مقهى أبو دياب الحلقة السادسة – إعداد موقع الصفصاف
من حكايات وذكريات مخيم عين الحلوة
كل يوم عند العصر كان الرواد المعروفين يبدئون بالتوافد إلى المقهى. في ذلك الوقت وخاصة عند العصر يكون الحضور عادةً كثيفاً وخاصة من فئة العمال والباعة والموظفين وأصحاب محال الخضره وبائعي الأسماك والعربات المتجولة والخ. يتجمع هؤلاء كلهم حول الطاولات وكؤوس الشاي والقهوة. كل يدلي بدلوه في مجال مهنته وحرفته وصنعته، فيجد رواد المقهى أنفسهم فجأة في جو يتسابق فيه المتحدثون في الحديث عما يتقنونه ويعرفونه وأحياناً عما لا يتقنونه ولا يعرفونه.
مثلا بائعي السمك كانوا يحدثون الحضور عن الصيد والبحر وأنواع الأسماك. طبعاً لا بد عند الحديث عن البحر والأسماك كانت تحضرهم مدن فلسطين الساحلية وبلداتها البحرية. وكانوا اثناء الحديث يعودون بالذاكرة والصورة الى يافا وحيفا وعكا والزيب والبصة وغزة وكل ساحل فلسطين الساحر. هذا الساحل الذي سُرق منهم كما سُرقت كل فلسطين من شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية.
من باعة السمك الذي كانوا يترددون يوميا الى المقهى كان هناك بركات الشعبي وحسن السليمان. فمن هؤلاء عرف صديقنا دياب العلي وأبناء جيله أسماء وأنواع الأسماك مثل الترغلّوس، العقيص (اللبنانيون يسمونه الموسطا)، البلميده (سمك التونا)، الغُبّص، (البوري) وطبعا السردين بمختلف أنواعه وبزرته كما يقول ختايرة بلادنا.
هل هناك منكم من لا يعرف أو لا يحب السردين.. يا سلام على صينية السرطين بالفرن ما أجملها وأشهاها. وعلى السردين المقلي مع الحامض (الليمون) والحدّ (الفلفل الحار).. أنا شخصياً أحب السردين حباً جماً. يزداد حبي له عندما يأتينا من فلسطين، من جنوب الجنوب الى شمال الشمال، يعني من عكا وحيفا ويافا الى صور وصيدا في لبنان.
كل أهل المخيم أصبحوا يعرفون أنواع السردين وسمك التونة أي البلميده، التي غدت من أكلاتهم المفضلة. بنفس الوقت كانت رخيصة الثمن وأسعارها تناسب أوضاع سكان المخيم من الناحية المالية. فأهل المخيم لم يكن بوسعهم شراء أسماك مثل السلطان ابراهيم والزبيدي لارتفاع سعرها. في هذا الخصوص يقول دياب العلي “كُنا نسمع عنهما أو نراهما في السينما”. هذا صحيح في البدايات لكن فيما بعد تحسنت الأمور وصرنا نعرفهما ونشتريهما وجربنا مذاقهما اللذيذ، مع أنني أفضل العقيص والسردين والبلميدة عليهم.
أما فيما يخص تجار الخضار في المخيم فكانوا يتوجهون فجراً الى حسبة صيدا كي يحصلوا على خضار وفاكه بأسعار معقوله.عادة ما كان سوق الخضرة بالمخيم يعج بالمشترين من أهل المخيم و من سكان المناطق اللبنانية المجاورة للمخيم كقرية درب السيم مثلا وسكان التعمير والفيلات وسيروب والخ. حتى الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون خارج المخيم بعد رحيلهم من هناك، كانوا يأتون الى المخيم كل يوم للتبضع من سوقه الشهير. لازال بعضهم يحرص على ذلك حتى يومنا هذا بالرغم من الأجواء الصعبة والمعقدة في المخيم. كل هؤلاء كانوا يأتون لجودة ورخص الخضار والفاكهة وكل شيء تقريباً وطبعاً حنينهم الى المخيم كان يأتي بهم كل يوم.
التجار الذين كانوا يتوجهون عند الفجر الى صيدا وحسبتها كانوا يحملون بضاعتهم من حسبة صيدا على طنبر (عربة يجرها حصان أو بغل) وأشهرها عربات أبو سميح حمامي (غزة)، أبو صالح الناطور(السميرية)، أبو محمود الجدع (غزة) وأحمد العوض (عرب زبيد)، أما علي عمارة الطنبرجي (المجيدل) فكان متخصصا ببيع الثلج، حيث يجلبه من صيدا ويبيعه للمقاهي والدكاكين في المخيم. في بعض المرات كنا نذهب نشتري الثلج للاستخدام المنزلي.
عند العصر يبدأ أيضاً توافد وظهور الباعة المتجولون خاصة باعة الحلويات والسكاكر مثل ملك الهريسة و الشعيبيه والصفوف والنمورة السيد أبو عثمان. أبو عثمان رحمه الله من مدينة عكا في فلسطين المحتلة، كان مشهوراً بأبي عصمان بين عامة الناس وجيلي من الأطفال والفتية. لم يكن في ذلك الوقت في المنطقة كلها من يصنع النمورة والهريسة أفضل منه.
كذلك كان يأتي أبو ابراهيم بائع البوظه العربية وهو أيضاً عكاوي من مدينة (عكا)… ويلحق بهم الحيفاوي ابن مدينة حيفا (حسام) بائع السمسمية اللذيذة والشهيّة. يتبعهم الحاج الشرعان صانع القطايف التي لم يكن هناك قطايف أطيب منها في المخيم. جميع هؤلاء كان لا بد أن يتوقفوا أمام المقهى أو أن يجلسوا في داخله لبعض الوقت. كان الناس يتجمعون حولهم كي يشترون حلوياتهم. كذلك كان رواد المقهى يشترون حلوياتهم من هؤلاء الباعة المشهورين في مخيمنا.
من رواد المقهى الذين حصلنا على بعض أسماءهم من الأصدقاء كان هناك:
الأستاذ خالد الحسن – أبو عماد – أبو أحمد الحاج الملقب بأبي أحمد السبع، وهو أحد الوجوه البارزة في المخيم حيث كان سبعاً هماماً ورجلاً شجاعاً. كذلك الأستاذ فتحي الخطيب الذي أعتقل أيضاً بسبب انتسابه للقوميين السوريين في لبنان. من رواد المقهى كذلك ابراهيم خطاب والد صديقي احمد خطاب. كذلك اخوة العم ابراهيم خطاب. أيضاً ابراهيم العنتر ومحمد توفيق زيدان ومصطفى الإبراهيم وأخيه أحمد الإبراهيم.
كنا ذكرنا مراراً وتكراراً في حلقات سابقة العم المرحوم دياب الصقر. بمناسبة الحديث عنه في الحلقات السابقة، علق صديقنا م الآغا فقال””عن العم دياب، رحمه الله.. قيل عنه قولته المأثورة لبعض الزبائن وباللهجة البدوية: جهوة، شاي نْدَيِّنْ!! آزوزة مو نْدَيِّنْ.”. يعني نبيع شاي وقهوة بالدين بس الكازوز لا نبيعه بالدين.!.
كان المقهى مقابل المخفر ويطل مباشرة على طول سوق الخضار. كان المقهى مركزاً لرواده من أهل الفكر والسياسة والعلم والثقافة ومن العمال والمزارعين والكادحين. وفي هذا الصدد يقول صديقنا ياسين م: “أذكره جيداً فقد كان مقراً لأهل الفكر والثقافة”. فيما أضاف الفنان عيسى العلي أن العم المرحوم المناضل أبو ذياب ساهم عبر مقهاه الشعبي وأيضاً النخبوي: “في تخريج الكثير من القادة والكوادر والشهداء وعلى رأسهم الشهيد أبو ذياب نفسه.. وبكل فخر واعتزاز كان المقهى المذكور مدرسة لا بل جامعة للوطنيين”.
كان من رواد المقهى أيضاً مروان عطية شقيق الشهيد علي جميل عطية وهو من الفدائيين الأوائل وكذلك صديقه خالد أبو الوليد من بلدة صفورية. هؤلاء الأبطال ساروا على خطى الرمز الشهيد القائد المناضل جلال كعوش “أبو فاروق” الذي سبق وسجن عام 1957 لقيامه بنسف السفارة الفرنسية في بيروت انتقاماً للجرائم الفرنسية ضد المدنيين في الجزائر. بعد استشهاد جلال كعوش قام مخيم اليرموك قرب دمشق بتكريمه عبر تسمية شارع من أهم الشوارع الرئيسية في المخيم بإسمه.
إعداد نضال حمد وموقع الصفصاف
يتبع
25-11-2021