الفساد وطواحين الهواء! – مهند النابلسي
الفساد وطواحين الهواء:*
دراسة سردية- سينمائية فريدة حول حالات الفساد المتنوعة وانعكاسها اللافت في بعض النماذج السينمائية الشيقة!
*أمثلة “واقعية وسينمائية” معبرة لقصص وحالات الفساد والاجرام المكررة والمزمنة والمتنوعة والمتداخلة والمتشابكة والمحصنة والغريبة.
*عرض شيق لاثنا عشر فيلما يتحدث عن ممارسات الفساد والأجرام بالاضافة لممارسات دالة عالمية ومحلية وتجارب شخصية معبرة:
*ظهر كاريكاتور صحيفة الرأي يوم 15/06/1999 معبرا عن موضوع الفساد، وببلاغة تفوق المقالات، فضريبة المبيعات التي يدفعها المواطن يرسلها رئيس الوزراء كترياق حياة في شرايين الاقتصاد المحتضر، كما أظهر الرسم المواطنين الكادحين المعلقين من أقدامهم، وكأنهم يدفعون ثمن تعويض الخسائر الكبيرة الناجمة عن ممارسات الفساد…وفيما تجري محاولات يائسة لانعاش الاقتصاد الوطني الذي يبدو كالجثة، تقف شخصية غامضة طاغية وهي ترتدي بدلة حريرية باهظة الثمن، وتدخن سيجارا كوبيا فاخرا وتحمل هراوة قاتلة فوق جثة الاقتصاد الوطني وتبدو وهي تتبجح بعدوانية سافرة! ليس هناك تعبير بليغ للفساد أرقى من ذلك الكاريكاتور: فالفساد اذن يقضي على الاقتصاد الوطني، كما أن ضريبة المبيعات التي تدفع من جيوب المواطنين تحاول انعاش الاقتصاد المتداعي.
*ثم ظهر في الصفحة الاولى من نفس العدد خبرين هامين، يتحدث أولهما عن تجاوزات في مدينة الحسين الطبية، ويتحدث الثاني عن تبرئة متهمين في قضية تلوث مياه زي، حيث قررت المحكمة الموقرة تعديل وصف التهم المسندة واسقاط دعوى الحق العام!
الفساد يكاد يكون ظاهرة عالمية ولا يقتصر على بلد دون آخر، ولكن التساهل هو الذي يجعله يستفحل في بلد ما ويحوله الى كابوس يدمر الاقتصاد الوطني كما ينعكس سلبا على الأداء الانتاجي والخدمي والحكومي وكذلك على معنويات العاملين، كما أن خطره الكبير الغير مباشر ينشأ من تدميره لقيم العمل والاخلاص والانتماء، مما يخلق احباطا كبيرا مزمنا عند الكثرة المخلصة من العاملين الجديين، ثم يقود للتراجع بالأداء ، وربما لفقدان الايمان بالقيم الأخلاقية وضعف الانتماء…انه في حالات كثيرة أشبه بفيروس الحاسوب يتخفي ضمن رسالة غامضة، ويطلق من خلال تفعيلها ملفات عابثة مخربة تدمر الكم الهائل من المعلومات المفيدة والرسائل التفاعلية العادية.
*عندما تصفحت موضوع الفساد بموقع السي ان ان الألكتروني، فوجئت بوجوده سافرا ومتخفيا بشكل متعدد الوجود في معظم بلدان العالم، من أمريكا الى نيجيريا، وبمختلف الأشكال وكأنه فيروس، فخلال اسبوعين فقط فقد تم رصد ما يلي كأمثلة (للعام 1999 تحديدا): استجواب ابنة سوهارتو بأندونيسيا بشأن مصير حوالي 15 مليون دولار، استجواب مساعد طيار بشأن شبهة الاهمال التي أدت لتحطم وسقوط طائرة تابعة للخطوط الأمريكية، استمرار استجواب نائب رئيس وزراء ماليزيا بشأن فضيحة جنسية، ، توجيه الادعاء له بأربع تهم متعلقة بالفساد المالي وقد حكم عليه بالسجن لست سنوات، بقاء موضوع فضيحة كلينتون الجنسية معلقا، اعتقال الصين لسكرتير محلي للحزب الشيوعي بتهم الرشوة والسلوك المهني الخاطىء مما أدى لانهيار جسر، ضبط تصرفات غير سليمة لموظفين في مؤسسة سياحية كوبية، طلبت “المرحومة” بنازير بوتو اعادة الاستئناف بشأن تهم فساد مالي كبيرة، وادعى فريق متخصص من الامم المتحدة وجود فساد في المحاكم الكمبودية المطلوب منها محاكمة متهمي “الخمير الحمر”، حيث تبين ان المحاكم نفسها غير مؤهلة وتعاني من الفساد المستشري…والأمر لا ينتهي عند هذا الحد: فقد تم التحقيق مع مدير ميناء ميامي بشأن سرقة حوالي مليون ونصف دولار، كما ارسلت فرقة متخصصة من الاف بي آي الى كوسوفو للتحقيق بشأن جرائم الحرب التي ارتكبها الصرب…هكذا نجد ان الفساد “أخطبوطي السمات” ومتنوع الوجوه فهو سياسي ومالي وجنسي وسلوكي، ويتمثل خلسة بحالات الاجرام والقتل واخفاء الأدلة، كما باستغلال المناصب السياسية والادارية والوظيفية، كما بممارسات الجنس الفاضح والاختلاس، وللطرافة فحتى المحاكم المنوط بها مكافحة الفساد لم تنج ذاتها من تفشي الفساد بأروقتها…وماذا لو تصفحنا صفحات وحالات الفساد المستفحلة حاليا؟
*في العام 2005 تضمن عدد النسخة العربية لمجلة “نيووزويك” الواسعة الانتشار تقريرا موسعا حول الفساد ورد فيه: تعتبر دولة “نيجيريا” واحدة من أكثر دول العالم فسادا، فابتداء من البيروقراطيين الصغار ولغاية المسؤولين في المناصب العليا ينتشر ابتزاز المال وحالات الرشوة في أكبر دولة في أفريقيا والبالغ سكانها 137 مليون نسمة، وقد حاول الرئيس النيجيري اوليسيغون اوباسانجو اطلاق حملة لمكافحة الفساد سببت الصدمة للمسؤولين في دولته الغنية بالنفط…وقد اجبرت وزيري التربية والاسكان وكذلك قائد الشرطة ورئيس مجلس الشيوخ على ترك مناصبهم، واحتمال مواجهتهم جنائيا…ان مجرد انشاء هيئة “شكلية” لمكافحة الفسادليس كافيا، فقد انشا هذا الرئيس بعد سنتين وكالة مشابهة متخصصة في مكافحة غسيل الأموال…أما قصة الصيدلانية النيجيرية الشجاعة أكونيلي ونجاحها اللافت كمديرة للوكالة الوطنية لادارة الغذاء والدواء (نافداك)، فتعد بحق نموذجا مثاليا للشجاعة الشخصية في مجال “محاربة الأدوية المزيفة”، وقد نجحت بوضع أسماء 50 مصنعا للأدوية المزورة في كل من الصين والهند وباكستان، مما ادى لتناقص حالات الفشل الكلوي والحالات المرضية المماثلة بنسبة 80 بالمائة، وتكشف هذه القيادية الافريقية سرا وراء نجاح عملها يتمثل بأنها لا تعين الا النساء في المناصب الحساسة لأن النساء (حسب وجهة نظرها) “أقل فسادا من الرجال”!وقد تأكدت تماما من ظاهرة استفحال انتشار الأدوية والمطاعيم المزيفة عندما شاهدت “خبيرة ألمانية” تستعرض الأعداد الكبيرة لحالات التزييف المنتشرة بدول العالم الثالث تحديدا، وكان ذلك ضمن سياق مؤتمر”قمة” عالمي لأقطاب عصابة عالمية وذلك بمشهد معبر في فيلم جيمس بوند سبكتر (أي الطيف/2015).
*في حرفية مدهشة وسياق مجازي معبر وضمن سيناريو وغرافيك محبوك جيدا ، يدخلنا المخرج اوليفر ستون لعالم الفقاعات المالية المثير …عالم وول ستريت(في فيلم: المال لا ينام أبدا)… حيث يتم استهلال المشاهد بخروج غوردو جيكو ( مايكل دوجلاس )من السجن، بعد ان امضى ثماني سنوات وراء القضبان يتهمة غسل الأموال والاحتيال الألكتروني، ثم نراه يخرج وحيدا لا يجد أحدا في استقباله… ولكنه لم يكن يائسا، وكانت أهم اولوياته الترويج اولا لكتابه الجديد، كما يسعى “شيالابوف” الشاب الطموح للانتقام ولومعنويا لمعلمه، الذي انتحر بعد أم رمى نفسه أمام قطار مترو بنيويورك، مما أجبر أي الشاب لاعادة حساباته وهيكلة علاقاته. يقدم لنا هذا الشريط المعبر المضارب المالي الشهير جوردون جيكو صاحب الشعار اللافت : الجشع جيد! أما شيالابوف فيلعب دور الشاب الطموح الواقع في حب ابنة جيكو ويني ( كاري موليغان ) ، ولكنها تكتشف لاحقا أنه يستغلها بانتهازية للتقارب مع والدها الثري بغرض الحصول على تمويل ضخم لمشروع الطاقة الخضراء ( وذلك قبل أن يقع حقيقة في حبها )، وينتهي الأمر بطريقة ميلودرامية سمجة عندما يقدم جيكو لخطيب ابنته تمويلا بقيمة مئة مليون دولار للمحافظة على العلاقة الهشة، وكنوع من تأنيب الضمير. يكمن الجزء المعبر في هذا الفيلم الرائع في مشهدخطبة مايكل دوجلاس البليغة والقصيرة، والتي لم تتجاوزالدقيقتين ونصف ، والتي يشرح فيها للحضور في جامعة نيويورك تفاصيل أسباب الأزمة المالية المرعبة التي هزت العالم في العام 2008، وحيث يشبه الجشع بالسرطان الذي يفتك بالجسم ويتفشى بلا هوادة!
*المخرج المتميز”جي سي شاندور” يقدم في فيلمه الأول (مارجين كول 2011) الذي تحدث بعمق وصراحة عن بدايات الأزمة المالية العالمية التي أدت لكارثة انهيار المؤسسات المالية بوول ستريت، ويستعرض بفيلمه اللافت هذا تداعيات ذلك وخلال 24-36 ساعة متواصلة من خلال ممارسات “الذعر والسهر والمتابعة الحثيثة فمن ثم التآمر والتحالف والتوافق والاسترضاء” التي تقوم بها سرا ادارة وموظفي مؤسسة مالية استثمارية كبرى ، ويعرض ذلك باسلوب درامي فني وشيق وبسياق سلوكيات الموظفين ومدرائهم وذلك عندما يطلع موظف مطرود أحد زملائه فجأة على تفاصيل الوضع الائتماني المتردي للمؤسسة ، ومن ثم يكشف الفيلم تداعيات متلاحقة شيقة تقود لشبكة ومصفوفة الفساد ببداية الأزمة المالية والتي تمثلت ” بالسرية والكتمان والشللية والخداع”.
*الفساد سمة عالمية ويوجد بلا استثناء بجميع الدول والمجتمعات، ويكمن الفرق بطريقة التعامل معه، وكيفية تقبل المجتمع والسلطة له حتى لو كان خفيا مستترا، الفيلم الروسي اللافت”الطاغوت”(2014) تحدث باسهاب عن الفساد الذي يمارسه المتنفذون بحق الناس العاديين، وكيف تتحالف الكنيسة والسلطة مع المتغولين الفاسدين:
*يلعب ” أليكسي سيريبرياكوف” دور رجل عادي يكافح الفساد بلا هوادة حفاظا على بيته ومصالحه الشخصية، حيث تقع الأحداث ببلدة منعزلة بعيدة عن موسكو، الفيلم من كتابة واخراج “أندريه زيفياجينسيف” وهو يتحدث عن بلد ينخره الفساد ويفتقد للقيادة النزيهة…بلد ينحدر للفوضى والمحسوبية والتغول حتى في ركن بعيد ناء (بمحاذاة بحر بارينتس)…والشريط يطرح سؤالا محوريا هاما: ما الذي سيحدث لرجل يريد مكافحة الفساد بعناد؟ ما الذي سيحدث في مركز الشرطة، او الكنيسة او قاعة المحكمة؟ وهل هناك احد جاهز للوقوف بجانب هذا الرجل
المسكين؟
*فهناك ميكانيكي يدعى “نيكولاي” او كوبلا (أليكسي سيريبرياكوف) يعيش بمنزل خشبي ، يتجدد هواءه بنوافذ واسعة مطلة على الشاطىء، بمحاذاة مدخل قرية الصيد القديمة…زوجته الجميلة ليليا (ألينا ليادوفا) أصغر سنا واقل تقلبا وأكثر هدؤا، وتعمل بمصنع تعليب السمك، وابنه الوحيد بسن المراهقة، وهو نتيجة زواج سابق…كوليا مدمن على الكحول ويشرب الفودكا بكثرة، اما رئيس البلدية الفاسد فاديم (رومان ماديانوف) فهو يسعى للاستحواذ على الأرض التي يسكن فوقها كوليا بحجة بناء “مركز اجتماعي”، ونرى كوليا يتعرض لتحرشات وتهديدات فتوة وزعران، كما يوجه له فاديم تهديدا مباشرا!
*أما التحفة السينمائية الخالدة “على رصيف الميناء”(1954) فتتحدث عن جرائم القتل والفساد المستشري في “رصيف الميناء” وبأوساط اتحاد العمال بأمريكا الخمسينات حيث
رئيس اتحاد نقابة عمال الميناء المتواطىء مع المافيا “جوني فرندلي” (الممثل لي جي.كوب) يمسك بقبضته الفولاذية على أنشطة الميناء…كما يعرف ضابط الشرطة المسؤول أن فرندلي وراء العديد من الجرائم، وأن معظم الشهود يلعبون دور “الصم البكم” خوفا من بطشه وللحفاظ على وسيلة رزقهم، وتفاديا للمجابهة والاتهام بالوشاية. ولاحقا يطلب فرندلي من تيري (مارلون براندو) التظاهر بخسرانه لاحدى بطولات الملاكمة بالرغم من قدرته على الفوز، حتى يتمكن فرندلي من كسب مال الرهان.
*ثم يقوم أزلام فرندلي بنصب كمين قاتل للفتى “جوي دويل” حتى يمنعونه من الاعتراف ضد فرندلي أمام لجنة الجريمة…يطلع تيري على تفاصيل الجريمة، لكنه يفضل الصمت، ويقابل شقيقة المتوفي “ايدي” (الممثلة ايفا ماري سانت) التي تلح على كاهن الميناء الأب باري (الممثل كارل مالدن) لاتخاذ اجراءآت ضد الاتحاد المتواطىء، يطلب كل من ايدي والأب باري من تيري التقدم باعترافاته الكاشفة، لكن مقتل عامل جديد يوافق على الشهادة بواسطة اسقاط “حمولة ويسكي” ضخمة من رافعة فوق رأسه، مما يستدعي خوف تيري وتردده للاعتراف، ويبقى “فرندلي” مصرا على التخلص من تيري، ولكنه يعطي شقيقه شارلي (الممثل رود ستايغر) الفرصة الأخيرة لاسكاته ورشوته، وبالفعل يحاول شارلي اغراء تيري بوظيفة جيدة جديدة، ثم يهدده مباشرة بتوجيه مسدس الى رأسه فيتحقق يائسا من فشل مساعيه، وبمشهد “أيقوني” خالد يذكر تيري شقيقه المتواطىء شارلي بأنه ضحى بمهنته كملاكم محترف لمصلحة فرندلي، موجها كلامه المؤثر داخل سيارة تاكسي، فيتأثر شارلي من الموقف الدرامي “العاطفي” ثم يعطي المسدس لتيري طالبا منه النجاة بنفسه والهروب…ولا يلبث المجرم الطاغية فرندلي أن ينتقم فيأمر رجاله بقتل شارلي وتعليق جثته لجذب تيري و”صيده”، حيث يثور هذا الأخير ويكاد يفقد أعصابه، متوعدا بقتل فرندلي، لكن الأب باري يسعى جاهدا لتهدئته ويحذره طالبا منه التقدم بشجاعة للاعتراف لهيئة الجريمة…بعد الشهادة يعلن فرندلي بأن تيري لن يحظى بأية فرصة للعمل في الميناء، وتسعى ايدي جاهدة لاقناع تيري للهرب معا، ولكنه يصر على البقاء والمواجهة والعمل كباقي زملاؤه، ثم تحدث مواجهة سافرة ويتحدى فرندلي للخروج ومواجهته، مفتخرا باقدامه للاعتراف ضده، ويستفز فرندلي أخيرا فيأمر “أزلامه” لضرب تيري لحد الموت، ويشاهد جميع عمال الميناء العراك “الغير متكافىء”، ثم يقدمون دعمهم الكامل لتيري، رافضين العمل حتى يحظى بفرصة مثلهم.
*وفي فيلم القداس الأسود (2015) الذي يروي قصة الفساد الاجرامي الذي تورطت فيه وكالة “الأف بي آي” الأمريكية في ستينات القرن المنصرم، نشاهد كيف يغدق رجل عصابات متنفذ المال الوفير على ضابط اتصال ب “الأف بي آي” بهدف القضاء على منافسة المافيا الايطالية بمدينة بوسطون، حتى يظهر متميزا وينال الترقيات، ثم يثابر جون التحري المتنفذ على ارشاد المجرم العنيف “جيسي بلغار” لكيفية التخلص من المناوئين والمخبرين، كما يورط احد زملاءه بنفس العمل طمعا بالمال، هكذا ينال المجرم التغطية والحرية المطلقة لممارسة صنوف القتل والاجرام والتي تشمل الخنق واطلاق النار والتعذيب والضرب الدموي المبرح (ودون شهود)، كما انه يستغل علاقته بشقيقه السيناتور المتنفذ لكي “يصول ويجول” بلا خوف ولا رادع!…أبدع هنا الممثل الأمريكي جوني ديب بهذا النمط من التقمص الاستحواذي الأسود مما قد يرشحه للاوسكاربجدارة، وباعتقادي ان هذا النوع من التستر على “الاجرام” يمثل أخطر انواع الفساد، وكما قال أحد المسوؤلين العرب المتهمين بالفساد
المُتعارف عليه لدى غالبية المسؤلين، ان الصحفيين يرتشون لتغطية الفساد!
*يعود قاتل متقاعد جاسون باتريك (يعمل حاليا كميكانيكي سيارات) لمزاولة نشاطه الاجرامي الضاري، بعد أن يعلم بخطف ابنته المراهقة المدمنة على المخدرات(وهي الآفة العالمية العظمى التي تقود للعديد من حالات الادمان والاجرام والاتجار والفساد)…حيث يتوجب عليه أن يقتل كل اللذين يقفون بطريقه، وصولا لرأس الأفعى المافيوزي العتيق الملقب بالأمير( يقوم بالدور بروس ويلز)، وحتى يتمكن من الوصول اليه فانه يسعى للاستفادة من خدمات وتعاون صديق مهنة مخضرم “جون كوساك”…هذا باختصار هو ملخص فيلم الأكشن والعصابات اللافت “البرنس″، الذي تعتمد ثيمته الأساسية على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، مهما كانت هذه “الأخيرة” اجرامية وغير أخلاقية، وهي تستند لمقولة “ميكافيلي” بكتابه الشهير: “هذا الذي يهمل فعل الحاضر من اجل ما يتوجب القيام به بالمستقبل، عاجلا سيؤدي ذلك لدماره اكثر من المحافظة على وجوده”!
*فمتى نسمع عن حالات جدية مماثلة لمكافحة الفساد المتفشي ببلادنا العربية البائسة؟ في بلاد اخرى تدعي مكافحة الفساد نلاحظ ضعف منهجية المكافحة التي تقتصر على حالات متابعة فردية هنا وهناك، دون اتخاذ اجراءآت جذرية، مما يسمح بتكرار الحالات، كما يبدو وكانها لعبة “قط وفار” تستند لمفهوم “اذا كنت شاطر امسكني” (وبالمناسبة فهذا هو عنوان فيلم أمريكي طريف لسبيلبيرغ و دي كبريانو يتحدث عن دجال مزور موهوب تعجز “الأف بي آي” عن القبض عليه طوال الشريط، ثم يجندونه للعمل معهم لكشف خفايا التزوير والتزييف).
كما نتذكر تكرار حالات الفساد بمجال الغذاء والدواء والتهريب ببلادنا العربية البائسة حتى وصل لحاويات ” المفرقعات النارية” التي ادى انفجارأحدها لمقتل وجرح العديد من العاملين!
حتى الحملات الانتخابية لا تخلو من الفساد المستفحل والمتمثل بالوعود الانتخابية الكاذبة، والسعي الحميم بعد النجاح لحصد المكاسب الشخصية والمناطقية بعيداعن الحس الوطني والقومي، وقد عبر الكاتب المبدع “ماركيز” عن ذلك ببلاغة وسخرية لاذعة في الفقرة التالية
قدم السناتور لحديثه باقتباسين باللغة الاتينية حتى يعطي وقتا أطول لرجاله الذين ينصبون ديكورات المهزلة، ثم قدم وعودا لمستمعيه بأنه سيجلب لهم الآت خاصة لاسقاط المطر، وجهازا متنقلا يجعل الحيوانات عشارا فتلد وتتكاثر الثروة الحيوانية، وزيوت السعادة والخصب التي تجعل الخضروات تنمو في الأرض الصخرية وشتل البنفسج لتوضع تحت النوافذ…وعندما رأى أن عالمه الخيالي قد اكتمل، أشار اليه: “وهكذا ستكون الامور أيها السيدات والسادة، انظروا هكذا سنكون”!…وحين سمع التصفيق النهائي، رفع رأسه ونظر بخيلاء، ثم قال في نفسه “اللعنة على هذه المهارة السياسية”!
…*وفيما هو يتكلم كان مساعدوه يلقون في الهواء بمحموعات من الطيور المصنوعة من الورق، وكأنما دبت الحياة في المخلوقات الصناعية فتطير حول المنصة الخشبية ثم تتجه الى البحر. وفي نفس الوقت كان رجال آخرون ينقلون أشجارا صناعية من العربات ويزرعونها في التربة الصخرية خلف الجمع المحتشد…حيث أقاموا واجهة كرتون رسموا عليها بيوتا من الطوب الأحمر لها نوافذ زجاجية، وبهذه الواجهة “المصطنعة” غطوا أكواخ الحياة الحقيقية. (اقتباس عن قصة قصيرة لماركيز نشرها عام 1970 بعنوان “الموت رابض وراء الحب”).
*اذن الفساد ظاهرة عالمية متفشية لا ينجو منها بلد منها، ولكن الفرق يكمن في وجود مؤسسات جريئة قادرة على تقديم الفاسدين للمحاكم وفضحهم مع عرض الأدلة الدامغة على تورطهم مهما علا شأنهم كما حدث مع كلينتون وسوهارتو وبنازير بوتو وأنور اسماعيل، حيث ثم التشهير بهم وبسلوكهم المخزي، بالمقابل يتحول الفساد الى كلمة فضفاضة وكائن شبحي يكثر الحديث عنه، وتنسب له مسؤولية انهيار الاقتصاد الوطني بدولنا العربية عموما، وحيث نرى آثاره المدمرة كالشمس الساطعة بوسط النهار، ويبقى غامضا محاطا بالأسرار والدهاليز السرية وكأنه متاهة غامضة…ويتمثل جليا بوجوه عديدة من الاهمال والتسيب والتهرب من المسؤولية عن المديونية الهائلة وفشل المشاريع وحدوث الكوارث ، كما يظهر جليا بأشكال الثراء الفاحش قي بلد محدود الموارد غارق بالمديونية المتضخمة، كما يظهر تأثيره الغير مباشر بتدني مستويات الأداء والانجاز بالرغم من وجود كفاءآت وخبرات كتطبيق معكوس لمفهوم ” وضع الشخص المناسب في المكان المناسب”، وهناك نوع من الفساد المتخفي الذي تكشفه الكوارث الطبيعية كالزلازل والسيول المتدفقة من حيث ضعف انشائية البناء والعمران مما يؤدي لتصدع وانهيار الأبنية والمنازل، وكما حدث مؤخرا بعاصمة عربية حيث ادت الأمطار الرعدية الغزيرة وخلال أقل من ساعة لغرق الكثير من المناطق المنخفضة والأنفاق والمنازل الأرضية، ويكمن احد الأسباب للاهمال المزمن لتنظيف المسارب المائية وقلة الاستعداد والاهتمام بالصيانة وهذا وجه خفي خطير من أوجه الفساد المتعددة! …كما تتجلى مظاهر المحسوبية والشللية والمناطقية والمحاصصة والواسطة في معظم المؤسسات، وتتغول حالات “التسلق الوظيفي” عندما يتجاوز شخص ما رفاقه الأقدم والأكثر خبرة وكفاءة باستخدام “كرت غوار” الشهير، ويزيد الخوف وينعدم النقد اذا ما تمت معاقبة رئيس ديوان رقابي هام بنقله لوظيفة عادية روتينية،لأنه تجرأ وكشف النقاب عن جدوى وعدد سفريات “وزير ما” وتكاليف المياومات العالية!
*كيف يمكن أن نفهم تدني ربحية الكثير من المؤسسات والشركات الوطنية المساهمة، فيما نلاحظ الرواتب والمصاريف الباهظة المخصصة لهيئة المديرين ومجالس الادارات، وكيف يقبل رئيس مؤسسة “مساهمة” فاشلة تدني أرباحها سنة بعد سنة أن يتجاوز راتبه الآلاف الدنانير، فيما تمتنع هذه المؤسسة “المخصخصة” كمثال عن توزيع الأرباح السنوية للمساهمين، ناهيك عن الاستنزاف الكبير المستمر لأموال المؤسسة المتنثل في حالات الصرف الباذخ على الكماليات ومياومات السفر والتنقلات، ثم على الاجتماعات والمؤتمرات والمعارض والاعلانات…الخ، وكلها مصادر هدر غير مقنعة، فقد ثبت احصائيا في بعض الشركات الأمريكية الناجحة أن التصميم الناجح لزاوية جذابة في الانترنت او الفيسبوك يغني تماما عن تكاليف السفر لعدة مرات، حيث يمكن عرض منتجات وخدمات الشركة وتفعيل اجراءآت التسويق…
*لقد أرسلت اليابان في بداية نهضتها الصناعية (وكذلك الصين لاحقا) المئات من خيرة شبابها للغرب بغرض التعلم واكتساب الخبرات الهندسية والصناعية المختلفة، ثم غادروا وحولوا اليابان لمارد اقتصادي-تكنولوجي، بالمقابل ماذا فعل معظم العرب وهم يسافرون منذ أكثر من نصف قرن لشتى أطراف المعمورة؟ كما يتخرجون بكثافة من جامعات وكليات ومعاهد الغرب والشرق على حد سواء! يكمن الفرق الواضح في انه كان يطلب من الياباني أن يقدم تقريرا ومردودا علميا ملائما لما اكتسبه من علم ومعرفة وخيرة…لقد كان يتجول وهمه الأول نقل المعرفة والخبرة حاملا كاميرا صغيرة يجسد بواسطتها كل ما يشاهده، حيث لم تكن أجهزة الموبايل قد صنعت، كما أن بعضهم كان يتقن مهارات الرسم الهندسي السريع للمكائن والأجهزة الدقيقة، متسلحا بذاكرة صورية لماحة، حتى ان بعض المصانع السويسرية قررت منع اليابانيين من دخولها، بعد ان سرقوا الكثير من أسرار صناعة الساعات وغيرها…كان المطلوب من الياباني ان لا يكتفي بكتابة تقرير لا يقرأه أحد وانما بالتحديد نقل المعرفة والخبرة والانطباع…وأذكر على سبيل المثال أني لم أفلح بتحقيق ذلك أثناء عملي كمستشار في احدى الوزارات الهامة، حيث لاحظت أن معظم المدراء المحظوظين اللذين سافروا لأمريكا والصين يتبادلون ذكريات زياراتهم لأماكن التسويق الرخيصة نسبيا والتي بدت أولوية بالنسبة لهم…ومن خبرتي الشخصية سأقدم مثالا متواضعا على دور “سماسرة التدريب والاستشارات” المتزايد بتعزيز الفساد في الشركات والمؤسسات، فقد وضعت اعلانا لافتا “تجريبيا” باحدى الصحف اليومية واسعة الانتشار لبيان امكانات تقديم التدريب والاستشارات مجالات التميز والجودة مباشرة للمهتمين وبأسعار معتدلة وملائمة للطرفين، وبعيدا عن عمولات ووساطة مكاتب التدريب والاستشارات، ولكن هذا الاعلان “الملفت للنظر” بالصفحة الاقتصادية لم يلقى اهتمام احد من المسؤولين بهذه الشركات، حيث يفضلون التعامل مع “الشركات المعنية” للأسباب الموضحة أعلاه!
*كيف نستطيع أن نفهم أن يصبح شخص اقل خبرة بعشر سنوات أو حتى بخمس مسؤولا عن شخص آخر أقدم منه وأكثر خبرة وتعليما وكفاءة لأسباب ليس لها علاقة بالمنطق؟
*لقد تمت المناداة منذ سنوات بوحدة الانتماء الوطني بعيدا عن الجهوية والاقليمية، كما طال الحديث عن المواطن الصالح من شتى الاصول والمنابت…فأين هذا حقا على ارض الواقع؟
اذن فالفساد ظاهرة ملموسة يتحدث عنها الجميع مثل مستوى السكر بفنجان الشاي اوالقهوة، فلا ضرورة لكي تظهر للعيان وانما تظهر تأثيراتها بوضوح، والمطلوب تعقبها وكشفها ومقاومتها، فالشخص المتهم بالفساد يجب أن لا ينال البراءة ببساطة لاختفاء الأدلة الظاهرة، بل يجب التقصي والبحث بالحيثيات والقرائن والبيانات لاكتشاف الأدلة ومتابعتها ضمن الشبكة العنكبوتية الخفية للفساد…وعندما يرى المواطن أن مكافحة الفساد أصبحت شيئا ملموسا وعملا مضنيا ليس بيروقراطيا ورقيا، وأن هناك بالفعل مشبوهين يجرون للمحاكم ويتم توقيفهم، يشعر بالثقة والراحة النفسية، كما تتشكل حينئذ نواة من الخوف من العقاب ورادع قانوني، فيفكر الفاسد ألف مرة قبل اقدامه على ممارسة الفساد بشتى صوره “الظاهرة والخفية”، وعندما يتم التشهير بالفاسدين ولا يشار لهم بالبنان على أنهم “فهلويون وشطار واذكياء “…يصبح الفاسد حينئذ كالمجذوم يبتعد الجميع عنه وعن ذريته وأصدقائه! أما الأمثلة فهي كثيرة ولافتة: فالطبيب الذي يطلب مبالغ طائلة مقابل عملية جراحية عادية وربما لا ضرورة لها وفاشلة هو طبيب فاسد، أو طبيب الأسنان المحترف النصاب الذي “يخرب” أسنانك ويعبث بها بقصد لكي تعود اليه لاصلاحها وترميمها… وكذلك الوزير والمدير العام الذي يستغل منصبه ليصبح ثريا مع انه ربما بدأ عمله وليس في جعبته الكثير من الأموال والودائع والاستثمارات، فلماذا لا يفعل مشرع قانون “من أين لك هاذا”؟ وكيف يتمكن موظف حكومي محدود الدخل من بناء فيلا باهظة التكاليف او قصر باذخ؟! كما المهندس الذي يتغاضى عن ضعف الخرسانة والتسليح، ويهمل بمتابعة مهامه الاشرافية ويتركها للعمال والمراقبين فهو مهندس فاسد بامتياز…وكذلك الموسرجي الذي يعبث بالأنابيب والردادات ولا يتقن عمله لكي تستدعيه لاعادة الاصلاح والتركيب، أما التاجر الذي يبيع سلعا قديمة مغشوشة ويرفع الأسعارمستغلا الوضع السوقي ويحتكر السلع فهو فاسد بجدارة حتى لو سعى لبناء مسجد فاخر بالعاصمة! وحتى الباحث الذي يسرق جهود الاخرين الفكرية والبحثية والعلمية وينسبها لنفسه فهو فاسد، وكذلك كاتب المقال المرتشي والمنافق لتمويه الحقائق وتلميع المسؤولين وتضليل الرأي العام والخاص، وكذلك صاحب الموقع الالكتروني الاعلامي أو مدير تحرير الصحيفة “المستبد والانتقائي والمضلل” … او ذاك الاخر الذي يشتري الشهادات العليا للحصول على المناصب والوظائف القيادية التي لا يستحقها، وهكذا دواليك قس على ذلك كافة الممارسات الاعلامية والأكاديمية والمهنية والسلوكية التي تسعى للتضليل والغش والخداع، حتى نصل لفساد المثقفين والاعلاميين اللذين يمارسون النفاق الفكري والتضليل الثقافي والتزلف مقابل اغداق الأموال وشراء الذمم والمغريات المادية المتنوعة…وقد أعجبتني بهذا السياق فقرة بالفيسبوك كتبها الباحث الجريء “كامل الصباح” هذا نصها:
*معضلة كثير من كُتابنا و صحافيينا تكمن في “توثين” الفكرة او الرأي و من ثم الاغراق في البحث عن الحقائق و الوقائع التي تثبت مشروعية الفكرة الوثن . و لكن المعضلة تتفاقم اكثر فأكثر عند لجوء هذا الكاتب او ذاك الصحافي الى لي اعناق الحقائق و اعادة انتاجها و ربما تزييفها ، كيما تلائم الفكرة الوثن و هو ما يفضي بالضرورة الى تزييف الوعي و استحمار الجمهور!
*أما موضوع تجارة المخدرات ودهاليزها فقد عبر عنها المخرج الأمريكي “سوديربيرغ” بفيلم “ترافيك” اللافت الذي أدهش النقاد والرأي العام العالمي بواقعيته بالعام 2000، حيث قدم صورة سينمائية بانورامية “شبه وثائقية” لمجريات الأحداث وتشابكها وخفايا الامور: وقد تمثلت
بتورط الشرطي المكسيكي خافير رودريغيز ( بينيسيو ديل تورو) مع بعض المسؤولين الحكوميين الفاسدين، حيث يعمل كل من مونتيل غوردون (دونشيادل وراي كاسترو (لوبس غوزمان) كعميلان سريان لمطاردة تجار المخدرات في أزقة وحارات سان ديغو، ويحدث أن يتم اعتقال كارلوس أيالا (ستيفن بويز) وهو أحد كبار تجار المخدرات، فتستلم زوجته الجميلة المدللة هيلينا(كاترين زيتا –جونز) العمل وتتقنه ببراعة. ثم يندفع روبرت واكفيلد (مايكل دوغلاس) ضابط مكافحة المخدرات الفيدرالي للقيام بمهامه بحماس بعد أن يكتشف تورط ابنته كارولين (اريكا كريستنسين) بالادمان على الهرويين….هكذا تتداخل الأحداث اللاهثة لهذا الشريط المشوق بشكل متواز ومتشابك أحيانا، والذي لم أجد له ترجمة بالعربية غير كلمة “اتجار”:
الفيلم بانورامي وشامل وحافل بالتفاصيل، ويبدو وكأن المخرج البارع قد حشر مجموعة من الأفلام الوثائقية معا وربطها ضمن حبكة درامية متواترة وجاذبة، كما أنه امتنع عن الخطابة والاستنتاجات الجاهزة، وترك للمشاهد حرية الانطباع.
*أطلق هذا الفيلم موهبة سودربيرغ الاخراجية الفريدة، فشغل هنا ربما لأول مرة كاميرا محمولة، وجهز ثلاث خيم تصوير مختلفة لرصد الأحداث بالتوازي والتقاطع، واحدة لقائد مكافحة المخدرات “دوغلاس”، واثنتين لكل من الأحداث “المكسيكية” وأحداث وخفايا ملاحقات “سان ديغو”، ويقال أنه بنى قصته على أحداث واقعية ترتبط بالجنرال المكسيكي”جيسوس جزتيرز” الذي كان يتلقى الرواتب من الأخوين المهربين المشهورين “فيليكس”…!”
*يتميز هذا الشريط “الحركي-التشويقي” اللافت بحشره لمجموعة كبيرة من الممثلين البارعين، وكذلك بتنوع وواقعية أماكن التصوير، كما أنه يعطي صورة شبه متكاملة للجوانب المختلفة “لتهريب واستهلاك” المخدرات، سواء من نواحي الانتاج او الاتجار او التعاطي والاستهلاك والادمان،.. وحتى الجوانب السياسية الغامضة فقد تطرق لها بذكاء لماح.
وقد نال هذا الشريط تقدير معظم النقاد العالميين في حينه، وأظهر براعة اخراجية فريدة أهلته للحصول على اربع جوائز اوسكار شملت الاخراج والممثل المساند”ديل تورو”، كما استحوذ على اهتمام المشاهدين بقدرته “التسجيلية-الروائية”، حيث تناول “آفة العصر” من خلال ثلاثة روايات مختلفة ومتكاملة، وتركنا بحالة تمنعنا من توقع ما يحدث لاحقا، وبدون ان نفقد الزخم السردي التشويقي…
*ويقدم الفيلم الايطالي “المئة خطوة”(2000) القصة الحقيقية للمدعو بيينو ايمباستو (الممثل لويجي لوكاشو) التي جرت أحداثها في صقلية (وكر المافيا الايطالية)، ما بين خمسينات وسبعينات القرن الماضي، ويكاد الشريط الشيق يتماثل باسلوب ونمط السرد لفيلم العراب الشهير للمخرج الأمريكي الفذ فرانسيس كوبولا (ذي الأصل الايطالي) من الناحية الدرامية ولكنه يتفوق على “العراب” سياسيا! كما يبدو وكأنه النسخة الايطالية من الفيلم الأمريكي الشهير: فايمباستو هو ابن عائلة ذات صلات وطيدة بالمافيا، لكنه يتمرد على اسرته ويسعى الى احلال القانون في بلدته “تشينيزي”، فيترشح لعضوية مجلسها البلدي للعمل كمواطن مسؤول صالح، لكن الفرح لا يدوم حيث يقتل ايمباستو في هجوم ارهابي تشنه المافيا قبيل اجراء الانتخابات…يتطرق هذا الشريط اللافت لتفاصيل ما يحدث في “البيت الداخلي” للمافيا الايطالية بنمط غير مسبوق وواقعي، كما يتناول خصوصية العلاقات ما بين المافيا الايطالية الأصلية والأقل غنى وتبجح، ونظيرتها الأمريكية الأكثر تعقيدا وتشعبا وثراء. الفيلم يتحفنا بسرد ثري متباين لنمط العلاقات الاسرية وتوزيع الأدوار، حيث الوالد الزعيم المحلي للمافيا وتاجر المخدرات، وهناك الام المسالمة والمهادنة والتي تعمل كوسيط، ثم الأخ الأصغر المعارض”البرغماتي” والعم الذي قتل مبكرا، وكذلك الرسام اليساري الملهم “للبطل”(ستيفانو فينوني)، والذي نجح بتحويل غضبه تجاه المافيا ليصبح حافزا لمقاومة ممارسات الفساد والعنف، ونلاحظ انه ساعد “بيبينو” للبدء بحياة سياسية جديدة حافلة بالتحديات والمواجهات!
*أما فيلم “الأصدقاء الطيبون” المنتج في العام 1990 فهو يتطرق أيضا للفساد والاجرام وتجارة المخدرات…وقد ابدع المخرج سكورسيزي بتناوله للقصة الحقيقية لإحدى عصابات الجريمة المنظمة منذ نشأتها وحتى القضاء عليها. يقوم تومي بمساعدة جيمي بقتل بيلي باتس (فرانك فنسنت) بوحشية بسبب إهانته له “لكونه كان صبي تلميع أحذية في بداية شبابه”، ويسعى القتلة الثلاثة جيمي وهنري وتومي للتغطية على عملية القتل، وينقلون الجثة بصندوق سيارة هنري، ويجبروا بعد ستة أشهر لإخراج الجثة المتحللة وإعادة دفنها في مكان جديد…وفي السجن يقوم هنري ببيع المخدرات لإعالة أسرته، وبعد إطلاق سراحه، يشترك مرة أخرى مع تومي وجيمي وآخرين بالسطو المسلح على طائرة لوفتهانزا، ويتم قتل جيمي والمشاركين الآخرين لعدم التزامهم بأوامر “عدم الإقدام” على شراء أشياء باهظة السعر لكي لا ينكشف أمر السرقة للمباحث الجنائية!
*بالمقابل فقد قدم فيلم “المتوحشون” لاوليفر ستون(المنتج في العام 2012) خفايا الأساليب الاجرامية المرعبة لعصابات المافيا المكسيكية الشهيرة، كما قدم تفاصيل مدهشة لكيفية استخدام “تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات” في أعمال العصابات الإجرامية، كما تناول مفهوم “التوحش” من جانبين أحدهما إجرامي كريه ومنفر (يحدث بأحد المشاهد المرعبة أن يقوم نائب زعيم العصابة بحرق عضو مشبوه حيا)… والآخر بمعنى “البساطة والفطرة والعودة لأجواء الطبيعة الساحرة”، وذلك عندما حدثتنا الفتاة الجميلة (بعد نجاتها في نهاية الشريط) عن هرب الثلاثة للإقامة في جزيرة إندونيسية خلابة والاستمتاع بأجوائها بعيدا عن منغصات الحياة المدنية وعن تهديد العصابات وسطوتها!
*وحتى أكسرحدة الموضوع وأخرج من متاهة الفساد المزعجة، فسوف أنقل هنا خلاصة فيلم عصابات طريف (ذا فريشمان)، أعاد فيه مارلون براندو تمثيل دوره الاسطوري بالعراب، ولكن بصورة كوميدية طريفة بالعام 1993
ف”سابتيني” المافيوزي العجوز مازال يقدر الاخلاص والوفاء والصداقة، ويعشق البراءة لأنه نقيضها… هكذا يستغل الشاب “المبتدئ”القادم حديثا الى نيويورك من أجل دراسة السينما، ويصطاده بمهارة تامه ليؤدي له خدمة نادرة مقابل مبلغ من المال يعادل المبلغ الذي سرق منه أصلا بواسطة أحد أقربائه! وتنحصر مهمة الشاب في نقل العظاية النادره (وهي واحدة من أصل ثمانية متبقية في العالم) والتي سرقت من احدى الجزر الاندنوسية، وذلك لنقلها لحديفة حيوان غير رسمية يديرها مهووس (مكسميليان شل)، حيث نلاحظ أن الحيوانات النادره قد حشرت في أقفاص ضيقة وذتك بانتظار دورها لتتحول لولائم “فخمة” يفترسها أثرياء (لم يتعبوا بالتأكيد في جمع ثرواتهم!) وحيث يحولها طباخ ماهر لاطباق شهية مقابل 350 ألف دولار للطبق الواحد (كونه مكون من حيوان منقرض نادر) والشرط أن تقدم النقود فورا وكاش… وتجمع في سلة خاصه لأغراض حماية هذه الحيونات النادرة من الانقراض والحفاظ على التوازن البيئي.
*وسأنهي مقالتي البحثية هذه بالحديث عن نموذج “تجريبي” مستقبلي لكيفية مكافحة الفساد وما قد ينتج عنه من تداعيات خلاقة ونتائج مبهرة…فقد شاهدت مؤخرا برنامجا وثائقيا بالقناة الفرنسية الخامسة يتحدث باسهاب عن تجربة “سينغافورة” التنموية والنهضوية الفريدة من نوعها، التي تعتمد على منع الفساد ومعاقبة الفاسدين بلا تردد ومماطلة، كما تعتمد على تعزيز عناصر الفعالية وتطوير المؤهلات وعلى التركيز على عدة عناصر من الدفاع “العسكري والمدني والاجتماعي والسيكلوجي” بمشاركة المواطنين وبلااستثناءآت، كما يتم التركيزعلى ضبط كافة أنواع المخالفات بواسطة الكاميرات المزروعة بأنحاء المدينة…كما شاهدنا بالشريط الوثائقي ناطحات سحاب “سكنية” موصولة ببعضها بالخدمات الشاملة ودور الحضانة و”الستورز والمولات”، كما الحدائق المعلقة ومسارات التريض والركض وخلافه، وقد بدت وكأنها مشاهد من افلام خيال علمي مستقبلي!
*هكذا عندما يأتي زمن ينصف فيه
الناس دونما حاجة للتظلم والشكوى والاستدعاء، كما يكشف فيه عن الفساد بكافة وجوهه المستترة والظاهرة، وتنفضح فيه الأدوات والرموز بصراحة ووضوح…ويتم فيه تقديم الفاسدين للمحاكمات النزيهة بدون اعتبار للمنصب والاسم والعشيرة، عندئذ يصبح الحق العام مقدسا…سنشعر حينئذ أن هناك بالحق جدية والتزاما في محاربة الفساد، وبدون ذلك نبقى جميعا كدون كيشوط الاسباني نحارب “طواحين الهواء” ونفتعل الأحداث …وعندما يتحول الفساد من شبح “غير منظور” الى شيء حقيقي ملموس، حينئذ فقط نكون قد وضعنا انفسنا على الدرب الصحيح الطويل ونصبح دول “قانون ومؤسسات ومساءلة ونزاهة وديموقراطية حقة”، نحارب كل مظاهر تحصين الفساد واستغلال المناصب والتوريث والسرقات والرشى والتهريب وغسل الأموال وتجارة البشر والمخدرات والواسطة والمحسوبيات المتفشية كالأمراض الوبائية بدولنا ومجتمعاتنا البائسة، والتي ينتج عنها حالات ” الفقر والبطالة والاقصاء والقمع والظلم…”
ولكن للفساد سحره الخاص الجاذب، وسيكلوجيا فهو يحقق المتعة لأصحابه من حيث اشعارهم بالتفوق والاكتفاء المادي والمالي، بحيث لا يشعرون أنهم بحاجة ماسة للعمل المواظب طوال حياتهم لكسب عيشهم، بل انهم يشعرون بالاستعلاء والتكبر على باقي خلق الله المساكين، وهذا يشعرهم بالغرور وبأنهم “شطار وأذكياء” وليسوا “مهابيل وسذج ومساكين” كالآخرين، وقد عالجت هوليوود هذه المواضيع بالعديد من أفلامها، وسأطرح هنا نموذجا ساخرا كوميديا لمثل هذه الحالات:
*يروي فيلم “الفريق”(2000) بسخرية مسلية وكوميدية وطرافة قصة أربعة رجال عصابات مسنين، وهم بوبي بارتيلميو (رتشارد درايفوس)، جوي بيستيلا (بورت رينولدز) المعروف ب”باتس”، ثم طوني دوناتو (سيموركاسل) المعروفب”ماوث” (ربما لأنه يثرثر كثيرا)، وأخيرا مايك دونا تيللي (دان هداية) أو”بريك”…يعيش هؤلاء الأصدقاء الأربعة بوئام وتناغم في فلوريدا منذ ان تقاعدوا واعتزلوا الاجرام والممارسات “الغير مشروعة”، وفجأة يقرر الشركاء الأربعة مواجهة الادارة “المتشددة”، التي تهددهم بتحويل شققهم المتواضعة (في ميامي) الى وحدات سكنية فاخرة واخراجهم منها، لذا يقررون اختلاق جريمة قتل مفتعلة في بهو المبنى، وينجحون بسرقة جثة مجهولة من أحد المستشفيات، هكذا تكاد خطتهم أن تنجح تقريبا وتعزز ثقتهم بأنفسهم، بعد ان اهتزت بسبب عدم الممارسة، ولكن الموضوع لا ينتهي بخير كما خططوا، عندما يكتشفون أن الجثة المسروقة تعود لوالد تاجر المخدرات المعروف راوول فينتانا (ميغيل ساندوفال)، عندئذ تنقلب الامور رأسا على عقب، ويصبح همهم الشاغل النجاة بأنفسهم من ملاحقة المجرم العتيد لهم! وتحدث مداخلات غريبة “غير مقنعة” بهذا الفيلم، فهناك فتاة توافق على قتل زوجة أبيها، وتخطط لعملية خطف وهمية قبل ان تشعل النار بسكنها، الذي يقع بالقرب من قصر كبير المهربين “ميغيل ساندوفال”، الذي يفهم بالخطأ ان هناك من يسعى لانتزاع سلطته، هنا تحدث مطاردات واعتقالات وهروب وتعقب لاهث للمسؤولين عن عملية الخطف، كما يتعهد بارون المخدرات “المغرور والمتعجرف” بدفع مئة الف دولار لمن يجلب له راس الرجل المسؤول…ثم ينجح المتقاعدون البواسل بفرض حصار على سفينة “لورد المخدرات”، الذي يحتجز داخلها عددا من صغار المهربين كسجناء رهائن، ويتمكنوا بمهارة من تحويلها للشرطة بعد أن يفرغوا حمولتها من “السيجار الكوبي الفاخر”، ليشعروا بالانتصار وليستمتعوا بتدخينه بشققهم، وليتذكروا الأيام الخوالي ومجدهم “المافيوزي” البائد وحظهم الجيد بالحياة الراهنة!
*أخيرا يغامر باتمان (في الفيلم الجديد/2022) باقتحام العالم السفلي لمدينة “جوثام” عندما يترك قاتل سادي متسلسل وراءه أثرًا من القرائن الخفية. عندما تبدأ الأدلة في الاقتراب من المنزل ويتضح حجم خطط الجاني الاجرامية ، مما يتوجب عليه إقامة علاقات جديدة وكشف الجاني وتحقيق العدالة ضد هؤلاء اللذين تمرسوا بإساءة استخدام السلطة والفساد التي ابتليت بها المدينة منذ فترة طويلة: لكن الشريط يطرح بالمقابل أيضا مشروع “الارهاب والدمار والقتل” في مواجهة الفساد المستشري، ولا اعتقد ان ذلك مقبول “انسانيا واجتماعيا واخلاقيا”…فالشريط يتضمن طرحا انتقاميا وربما اجراميا عاتيا يصل لتخوم تدمير مدينة غوثام بحجة فساد قادتها المسؤولين!
*انه فيلم إثارة طموح ومظلم للغاية يعيد بطله إلى جذوره المليئة بالحيوية.كما أنه شريط لا هوادة فيه لا يترك التفاصيل ، مظلم ، شيطاني ، وديناميكي هو تكرار المخرج “مايكل ريفز مع الممثل روبرت باتينسون” باعتباره جمع و Caped Crusader الذي يكشف عن أدلة “دنيئة” من كل شخصية سابقة متهما الجميع من شرطة وسياسيين بلا استثناء،وهو يعمل هكذا بنجاح ومثابرة ضمن شغف تشويقي جاذب… انها حكاية قاتمة وكئيبة ومخيفة وعنيفة عن اليقظة في مدينة بائسة غارقة في الفساد العنكبوتي والسخرية واللامبالاة … فهناك الكثير من العناصر الجديرة بالثناء في فيلم (The Batman) ، ولكن بشكل عام: تبدو هذه الخلطة محبطة للغاية ومجهدة وتتطلب طول نفس وصبر لمتابعة مجريات الامور…
*وأختم بحثي المطول هذا بسرد تجربتي القاسية الشخصية مع الأخطاء الطبية ومداراتها والتهرب من المسؤولية “الطبية والقانونية”: فقد اصبت في مطلع العام 2002 بجلطة قلبية حادة أثناء سواقتي لسيارتي باتجاه الجمعية الاردنية للجودة، وقد تحاملت على نفسي ووصلت لمقر الجمعية بل وتمكنت من الصعود للطابق الأول، ونقلني الأصدقاء لأحد المستشفيات القريبة الكبرى، فاجريت لي عملية تركيب “شبكية” في الجريان التاجي الرئيسي، لكن مضاعفات المعالجة الطبية “الخاطئة” التي تمثلت باهمال الرعاية والمتابعة التمريضية، كما بلامبالاة وفوقية “الجراح المعالج” أدت لاحقا لاحتقان رئوي حاد ولتجمع الدماء بالرئتين، وكادت ان تتسبب بفقدان حياتي…ولولا الاستدراك والعلاج السريع والتحول لمستشفى آخر، حيث أشرف على علاجي طبيب متخصص بالأمراض الصدرية ونجوت بحمد الله ورعايته…والغريب أن المستشفى الأول تنصل من المسؤولية تماما، وهو الذي يدعي السبق في مجال “جوائز التميز”، والغريب أني ساعدته (طوال العام 2006) كخبير متخصص باحراز “جائزة التميز المحلية” بعد أن فشل مرارا بتحقيقها بواسطة جهوده الذاتية، والطريف أنه واصل باصرار وتبجح وعاقبني للمرة الثانية، منكرا فضلي وجهودي الاستثنائية ناسبا هذا الانجاز لجهود فريق الجائزة… وهكذا لدغت من “نفس الجحر” مرتين وكأنه قدر لا مناص منه!
*ابادر هنا في ختام هذا البحث الحافل بالأمثلة الدالة والتجارب الواقعية والمقتطفات السينمائية، بالتنسيب لتدريس النزاهة كمساق تربوي دراسي في مدارسنا وجامعاتنا، لأن الكثير من عامة وخاصة الناس يعتبرون الغش والاهمال الوظيفي والفساد بكافة صنوفه نوعا من الشطارة والفهلوة والذكاء…كما أن البعض للأسف يعتبره فعلا “نخبويا-فئويا” مخصصا للأذكياء وخاصة القوم…حتى أن السينما والدراما التلفزيونية قد نجحت باحاطة الشخصيات الفاسدة والشريرة” بهالة “بهية” من الغموض والسحر والابهار والجاذبية الكاريزمية” اللافتة”
ودمتم سالمين.
*وهناك صورة معبرة لسكان البرازيل يعلقون مسؤلاً سياسيا على عمود احتجاجاً على نهبه للمال العام… فكم عمود نحتاج في بلادنا؟
*مارلون براندو” كان ممثلا مشاغبا وصعبا ومتمردا ولا يميل كثيرا لحفط النصوص…وقد وضع له المخرج كوبولا لوحات كبيرة أمامه ليقرأ نصوص فيلم “العراب”الشهير…وتطورت هذه التقنية “المضللة” كثيرا (وأصبح من الصعب كشفها) وأصبحت تستخدم من بعض القادة والمشاهير والأدعياء ومرشحي الانتخابات بأشكالها لاعطاء الانطباع بأنهم خطابيون متمرسون لا يقرأوون من الورق أمامهم وانما هم حافظون لكلمتهم ومؤثرون وصادقون، كذلك فنحن نلحظ ذلك لدى مذيعي ومذيعات المحطات الفضائية…فأحذروا الدجل والتضليل والانبهار ولا تصدقوا كل ما ترون!: راجيا أن أكون قد وفقت أخيرا في اصدار وتعميم ونشر بحثي العميق هذا للمصلحة العامة والتوعية والتنوير ومتعة القراءة…والله من وراء القصد.
كاتب وباحث وناقد سينمائي/عمان-الاردن*