ياأهلنا في مخيم الدهيشة: نحن ندفع بعدونا إلى اليأس – رشاد أبوشاور
لعلّ سيرة مخيّم الدهيشة تختصر سير كل المخيمات الفلسطينية، جوعا، وفقرا، وعريا وإحباطا، وصبرا..ومعجزة بقاء ومقاومة مستمرة حتى يومنا هذا..وحتى يوم لا تعود فيه مخيمات، وأشباه مخيمات، يكابد الفلسطينيون اللاجئون تحتها بؤس العيش ونكده، و وهم يتسلحون بأمل العودة الذي يلهمهم ويشحذ هممهم، ويزيدهم مضاءً وقدرة على التحمّل.
تحت خيام الدهيشة تعلمنا حروف لغتنا العربية الأولى، ومنها تجلّت كلمات حفّظنا إيّاها أساتذتنا الأوائل، والذين ما زلت أذكر منهم: محمود الخطيب، سليمان مزهر، نمر العطابي، أحمد العجوري..وأستاذ كان يحضر من بيت لحم راكضا، ويلّح علينا أن نركض باستمرار، وقد ركض جيلي، وما زال الأحياء منه يواصلون الركض، وهدفهم تحدد منذ تلك الأيّام: تحرير فلسطين.
شرقي المخيم نُصبت خيام واسعة ذات أعمدة ترفع أطرافها، وفي منتصف كل واحدة منها ارتفع عمود يرفعها من منتصفها عاليا، وقيل لنا: هذه مدارسكم، وهنا ستتعلمون ..ومن هناك بدأت رحلة تعليمنا.
طلب منّا أحد أساتذتنا أن نجلب حجارة لنجلس عليها، وقد فعلنا، وقرفصنا على الحجارة الموحلة، وانغرست أقدامنا الحافية في الوحل، وجرى الماء الطيني من فوق أقدامنا، ورددنا الأحرف الأولى ونحن نرتجف، وبطوننا خاوية، وأبداننا شبه عارية.
لا أعرف كيف عشنا في تلك الأيّام، ولكننا عشنا، بدليل أنني أحكي معكم، و..أنتم هناك في الدهيشة جعلتم من مخيمكم، مخيم طفولتنا الفلسطينية الشقية: علما..وعلامة. وملأ حضور الدهيشة أسماع العالم وهو يرفع راية الانتفاضة متجاوبا مع مخيمات غزة، وكل مخيمات الضفة الفلسطينية، ومخيمات الشتات من اليرموك حتى صبرا وشاتيلا…
ذات يوم دخل أحد أساتذتنا ووقف أمامنا، وكنّا وما زلنا نجلس على الحجارة، وأقدامنا تغوص في الوحل، والماء يجري من تحت أطراف الخيمة، وتأمل رؤوسنا ووجوهنا، وسأل:
-أتعرفون لماذا يضع الحرذون عودا يابسا بالعرض في فمه؟
لم نكن نعرف، وإن كنا نرى حراذين كثيرة تلعب على الصخور المقابلة للمخيم، والممتدة حتى تخوم بيت لحم. هنا أتوقف وأسال: أما زالت تلك الصخور مغروسة في الأرض، أم تراها أُزيلت وبنيت بدلا منها فيلل وبيوت؟!
كنا نغني للحراذين:
صلّي صلاتك يا حرذون
أمك ماتت في الطابون
لأننا كنا نعتقد أن الحراذين، وهي عادة تهز رؤوسها بأنها تصلّي، وكنا نجهل أسباب عضها على أعواد تبدو يابسة وصلبة بالعرض، وهي تركض مسرعة، وتتلفت طيلة الوقت حولها والأعواد في أفواهها.
قال أستاذنا:
-الأفاعي يا أبنائي تتهدد الحراذين دائما بالابتلاع، والحراذين تواجه الأفاعي وتحرمها من ابتلاعها بهذا العود الذي تعض عليه، لأن الأفعى عندما تفتح فمها وتهم بابتلاع الحرذون من رأسه وإلحاقه بباقي جسده..تعجز عن تنفيذ خطتها بسبب هذا العود الذي يتعرّض لفمها الواسع..وهكذا تنسحب الأفعى بعد محاولات كثيرة لأنها تيأس..نعم تيأس!
هكذا علمنا ذلك الأستاذ الذي نسيت اسمه أن الحرذون الضعيف البارع الذكي..مقاوم- اكتشفنا هذا المعنى المضمر ونحن نكبر- وأنه يهزم مخططات الأفعى بكل سمها، وقوّة شدقيها، ودهائها، وأنه يدفع بها لليأس أمام عناده..ومقاومته التي لا تتوقف، ولا تستسلم.
نعم: في الدهيشة لقننا أساتذتنا حروف اللغة العربية، والحساب، و..التعلّم من الحرذون كيف ننتصر على الأفعى! تلك كانت حكاية عاشت معي حتى يومنا هذا، وهي حكاية بليغة لا يمكن أن تُنسى.
لقد رأينا بين تلك الصخور معارك الحراذين مع الأفاعي، وانسحاب الأفاعي عاجزة يائسة إلى جحورها.
هل هذه قصة أطفال فيها عبرة وتعليم أبدعها أستاذ (دهيشي) قوي الملاحظة، التقطها من ما يحيط بنا، وما نراه أمامنا من صراع الحياة والبقاء في الطبيعة، وبعضها شرير كالأفعى..ومسالم كالحرذون؟
نعم.
أنا تعلمت من تلك الحكاية ما ألهمني، فقد تعلمت في الدهيشة أن أصرخ مع الصارخين الرافضين للعيش تحت الخيام، والإصرار على العودة إلى قرانا ومدننا: روحونا..روحونا…
ما بدنا نعيش تحت الخيام
ثم عرفت أن أحدا لن يروحنا إلى مدننا وقرانا وحقولنا…
في الدهيشة، وفي سنوات قليلة تعلمت الكثير، في سنوات الطفولة الشقيّة، ومن الدهيشة ترحلت إلى مخيمات كثيرة: النويعمة قرب أريحا، اليرموك قرب دمشق، صبرا وشاتيلا المتداخل مع بيروت…
ولأكتب رحلة الشقاء والألم ومواجهة الأفعى عدت إلى البدايات، بدايات تفتح الوعي في مخيم الدهيشة، بجوار بيت لحم، والخضر، وبرك الخضر …
من كروم الخضر شلفت حبات الفاكهة وهي عجراء، ومددت يدي سريعا إلى قطوف مشهية و..طرت عن الأرض وأنا التهمها وهي تتفغص بين أصابعي…وصراخ النواطير، وأصحاب الكروم، يطاردني أنا والدهيشيين الجوعى الصغار: وقّف يا ولد..والأولاد الدهيشيون يركضون..وأستاذنا التلحمي يتردد صوته الناصح لنا: اركضوا..اركضوا…
وأنا، وأبناء وبنات جيلي نركض منذ تلك الأيّام، والأجيال من بعدنا تواصل الركض..والهدف النهائي الذي لن يتغيّر يسدد وجهتنا وخطواتنا: فلسطين.
شعبنا، وأنتم من عناوين بطولاته وتضحياته، يقاوم، ليس بالعض على أعواد في أفواه أبنائه وبناته، بل بإنجاز معجزة الثبات والصبر والمواجهة التي لا تتوقف، وهو يدفع ( بالأفعى)..أفعى الاحتلال إلى اليأس، فمشروع التهامها لفلسطين أرضا، وتسميم شعبها وتدميره وإنهاء حياته يفشل..وكلما اتضح فشله ازداد العدو شراسة وقسوة ولؤما!
أتمنى أن تقرأوا رواية ( الحب..وليالي البوم) لتروا كيف عشنا، وتحملنا، و..كبرنا، وكيف واجه أهلنا قسوة العيش في تلك الأيام.
أيها الأهل: أنا لا ألتقي اليوم بكم لأروّج لنفسي، وأسرد مسيرة حياتي وسيرتي الأدبية والوطنية، ولكنني ألبي دعوتكم التكريمية لأعاهدكم على مواصلة السير إلى الهدف مع شعبنا الذي لا يمكن أن ينكسر، ويستحيل أن يهزمه وحش الاحتلال، ولا بد أن تتكلل مسيرته بالانتصار المُظفّر: تحرير فلسطين.
كتاب وشعراء وفنانو فلسطين أبدعوا الكثير، وهم يواصلون عطاءهم، ومنهم من قدّم روحه ودمه، وأنتم لا تنسون شاعر فلسطين الشهيد عبد الرحيم محمود، والروائي والقاص والفنان والصحفي الكبير الشهيد غسان كنفاني، والفنان الكبير ناجي العلي، والمثقف والمترجم وائل زعيتر، والصحفي الكبير حنا مقبل، والقاص ماجد أبوشرار، والشاعر علي فودة الذي أعطى دمه دفاعا عن بيروت..والقائمة تطول.
أشكر الأخوة والأخوات في الدائرة الثقافية في مؤسسة إبداع ، لاهتمامهم برواية( الحب ..وليالي البوم)، ووصفي بالكاتب( الدهيشي)..وهي صفة تشرفني وتكرّمني.
أشكركم يا كل من تلتقون في قاعة مؤسسة إبداع، ويا كل من تتابعون هذا اللقاء.
وأخص بالشكر الدكتور شبلي العزّة، والأساتذة: أحمد الصيفي، صالح أبولبن، بسّام العكر، وفرقة أوركسترا إبداع، وكل من تابع هذه الاحتفالية، وأسهم في الإعداد لها.
*أُقيمت هذه الاحتفالية عبر تقنية الزوم بين دائرة الثقافة – مؤسسة إبداع في ومخيم الدهيشة منطقة بيت لحم..والروائي رشاد أبوشاور يوم الإثنين الساعة الخامسة مساء، وذلك لإشهار رواية( الحب..وليالي البوم) التي تروي سنوات ما بعد نكبة ال48 وما عاناه من عاشوها في مخيم الدهيشة، والتي صدرت عن منشورات دار الشروق عمّان – رام الله …