سماح إدريس شامة على وجه بيروت – قاسم عز الدين
تتخلّى بيروت عن شامة الحُسن في خدّها الأيسر، فيظهر وجهها الجريح مكفهرّاً كئيباً يفتقد نضارتها برحيل نصير فلسطين، لكن زرع سماح يبرعم في أحيائها الفقيرة ومخيماتها، واعداً باستعادتها نبض الروح.
توطّدت صلتي بسماح في أجواء “حركة الشعب” التي كان رئيسها نجاح واكيم يعبّد رصيفاً مع ثلّة من الأصدقاء والمناضلين على طريق “جبهة الإنقاذ”. أحاديث الخيميائي بين سماح ونجاح لا تتّصل ببنات الشفاه، فمن ورائها نكهة بيروتية تتوارد بأنفاس هوية الانتماء “يا أيّيَ” (يا أخي)، تعبيراً عن صلة الروح بين جنس البشر “الآدمي” الذي بات تحفة تراث نادر.
كلاهما يعاند لإخفاء طيبة داخلية صافية النقاء أشبه ببراءة الأطفال، فيغطيها نجاح بإشعال سيجارة من أختها، ويشيح عنها سماح بهمهمة في غير سياق، لكنّ كلاً منهما يشحذ من الآخر عزيمة تعزّز صلابة لا تلين، إحياء لروح بيروت العروبة التي تنبض شرايينها بقلب فلسطين.
بيروت التي نكبَها أعيان المتموّلين الجدد القادمين من صيدا وطرابلس في تهجير عائلاتها وأهلها إلى الأطراف، لم تثبط همّة سماح (ولا نجاح) في مواجهة إطفاء معالم الإشعاع في بيروت وإغراقها بجراد التصحّر الخليجي لطمس وهج نورها عن المقاومة وفلسطين.
سماح المجبول بالولادة والنشأة في بيت سهيل إدريس وعايدة مطرجي، نمت جبلته مع حليب الرضاعة على ثقافة الزمن العربي الجميل في أوج حركات التحرّر الوطني، فتشبّعت دماؤه شعراً وأدباً وثقافة طفحت بها دار “الآداب” ومجلتها، وتشرّب أمهات الكتب واللغة…
لم يبقَ سماح أسير البكاء على أطلال مرحلة آفلة، كما كان يوحي بنفسه، اعتزازاً وفخراً بإنجازات أبويه في “الآداب”، فشخصية سماح الثقافية قفزت عن أطر الثقافة البلدية نقداً لثقافة مضَت، في سبيل إعادة قراءة الثقافة العربية نحو وقف سيل الانحطاط الفكري الجارف.
أرسى في مسيرته المنقطعة مداميك شخصية المثقف الملتزم الذي يغمس يديه لإحداث التغيير، متأثراً في انفتاحه مع رفيقته – الزوجة “كريستين” على ثقافة الالتزام في جامعة كولومبيا أثناء صعود حركة المناهضة العالمية من “سياتل” (احتلوا وول ستريت – العام 2000) التي نمت في مجراها العالمي قضية دعم فلسطين، ولا سيّما حركة المقاطعة (BDS).
المثقّف المنغمس في إحداث التغيير
سماح المثقّف الملتزم بالقضايا الوطنية الجامعة، وفي صدارتها فلسطين والمقاومة، ملتزم بقضايا حقوق الشعوب الاجتماعية والثقافية والمعيشية والسياسية… كتب وألّف وترجم ونشر، كما أبّنه الكثير من المثقفين والإعلاميين والمحبين، تكريماً لمسيرته النضالية وإنتاجه الثقافي.
ما يميّز سماح عن كثيرين في ثقافة الالتزام أنه غمس يديه لإحداث التغيير، إلى جانب إنتاجه الثقافي والأدبي الملتزم، فقد راهن على أجيال المستقبل من الأطفال، أملاً بإشاحة غمّة الاحتراب والقحط الثقافي، “فالولد في الشرق يولد أباً، وفي المخيمات يولد مقاوماً”، وقرّبهم من معاني ثقافة الحياة في تقدير ما يظنّه المستلَبون للبهرجة التافهة ثقافة وضيعة (قصة الكوسى، فلافل النازحين، الملجأ…).
ذهب إليهم في المخيمات الفلسطينية مصحوباً بابنته الصغرى (ناي – 23 سنة) التي تعِدهم باستكمال المشوار وتعليمهم الإنكليزية. ولم يكتفِ سماح المثقف الملتزم بالكتابة والانتماء إلى تيار سياسي يدعو ويطالب ويخاطب… بل أنشأ بنفسه آليات عمل مع صحبه من الشباب، تحوّل التضامن العاطفي مع القضية الفلسطينية إلى تغيير ثقافي ملموس في حركة المقاطعة (2002) التي واجهها المطبّعون بالدعاوى القضائية.
إطلالته على ثقافة حركة المناهضة العالمية سلّحته بعدد من المفاهيم الثقافية في مواجهة الحرب الثقافية النيوليبرالية التي اكتسحت مفاهيمها كلّ الثقافات، وأرست ثقافة عالمية سائدة؛ ففي افتتاحية “الآداب” (5/6/2007) “نقد الوعي النقدي – كردستان العراق نموذجاً”، يدخل إلى الحلبة بالسيف والترس في مواجهة مفاهيم ثقافة الغزو وتدمير المجتمعات وأدوات الردّة.
بالأدلّة والأرقام وحقائق الأحداث، يتناول سماح ما تنتجه الديمقراطية الأميركية في أهدافها ووسائلها وما تؤدي إليه ثقافة الردّة في تبنّي مثقفيها مفاهيم التخريب والتصحّر الثقافي: في ترويج استهلاك سلعة الحرّية في السوق الثقافية بديلاً من ثقافة التحرّر التي أنتجها تاريخ الشعوب بالدم والنار، وفي ترويج “تمكين المرأة” ومقولة حرية التعبير بديلاً من حرية التقرير والتغيير…
رائعته الروائيّة عاشها ولم يكتبها
أخال أنَّ رواية سماح إدريس التي عاشها ولم يكتبها، تحاكي رائعة غبريال غارسيا ماركيز الأدبية “مائة عام من العزلة”، فقد حاول سماح في شخصيته الثقافية تفسير الثقافة النقدية العربية، كما فسّر ماركيز نقد التاريخ الكولومبي في الحقبة الاستعمارية.
قصّة عائلة “بويندا” هي قصّة عائلة سماح في بيت الولادة، وهي مدينة المرايا التي تعكس العالم وما حوله في داخلها، بحسب ماركيز، و”أركادو” مؤسس القرية المتخيّلة التي تنهض من تحت الركام، هو سماح الذي يأمل نهوض بيروت والأمة العربية من العبودية الجديدة وطغيان الخراب، لكنّه يدرك أنَّ الزمن لا يسير بخطّ مستقيم، فكلما تلاشت الأحداث من ذاكرتنا أعادتها المتغيّرات بشخصيات وأزمنة مختلفة.
عمود قرية “أركادو” المتخيَّلة للمدينة الفاضلة زوجته “أورسولا”، وعمود قرية سماح زوجته “كريستين” وابنتاه سارية وناي في مواجهة “سارقي أحلام شعبنا”، بحسب تعبير سماح. وقد انكسر حلم سماح في عدم قدرة زوجته على مواكبة رومنسياته الثورية التي لا يستوعبها رأس أميركي مقيّد بعقلنة جامدة في تنظيم شؤون الحياة اليومية البسيطة.
أطفال المخيّمات والفقراء يناجون: “عمّو سماح، أعطِنا المزيد لكي نكبر”، والأحباء يتلوّعون لفراقه، فيقول نجاح: “كسر ظهري”، وتقول خطيبته التي أراد أن يستكمل معها حلم “أركادو”: “توقفت الأحلام بعد سماح”، فالثقافة العربية تخسر أحد روّاد ثقافة الالتزام المنغمس، ويخسر الأحرار نصير فلسطين والمقاومة.
المصدر: الميادين نت
29-11-2021