طارق البشرى المكانة والحصار والقصف – محمد سيف الدولة
المكانة: فى الايام القليلة الماضية التى أعقبت رحيل المستشار طارق البشرى، انبرى العديد من كبار الكتاب والمفكرين ومن تلاميذه وقرائه للتعبير عن حزنهم وألمهم الشديد لفراقه، مع حرص كل منهم على ذكر ما لمسه بنفسه من سمات وخصائص نادرة ومميزة للراحل الجليل، كقاض مستقل وعادل ونزيه، وفقيه قانونى ودستورى من الوزن الثقيل، ومفكر وطنى واسلامى مستنير، ومؤرخ مدقق واسع الاطلاع، ومناضل صلب وانسان مستقيم ومتواضع وخلوق. ولقد تكرر بين هذه الكتابات وصفه “بالمدقق والمحقق والمنصف والنزيه”، وكلها اوصاف صحيحة تماما، يرصدها من اول وهلة كل من تواصل مع المستشار البشرى فكريا او انسانيا.
والتدقيق والانصاف والنزاهة اذا أضيفت للعلم والمعرفة، هى صفات فى غاية الاهمية تضفى على أفكار وآراء ومواقف صاحبها درجة عالية من الصحة والمصداقية والموضوعية، تجعل منه مرجعا مؤتمنا موثوقا به فى مجتمعه ووطنه وأمته، يلجأ اليه الناس لتستفتيه وتحتكم اليه فيما هو دائر من قضايا وخلافات حين تختلط عليها الأمور وتضطرب الرؤى، بالذات فى اوقات الازمات والانقسامات والفتن والصراعات.
ولقد كان “البشرى” بحق واحدا من اهم المرجعيات الوطنية والقانونية والتاريخية التى تثق قطاعات واسعة من التيارات الفكرية المختلفة فى أمانته ونزاهته فتلجأ اليه لتستشيره فى العديد من الامور.
واذا كان لكل تيار مرجعياته وشيوخه ومفكريه، الا أن هناك قلة من المفكرين تجد كتاباتهم فى “مسألة او مسائل بعينها” تمثل مرجعا مشتركا لدى كل التيارات الفكرية والسياسية فى المجتمع. وهو ما ينطبق على كثير مما كتبه الراحل الكريم عن ثورة 1919 أو الحركة السياسية 1945-1952 أو عن الجماعة الوطنية او دفاعا عن استقلال القضاء والحرية والديمقراطية فى مواجهة الاستبداد والطغيان، وهكذا.
واذا كان لكل امة شيوخها، فلقد كان “طارق البشرى” من ابرز “شيوخ مصر الوطنيين” على امتداد الخمسة عقود الماضية.
ولذلك حين تم اعلان رئاسته للجنة التعديلات الدستورية بعد ثورة يناير، تقبل الجميع هذا الاعلان بقدر كبير من الثقة والارتياح.
اما ما حدث بعد ذلك من انقسام قوى الثورة على الاستفتاء، او ما صرح به المستشار البشرى لاحقا من انه قد شارك فى تحديد واعداد التعديلات الدستورية بشرط ان تكون ضمن حزمة أخرى متكاملة من التشريعات والقوانين الواجبة والمكملة، التى تم تجاهلها والاكتفاء بالتعديلات فقط، فان هذا قد يكون موضوع لحديث آخر، يأتى فى سياق حوار أشمل حول “ثورة يناير من الوحدة الى الانقسام والفشل.”
***
الإنفتاح الفكرى:
وحين نتحدث عن “طارق البشرى” كاحد شيوخ مصر الوطنيين ومرجعياتها، فاننى لا احبذ أبدا التركيز على التحولات والتطورات الفكرية التى مر بها، وانحياز البعض الى توجهاته اليسارية او القومية او الاسلامية على امتداد سنوات عمره، لأننى أتصور أنه استفاد كثيرا من انفتاحه على كل هذه التيارات والمدارس واستطاع ان ينسج منها جميعا سبيكته الفكرية الخاصة والمميزة، التى لم يكن من الممكن ان تخرج لنا بهذا العمق فيما لو كان منبعها مدرسة فكرية واحدة كائنة من كانت. كما ان الانحياز الى مرحلة بعينها سيخرجنا من دائرة المشتركات التى مثلت الهاجس الأهم والأكبر لدى المستشار الجليل، كما انها قد تفتح الباب لتسرب جرثومة الانقسام التى ضربتنا فى السنوات الأخيرة، لتعكير صفو الحوار الدائر اليوم حول انتاجه ومشروعه الفكرى وتوظيف وفاته فيما لا يصح ولا يليق.
***
الحصار والمنع والخسارة المضاعفة:
حين تفقد الامة واحدا من كبار مفكريها، فانها تشعر بخسارة فادحة، خاصة اذا كان من الصعب ان ياتى من يسد الفراغ الذى تركه المفكر الراحل.
ولكن فى حالة المستشار الراحل فان الخسارة مضاعفة؛ فبالفعل كان للرجل ملكات فكرية وبصيرة متميزة، كانت تمكنه حين يتناول اى مسألة، من وضع يديه على جوانب وزوايا جديدة وحقيقية لم يسبقه اليها أحد. وهذا هو ما ساهم فى صنع هذه المكانة المتميزة عند كل من قرأ او استمع له.
ولكن هناك خسارة اضافية فى حالة رحيل “البشرى”؛ فرغم انه كان يعيش بيننا حيا يرزق متمتعا بكامل لياقته الفكرية والذهنية، الا اننا كنا محرومين من آرائه واجتهاداته ولمساته الخاصة والمتميزة فى السنوات الأخيرة، بسبب انه كان ممنوعا من الكتابة والنشر فى اى من الصحف ومن المشاركة فى اى من المنابر الاعلامية والندوات الفكرية.
وهو ما أدى الى حرمان الراى العام المصرى والعربى من اسهاماته المتميزة والكاشفة والمؤثرة فى عديد من القضايا والاحداث الهامة والرئيسية التى حدثت فى مصر والمنطقة والعالم فى السنوات الماضية مثل تيران وصنافير والتعديلات الدستورية واستقلال القضاء وقيود الحياة السياسية والبرلمانية وصفقة القرن والتطبيع الخليجى المغربى السودانى مع (اسرائيل) وبلطجة ترامب وكذلك الانقسام الحاد بين التيارات والقوى السياسية المصرية وغيرها الكثير.
وهو الذى كان له اسهامات متعددة وعميقة فى قضايا مماثلة ومشابهة على امتداد سنوات عطائه الطويلة.
فهى خسارة مضاعفة لا يمكن تعويضها، بالاضافة لما فيها من اهدار لثرواتنا الفكرية كإحدى المكونات الرئيسية للقوى الناعمة المصرية والعربية، خاصة انه لم يكن وحده من الممنوعين، فالقائمة تطول من كتاب ومفكرين وصحفيين من الوزن الثقيل، نفتقد اطلالاتهم ومساهماتهم بشدة، أطال الله فى اعمارهم جميعا.
***
بناء الجسور والقصف:
لقد كانت تربطنى به عليه رحمة الله علاقة وطيدة، قرأت واستمعت له وتحاورت معه وتعلمت منه كثيرا، ولكن هناك مما قاله، ما لا يفارق ذهنى ابدا، وذلك حين تناول الخلافات الدائرة بين تيارات الامة حول الاسلام ومدنية الدولة، وكيف انه اراد التقريب بين وجهات النظر بحكم انفتاحه عليها جميعا، واطلاعه واستيعابه وتقديره لاصولها ومرجعياتها الفكرية فى مراحل متعاقبة من حياته، فحاول مد الجسور بينها والتركيز على المشتركات مع رصد وتذويب الخلافات وحصرها فى اضيق نطاق.
يقول “البشرى” انه كان يتصور ان هذا الدور “من بناء جسور الحوار والتفاهم والتلاقى بين تيارات الأمة” سيكون محل تقدير، ولكنه فوجئ بالعكس تماما، فلقد بدأ منذ ذلك الحين يتعرض للقصف والهجوم الضارى، ليكتشف ان هناك من يحرص ويصر على بقاء هذه الانقسامات، بل يعمل على تعميقها وتغذيتها باستمرار، ويستهدف ضرب وافشال واجهاض اى محاولات للتقارب بين فرقاء الوطن المشترك والأمة الواحدة.
وهى شهادة هامة جدا من مفكر فى مكانة طارق البشرى، تؤكدها مئات الشواهد المماثلة على امتداد السنوات والعقود الماضية، والتى قد يكون هناك ضرورة لتناولها فى أحاديث وحوارات أخرى.
***
ستظل كتب ومؤلفات واسهامات الاستاذ طارق البشري، جزءا اصيلا من تراثنا ومرجعياتنا الفكرية، وأتصور أن أفضل طريقة لتكريمه هى السير على نهجه فى محاولات رأب الصدع وبناء الجسور والبحث عن المشتركات بين تيارات الامة وفرقائها.
القاهرة فى 7 مارس 2021