عن الدولة والمقاومة / خالد بركات
كتَبَ غسّان كنفاني مقالة عنوانها «المُقاومة هي الأصل» (1)، يُجادل فيها الكاتب المصري المعروف، أحمد بهاء الدين، الذي اقترح تأسيس دولة فلسطين في الأردن وغزّة، في مقالة نشرتها جريدة «المصور» في 13 تشرين الأول 1968، وأثارت في حينه ردود فعل واسعة بين مواقف مؤيدة ومعارضة. انطلق بهاء الدين من فكرة مفادها: صار على الشعب الفلسطيني أن يعتمد على إرادته الوطنية، ويُؤسّس «دولة في الأردن وقطاع غزة»، حيث الثقل الرئيس لحركة المقاومة الفلسطينية. واعتبر أن هذه الدولة يمكن أن تُشكّل أرضاً ومُنطلقاً للتحرير، داعياً شعب فلسطين إلى عدم الرهان على الدول العربية بَعد هزيمة عام 1967. يعرض غسّان كنفاني، في المقابل، هواجسه وقلقه من مقترح إنشاء «دولة فلسطين»، ويُلخّص المحاذير الخطرة التي شرحها في خمس نقاط رئيسة على هذا النحو : أُولاها أن تُعتبر هذه الدولة حَلّاً للقضية الفلسطينية، وثانيتها أن تكون حُجّة يمتطيها العالم لتصفية قضيّة فلسطين، وثالثتها الفشل في انتزاع اعتراف دولي كافٍ، ورابعتها أن تكون مشطورة كـ«الباكستان»، وخامستها مدى قُدرة هذه الدولة على الصمود أمام حملات إسرائيل الانتقامية.
لم يرفُض كنفاني، إذاً، مقترح بهاء الدين، واعتبره جديراً بالنقاش، غير أنه أشار إلى جُملة من الشروط والحقائق التي تدفع بالحوار إلى ما هو أعمق وأبعد من «دولة فلسطين». إشارته الذكية إلى «الباكستان» التي تأسَّست عام 1947، محاوَلة للقول: إن ما يبدو حلّاً مقبولاً لبعض الصراعات من خلال شطر أرضها إلى نصفين وفق اتفاقيات القوى الكبرى، لن ينفع في الحالة الفلسطينية، لأن طبيعة الصراع مختلفة، كما أن طبيعة العدو الصهيوني مُغايرة، ومشروعه من طينة استعمارية استيطانية. كتَب كنفاني يقول: «إن حركة إنشاء دولة فلسطين – التي يقترحها بهاء الدين – يجب أن تترافق حتماً مع حركة إنشاء الإنسان الفلسطيني الذي صَمَدَ في وجه كلّ الأوضاع القاسية التي واجهته طوال 20 سنة، ولم يتخلَّ عن هويّته الفلسطينية رغماً من كلّ شي». واعتبر أن الهويّة الوطنية لا تُحقّقها «أرض دولة» مهما كان اسمها، بل تُحقّقها مسيرة التحرير نفسها التي تضْمن إعادة خلق الإنسان الفلسطيني المقاتل الجديد.
ومضى في شرح طبيعة العلاقة التي تغيّرت بين الفلسطينيين بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، قائلاً: «وممّا لا شكّ فيه أن العلاقة بين الفلسطينيين صارت علاقة المنفى والتشرّد لا علاقة الثورة، وأن الدعوة إلى أرض دولة ينبغي أن تترافق معها دعوة إلى علاقة جديدة بين الفلسطينيين أنفسهم، ثمّ علاقة جديدة بينهم وبين الدول العربية». كان كنفاني يرى أن عزل الفلسطينيين عن قضيّتهم أدّى إلى سلب الإنسان بعد سلب أرضه، فما حدث للأرض حدث للبشر. واعتبر أن شعب فلسطين لم يُترك ليظلّ، بالمعنى النضالي، فلسطينياً، إذ «انتُهك الإنسان مثلما انتُهكت الأرض الفلسطينية». إن الأرض التي يمكن أن توحّد الفلسطينيين، بحسب كنفاني، ليست أرض دولة بل أرض ثورة، من دون أن يغفل مركزية العلاقة بين الإنسان المُشرَّد اللاجئ وبين «الوطن – الأرض» التي يجب تحريرها والعودة إليها. ولهذا تحديداً، أكّد في المقالة ذاتها أن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها الصهيونية والقوى الاستعمارية في خلْع الفلسطيني عن أرضه تُساوي جريمة كبرى ثانية هي خَلعه عن قضيته أيضاً. وختم كنفاني مقاله بالقول: «من المثير حقاً أن تكون المقاومة الفلسطينية في الأرض المحتلة أقدر من غيرها على ربط قدَر الضفة الغربية بغزة، وذلك يعزّز بلا ريب نظريتك ويعطي اقتراحك مبُرّراته الموضوعية، ولا شكّ أن هذه المقاومة في درجاتها اللاحقة ستكون أيضاً أقدر على خلق الدولة – الرسالة -، ومعها خلق الشعب المقاتل».
وفي الوقت الذي كان يدور فيه مثل هذا الحوار بين المثقفين العرب حول «دولة المقاومة» و«الدولة الرسالة» من منظور عربي تحرُّري يرفض الهزيمة، ويبحث عن قواعد ارتكاز للثورة الفلسطينية، كان العدوّ الصهيوني على الجهة الأخرى يتقدّم بمقترحات ومشاريع من طراز تأسيس «الكيان الفلسطيني». وقد حذّرت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في استراتيجيتها السياسية والتنظيمية الصادرة في شباط عام 1969، من خطورة كيان فلسطيني عميل يقوم العدو بتأسيسه بالتعاون مع كبار الملّاك والرأسماليين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويكون مقدّمة لتصفية الحقوق الفلسطينية.
وجاء في «الاستراتيجية السياسية» التي ساهم غسّان كنفاني في وضعها، شرح مُفصّل ودقيق عن طبيعة القوى المحلّية التي تتساوق مع مشروع الاحتلال، فاعتبرتها برجوازية تجارية مصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع مصالح الإمبريالية التجارية، وأن أساس ثروة هذه الطبقة ومصدر غناها هو السمسرة للبضائع الأجنبية ووكالات التأمين والمصارف، وبالتالي فهي في المدى الاستراتيجي ضدّ الثورة. كما جاء أيضاً في تلك الوثيقة أن قيادات البرجوازية التقليدية تستقبل ساسون ودايان والحكّام الإسرائيليين، وتبحث معهم في موضوع الكيان الفلسطيني الذي تخطّط له إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، لتحقيق النصر السياسي بعدما حقّقت نصرها العسكري.
ما يحتاج إليه الفلسطينيون اليوم، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، إعادة قراءة دروس التاريخ، وتقييم الموقف من مشروع الدولة الفلسطينية التصفوي، واستعادة فكر الأديب الشهيد غسان كنفاني، وجوهر فكرته حول طبيعة العلاقة التي تقوم بين الفلسطينيين، وبخاصّة في ظلّ تعدّد المرجعيات السياسية، وبعد نجاح العدو في تأسيس كيان الحُكم الذاتي المسخ الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من مسار التصفية، وصار لزاماً إسقاطه وهزْمه. إن ما أراد الشهيد غسّان كنفاني قوله باختصار: يُقاتل الشعب الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين، الأرض والإنسان، وليس من أجل كيان أو دولة، حتى لو كانت تُسمّى «إمبراطورية فلسطين العُظمى»!
مصدر: المقاومة هي الأصل، غسّان كنفاني، الدراسات السياسيّة – المجلد الخامس، ص 479 – 484