صورة مدن ما بعد الحداثة في السينما العالمية – الدكتور عادل عامر
برزت في الستينات والسبعينات أعمال حديثة، لم يكن عمرها السينمائي طويل الأجل، ففي هوليوود أجهض إنتاجها بفعل سياسة السوق، وفي اوروبا تعرضت لمخاطر الرقابة المُزدوجة وحوصرت من قبل الدكتاتورية. وتلازم الأمران لإحباط استمرار تقاليد أفلام ايزنشتين وبونويل ودراير ولانغ وغيرهم، ومع أن أفلام سينما الحداثة انتشرت في العالم منذ العام 1970 أصبحت افلام ساتيجيت راي وأكيرا كيروساوا وغلوبير روشا وأندريه فايدا واندريه تاركوفسكي، كالحداثة نفسها، كونية.
لقد اعتمدت السينما في وجودها الفاعل على استيعاب فكرة العالم الافتراضي الفيلمي من قبل المتلقي من أجل وجود بنية ثقافية واضحة المعالم بين صانعي الأفلام وبين الجمهور. ولا يمكن التعامل مع البناء الفيلمي ما بعد الحداثي دونما تناول الواقع الافتراضي الذي أمسى إحدى السمات العامة المسيطرة على الواقع المنشئ له. تدرس الدراسات الثقافية الثقافة من حيث أسسها التاريخية و صراعاتها و تحلل النصوص بالتركيز على المعنى الذى تصنعه تلك النصوص عن طريق دراسة شكلها و بنيتها و سياقها و أسسها النظرية ،
و ترتبط الدراسات الثقافية و تتداخل مع عدد من المجالات و الاختصاصات كالنظرية الاجتماعية و النظرية السياسية و الاقتصاد السياسي و النسوية و الفن و الأفلام السينيمائية ، و ينصب اهتمام الدراسات الثقافية على دراسة العلاقات بين أشكال النصوص و الممارسات الثقافية من ناحية و بين كل ما هو غير ثقافي من ناحية أخرى مثل الاقتصاد و العلاقات الاجتماعية و الإثنية و القضايا القومية و قضية الهوية و الجنس ، فهى تحليل ملتزم للثقافات المعاصرة و هى ليست محايدة و تسعى لتعزيز التجارب الثقافية و تحقيق المتعة عن طريق مجموعة من الصيغ الثقافية بشكل جزئى من خلال تحليل هذة الصيغ و تحليل أسسها الاجتماعية
في مجال السينما نجد أنّ الوضع التأريخي لتجلّي ظاهرة «ما بعد الحداثة» يتسم بالإبهام والغموض وعدم الوضوح، وتتمثل في إنتاج المخرج (جان لوك جودار) ذات الطابع البرختي وتستند في بنائها على الدراما الملحميّة ذات الطابع التقريبي/التبعيدي.
حيث استخدام «جودار» أسلوب القطع الحاد فيما بين اللقطات، ممّا أوجد قفزات بين اللقطات والأحداث المعروضة على الشاشة، فهو يقطع اللقطات ويلصقها ويعيد قطعها ولصقها، ويضع يده على حركات ونظرات ومواقف، كل هذا وفقاً لملاحظاته التي لا تتوقف.
وتنطلق جمل المونولوج أو الحوار واحدة بعد الأخرى للعلاقة بينها، بحيث تكون غير مفهومة، ولكنها تنسجم انسجاماً تاماً مع أجواء الصور الموضوعة بإهمال على الشاشة.
بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية، هي المفصلة الزمنية الأساسية في تجلي الإرهاصات الأولى «ما بعد الحداثة» لدى بعض المفكرين والفنانين، لذا قاموا بربط التغيرات السياسية والاقتصادية والإعلامية التي نجمت عن مرحلة ما بعد الحرب الثانية بالعديد من التحولات والتغيرات الفنية التي أتت بعدها.
إنّ جنينية هذه الفكرة تقع أبعد من هذا التاريخ، إنها كما يقول «أموس فوجل» يبدأ الهدم في السينما عندما تغمر العتمة صالة السينما وينبجس الضوء من سطح الشاشة، إنها نقطة انطلاق في مسيرة التدمير الطويلة والشاقة.
حيث تصبح السينما هنا ميدان سحر تتحد فيه العوامل السيكولوجية والبيئية لخلق أفق مفتوح أمام الدهشة والإيحاء، لتحرير الفعل الباطن، إنها الموضع المقدس حيث الطقوس العصرية المتأصلة داخل ذاكرة تمتد جذورها إلى ماضٍ سحيق ورغبات كامنة تحت نطاق الوعي، تمارس في الظلام وبمعزل عن العالم الخارجي. إذا كان السرد Narative يعرّف بأنه: «الحديث، أو الأخبار لواحد أو أكثر من واقعة حقيقية أو خيالية، من قبل واحد أو اثنين أو أكثر من الساردين، وذلك لواحد أو اثنين من المسرود لهم» فإننا نجد أن أفلام «ما بعد الحداثة» لم تغيّر شيئاً من هذا التعريف.
وعندما اعتمدت الحبكة «ما بعد الحداثية» على تقديم المزيد من التعقيد والغموض في سير الأحداث، فإنها بذلك لم تخرق التعريف التقليدي والمتعارف عليه للحبكة ذٌُُّ بأي وسيلة من الوسائل، بل إنها التزمت بنصه. وعلى هذا النحو نجد أن «ما بعد الحداثة» لم تدمر أيّا من تعريفي السرد أو الحبكة، ولكنها سعت لإيجاد معادل بصري ودرامي يتناسب ويعبر عن حالة هذا العالم الذي يعيشه البشر والذي يريد صانعو الأفلام التعبير عنه.
للسينما المصرية تاريخ طويل من آلالاف الأعمال الهامة و الأكثر تأثيرًا فى الوطن العربي و قد مرت بمراحل متعددة منذ بداية القرن العشرين و العروض المحدودة ثم مرحلة السينما الصامتة ثم الناطقة ، ثم مرحلة استوديو مصر ، و قد ازدهرت السينما المصرية كثيرًا بعد الحرب العالمية الثانية و إنشاء المعهد العالى للسينما حتى تم تأميمها بإشاء المؤسسة العامة للسينما ، ثم ظهرت أفلام كثيرة فى فترة السبعينيات كان بينها أعمال واقعية تؤرخ للحرب و الانتصار ،
ثم فترة الثمانينيات من القرن العشرين و التى مثلت نقلة كبيرة فى السينما المصرية حيث غلب عليها تيار الواقعية الجديدة الذى مثل ثورة على السينما التقليدية و كان رواده جيل جديد من السينيمائين الشباب تميزوا بواقعيتهم و تناولهم قضايا مجتمعية هامة بأسلوب محترف ، أبرزهم التيار المخرج محمد خان الذى امتزجت واقعيته بقدر من الرومانسية و ارتبط بمجتمعه و شغلته قضاياه ، و قدم تجاربًا جديدة و هامة تعتبر من أهم الأعمال فى تاريخ السينما المصرية و العربية .
لسينما ليست مجرد آلات للعرض و عمليات تقنية بل هى منتج ثقافى بالأساس يُنتج داخل مجتمع و يتأثر بكل ظروفه ، فى كتابة “نظرية الفيلم” يتحدث كراكور عن أن وظيفة السينما الرئيسية توثيق الواقع عن طريق التصوير، وهنا الفنان يتدخل فقط لنقل الواقع بمصداقية و لا يغير فيه فتنتج الصورة البصرية بكل مكوناتها الاجتماعية ، ويكون الفيلم وسيلة جيدة لتسجيل الأحداث و تكون وظيفته الرئيسية أنه يعمل كوثيقة تاريخية و يقوم بالشهادة الاجتماعية ،
أما أدجر مورجان فيرى أن الفيلم يخلق أفقًا آخر فالفيلم ليس ناقلًا للواقع فقط بل هو نتاج تجربة إنسانية بما تحمله من ثقافة المجتمع ، فالسينما تربط المشاهد بالفيلم وتربط الفيلم بنفسية المشاهد فى عملية إدماج وعقلنة اللاواقعى من خلال الواقع ، فالسينما وثيقة أكثر مصداقية فى نقل الواقع و فى هذة العملية لا يمكن فصل الذاتى والموضوعى فى السينما فهناك تأثير لذاتية وشخصية السينمائي .
و من رواد سوسيولوجيا السينما بيير سورلان والذى اتخذ موقفًا وسطًا بين من يعتبرون السينما واقعًا كليًا ومن يعتبرونها خيالًا كليًا ، فالفيلم ليس مجرد قصة أو استنساخ للواقع بل إخراج سينمائى اجتماعى ، فالفيلم منتج إبداعى تنتجه مجموعة معينة بقيادة المخرج
و يستهدفون به مجموعة من المتلقين ،كما إنه إنتاج ثقافى يُعبر عن توجهات و انتماءات جماعة اجتماعية معينة وينتج بشكل جماعى تعاونى ، والفيلم لايعكس الواقع بقدر ما يعكس مايراه صناع الفيلم على أنه الواقع، وفى النهاية لايمكن فهم السينما بعيدًا عن المجتمع فالفيلم وثيقة تحمل معلومات ومعطيات و أحداث اجتماعية حيث إنه إخراج سينمائى اجتماعى
تتعدد المداخل فى إطار التحليل الثقافى و يمكن إيضاح أربعة منها هم : المدخل الذاتى الثقافة هنا هى عبارة عن الصياغات الذهنية التى يخلقها أو يتبناها الأفراد و تأويل الفرد للواقع ، فتشمل الحالات الذاتية للأفراد و رؤيتهم للعالم
و يركز هذا المدخل على آراء و معتقدات و اتجاهات و قيم أفراد المجتمع ، المدخل البنيوى على عكس المدخل الذاتي الثقافة هنا لا تتمثل فى الحالات الذاتية للأفراد بل تتمثل فى موضوعات قابلة للملاحظة فتتمثل فى خطابات يمكن سماعها أو قراءتها و تتمثل أيضًا فى حركات أو أفعال أو حوادث يمكن رؤيتها و تسجيلها ، فهذا المدخل يركز على الأنماط و العلاقات بين عناصر الثقافة و الحدود الرمزية للثقافة
و فئات الخطاب التى تعرف هذة الحدود ، المدخل التعبيري و يركز على السمات التعبيرية و الاتصالية للثقافة من حيث تفاعلها مع البناء الاجتماعى و تعبيرها عن العلاقات الاجتماعية ، حيث توصل الثقافة المعلومات للأفراد و لكن لا يركز المدخل على المعلومات التى تنقل للأفراد مباشرة بقدر الرسائل التى تتضمنها الطرق التى تنظم بها الحياة الاجتماعية
و اختيار كلمات الخطاب و المدخل المؤسسى حيث تتشكل الثقافة هنا من فاعلين و منظمات تحتاج موارد و تؤثر فى توزيع تلك الموارد ، فالثقافة لا تُنتج و تُدعم بإضافة التعبيرية و الدرامية على الالتزامات الأخلاقية فقط بل ينتجها فاعلون ذوو قدرات خاصة و تستمر عن طريق منظمات تعبئ الموارد لنقل و تقنين
—
الدكتور عادل عامر
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير أمن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان