آبي أحمد وانهيار حلم الإمبراطورية – علي سيّد
التوترات في تيغراي ليست جديدة، فهي موطن 7 ملايين شخص من أصل 122 مليون نسمة؛ عدد سكان إثيوبيا. ويعد أبناء تيغراي ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد بعد أمهرة والأورومو التي يتحدر آبي أحمد منها.
منذ أن أدى آبي أحمد اليمين الدستورية كرئيس للوزراء منذ أكثر من 3 سنوات، بدت سياسته متجهة بقوة نحو تعزيز مكانة بلده الأفريقي الكبير وتدشين مرحلة جديدة من العلاقات مع الجيران، تقوم على احتواء المشاكل المزمنة. بدا هذا جلياً في طيِّ عقدين من الخلاف مع الجارة الإريترية، في ما وُصف بالخطوة التاريخية في القرن الأفريقي.
3 لقاءات جمعته مع ولي عهد الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد خلال 4 أشهر، ولكنَّه اكتشف أطماع الإمارات في القارة الأفريقية، وتحديداً في سواحل القرن الأفريقي، الذي وإن لم تكن إثيوبيا شريكاً في تلك السواحل، إلا أنَّ عمقها وثراء مواردها يبقيانها في صلب اهتمام دولة باحثة عن توسيع النفوذ بأيِّ ثمن أمام المسلمين الإثيوبيين في أميركا. وقد قال منذ 3 سنوات: “لا نحتاج إلى تعلّم الدين من الإمارات، بل نحتاج إلى تعلم اللغة العربية لكي نعلّمهم الدين الإسلامي الصحيح”.
لا شكَّ في أنَّ رئيس الوزراء الإثيوبي عمل منذ تولّيه الحكم على توحيد إثيوبيا وتطويرها لتواكب القرن الواحد والعشرين، وذهب في هذا الأمر إلى أقصى حدود الانفتاح على الشرق والغرب لما فيه مصلحة بلاده.
وبسبب هذا الانفتاح، وخصوصاً باتجاه الصين (60% من الاستثمارات في إثيوبيا)، وقفت الولايات المتحدة في وجهه، وبدأت بإثارة القلائل، وهو الرجل الذي رفض استقبال جيفري فيلتمان، المبعوث الأميركي الخاص إلى القرن الأفريقي، ورفض المقترحات الأميركية للحلّ. وبناء عليه، أعلنت 9 مجموعات إثيوبية معارضة تحت مُسمّى “الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفيدرالية الإثيوبية”. وقد أُقيم حفل التوقيع في واشنطن.
صدق المثل القائل: “مصائب قوم عند قوم فوائد”. هي أحداث ليست عادية بالنسبة إلى مصر، فالجار العنيد بات في ورطة لن يخرج منها بسهولة، وقد تطيحه على الأرجح، وهي تعود بالفائدة على القاهرة هذه المرة، فرجل إثيوبيا الأول بات يلمّ شتات جنوده للدفاع عما تبقى من حكمه، وهو يدعو المواطنين إلى حمل السلاح.
أديس أبابا تحت النار، وقوات ضخمة تزحف نحوها، والسقوط لن يكون بعيداً. هي أزمة ليست ككلّ الأزمات، وقد تغيّر وجه المنطقة الأفريقية كلها.
ما الذي يحدث؟ ومن سيطيح من؟
منذ بداية الشهر الحالي، بدأت العاصفة في إثيوبيا، فالنبأ الأهم هو إعلان قوات تيغراي اتحادها مع قوات أورومو، والهدف هو الزحف نحو العاصمة أديس أبابا. من الواضح أنَّ هذا الإعلان نزل كالصاعقة على رأس آبي أحمد الذي سارع إلى الاستنجاد بشعب العاصمة، طالباً منه حمل السلاح والتصدي لزحف ما أسماهم المتمردين على الدولة، ثم أعلن فرض حالة الطوارئ في عموم البلاد، معلناً بذلك دقّ جرس الحرب والنفير العام.
وفي الوقت ذاته، أعلن التلفزيون الرسمي الإثيوبي أنَّ حكومات 4 أقاليم من أصل 10 في البلاد دعت الإثيوبيين إلى التعبئة العامة، بهدف قتال قوات تيغراي وأورومو.
دعوات آبي أحمد جاءت بعد تقارير مؤكّدة تقول إنَّ مقاتلي تيغراي سيطروا على الكثير من المدن في إقليم أمهرة، بينما تتضارب الأنباء حول الزحف إلى العاصمة. وقد أكّد مقاتلو تيغراي مراراً أنَّ هدفهم الرئيس هو فكّ الحصار على المنطقة الشمالية في البلاد. التقارير المؤكّدة تقول إنَّهم سيطروا على بلدتي ديسي وكمبولتشيا في أمهرة، الواقعتين على بعد 300 كلم عن العاصمة.
حذرت الأمم المتحدة من تصاعد الحرب في عموم البلاد، وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: “إن الوضع دق ناقوس الخطر في إثيوبيا، واستمرار القتال لن يطيل إلا عمر الأزمة الإنسانية التي يعانيها القسم الشمالي تحديداً من البلاد”.
لماذا وصلت الأوضاع إلى هنا؟
التوترات في تيغراي ليست جديدة، فهي موطن 7 ملايين شخص من أصل 122 مليون نسمة؛ عدد سكان إثيوبيا. ويعد أبناء تيغراي ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد بعد أمهرة والأورومو التي يتحدر آبي أحمد منها.
تنقسم إثيوبيا إلى 10 ولايات إقليمية على أسس عرقية، تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد كبير، ولكن مع مؤسَّسات مركزية، ومع عداء شديد للحكومة المركزية في هذه المنطقة التي عانت خلال الفترة الطويلة من الحكم العسكري، ثم الحرب الأهلية التي أعقبت خلع الإمبراطور الإثيوبي الأخير هيلا سيلاسي عبر انقلاب عسكري في العام 1974.
كانت تيغراي بؤرة المجاعة بين العامين 1983 و1985، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص، وأكثر من مليوني نازح داخلياً. وبعد عقود من الاستقرار النسبي، اندلع القتال في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 بين قوات من حكومة إقليم تيغراي والحكومة الفيدرالية، وذلك بعد سنوات من الوفاق والعمل المشترك بين الطرفين.
سابقاً، كانت جبهة تحرير شعب تيغراي شبه العسكرية جزءاً من التحالف الذي أطاح الحكومة في العام 1991، وظلت الجبهة قوة مؤثرة في السياسة الإثيوبية حتى العام 2019، إذ شكل رئيس الوزراء الحائز على جائزة نوبل للسلام، آبي أحمد، ائتلافاً جديداً رفضت جبهة تحرير شعب تيغراي أن تكون جزءاً منه.
ظلَّت المجموعة في السلطة في تيغراي حتى أيلول/سبتمبر 2020 الماضي، وتحدَّت حكومة آبي أحمد بإجراء انتخابات، على الرغم من تأجيلها على الصعيد الوطني بسبب جائحة فيروس كورونا. بعد شهرين من ذلك، شنَّت قوات الجبهة هجوماً على قاعدة محلية للجيش الإثيوبي. ورداً على ذلك، شنَّت الحكومة الفيدرالية هجوماً عسكرياً كبيراً على تيغراي.
تصاعد التوتر بعد شهور من الخلاف بين الطرفين. وقد صنفت الحكومة الفيدرالية لاحقاً جبهة تحرير شعب تيغراي تنظيماً إرهابياً، واستبعدتها من أيِّ مفاوضات للسّلام معها. وفي الوقت ذاته، لم تتمكَّن الحكومة الاتحاديّة من وقف التقدم والسيطرة على المزيد من البلدات، على الرغم من عملياتها العسكرية المتجددة، بما فيها الغارات الجوية.
واليوم، تدقّ أزمة تيغراي ناقوس الخطر، وخصوصاً بعد تحالفها مع قوات أورومو، وهي القوات التي تعود إلى خلفية عرقية، إذ تتركز في أوروميا في وسط إثيوبيا، ويشكل أفرادها نحو 34% من عدد سكان إثيوبيا، ويتحدثون اللغة الأورومية، ويعملون بالزراعة والرعي، ويُعتبرون أكبر جماعة عرقية في إثيوبيا، ويشكون منذ زمن طويل من تعرضهم للتهميش.
ورغم مشاركتهم في الانقلاب على حكومة مونغستو في العام 1991، ثم دخولهم في حكم البلاد، فإنَّ الأوضاع تأزمت بينهم وبين الحكومة من جديد، إذ اندلعت احتجاجات واسعة ضد الحكومة في العام 2015 بسبب نزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية الأورومو والحكومة حول ملكية بعض الأراضي، ولكن رقعة التظاهرات اتَّسعت لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف، وأجبرت الائتلاف الحاكم في نهاية المطاف على استبدال رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين بآبي أحمد الذي ينتمي إلى عرقية الأورومو في نيسان/أبريل 2018.
ولكن بعد مقتل مغني الأورومو (هاتشالو هونديسا) في تموز/يوليو 2020، توترت الأوضاع مرة أخرى، وقُتل أكثر من 150 شخصاً في أعمال شغب، وتعرَّض ما يزيد على 10 آلاف شخص للقمع والسجن، ليظهر جيش تحرير أورومو من جديد، ويعلن الحرب على الرجل المتحدّر منهم، وذلك بسبب ميله إلى عرقية الأمهرة (كما يتّهمونه، بحسب قولهم).
أخيراً، يتغيَّر المشهد باتحاد أكبر العرقيات في إثيوبيا، وهي المسألة التي يمكن أن تشجع عرقيات أخرى على الوقوف في وجه الحكومة وقتالها، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ضعف الدولة الإثيوبية أو حتى سقوطها في وجه كلّ تلك الحشود.
وفي سيناريو آخر، قد تؤدي الأزمة إلى حرب أهليَّة بين تحالفات عدة. من الواضح منها الآن أنَّ التيغراي والأورومو سيحاربون الأمهرة، والأيام ستحكي الكثير في الدولة التي شغلت العالم في السنوات الأخيرة، بسبب سدها العملاق الذي هدَّد مصر والسودان. واليوم، قد يتوقف هذا السدّ لوقت طويل، ليعلن انطلاق حرب هي التي ستدمّره، لا صواريخ خارجيّة.