدولي 1970”.
جاء في صحيفة الرأي الكويتية عدد التاسع من ديسمبر -كانون الثاني 2013 في تقرير طويل عن فارس غلوب، لم تذكر الصحيفة أي كلمة عن انتماء فارس لجبهة التحرير الفلسطينية ودوره في المقاومة الفلسطينية. جاء “أن رئيس وزراء “اسرائيل” السابق شامير رفع قضية ضد غلوب وكتابه، وحاول منع نشر الكتاب وفعلاً تم منعه أن ينشر باللغة الانكليزية لكن فارس غلوب نشره بعد ذلك باللغة العربية وذكر فيه من الحقائق التي اتفق اليهود مع هتلر على قتل العجّز وعددهم 600 شخص عديمي الفائدة ثم ادعى اليهود أن هتلر قتل وأحرق 6 ملايين يهودي”.
الآن وفي هذا اليوم وبعد أكثر من أربعين عاماً على تعرفي في بيروت على المناضل الأممي الفلسطيني فارس غلوب وبغض النظر عن النهاية الجبهوية التي اختارها أبو الفداء، والتي فرقتنا في سنة 1984. أي سنتين بعد حصار بيروت 1982. وبعد 17 عاماً على وفاته في الكويت. استطيع القول أنه كان مناضلاً أممياً، ملتزماً بفلسطين ورجلاً مثقفاً وصريحاً.
السلام والخلود لروحك يا فارس غلوب المقدسي الفلسطيني ذو الجذور الايرلندية.
نضال حمد
18-2-2021